انتشرت كلمات التبجيل والتعظيم للطريقة التي تكلم بها بنكيران في البرلمان أثناء رده على فرق المعارضة، وأغلب من تكلم وتحدث وكتب اعتبر أن بنكيران جاء بالطريقة المثلى التي لم تكن لأحد قبله، وتوزعت قبائل المساندين بين من اتفق معه شكلا ومضمونا وبين من اتفق معه شكلا واختلف معه مضمونا. وبما أننا تطرقنا كثيرا لتصريح النوايا الذي تقدم به بنكيران فلن نعود إليه اليوم ولكن نناقشه من حيث الشكل. بنكيران لم يفتح الفتح المبين بل ارتكب جريمة تحويل مؤسسة دستورية ومكان إقناع المخالفين والمعارضين إلى حلبة للسيرك والتهريج، أخطأت الطريق من جامع الفنا إلى شارع محمد الخامس بالرباط، فالمكان ليس مكان تنكيت ولكن مكان الخطاب الدقيق. فالطريقة التي تكلم بها بنكيران هي طريقة ديموغاجية تستعمل في المهرجانات الخطابية قصد إقناع الناخبين أو استمالتهم، فهذا النوع من الخطاب غير موجه للعقل، والبرلمان مكان للمراقبة والتشريع، فاللغة التي تستعمل فيه هي لغة العلم وليست لغة "الحلقة"، فالبرلمانيون والحكومة تتقارع في هذا المكان من أجل مشاريع وبرامج وليس من أجل من يكسب أكثر من الأصوات، وبالتالي فإن اللغة التي استعملها بنكيران ليست إبداعا صحيحا وسليما بقدر ما هي تغطية على الفشل حتى في إنتاج البرنامج فبالأحرى تنفيذه. أما كون بنكيران هو أول من استعمل لغة قريبة للشعب فهي كذبة لا تستطيع المقاومة أمام حقائق التاريخ القريب. من يقول هذا الكلام يشارك العدالة والتنمية في تدمير الذاكرة لصالح ذاكرة مصنوعة وفق مقاس اللحظة. ليست لنا ذاكرة مثقوبة حتى ننسى اللحظة التي وقف فيها عبد الرحمن اليوسفي أمام البرلمان لتقديم التصريح الحكومي، ولم تكن الحكومة مطالبة بتقديم برنامج كما ينص على ذلك الدستور الجديد. ولا نعتقد أن بنكيران يستطيع أن يباري اليوسفي في الخطابة ولا في أشياء أخرى. نتذكر ذاك اليوم الذي وقف فيه اليوسفي ليخاطب البرلمانيين وهو وزير أول، وليس في تاريخه شيء من هذا. فالرجل مناضل ثوري ومعارض شرس ويوم قدمه الملك الراحل الحسن الثاني لأبنائه قال لهم أقدم لكم الرجل الذي كان يريد قتلي. وكان اليوسفي دقيقا في خطابه، طبعا في حدود ما كانت تتيحه الوثيقة الدستورية وضمانات التناوب التوافقي، وتبين من عناوينه الكبرى أنه يشكل برنامجا جديدا، ولا يستشكل علينا أولاد العدالة والتنمية بالنتيجة لأن الزمن ليس هو الزمن والظرف ليس هو نفسه وحتى المحددات والصلاحيات ليست هي ذاتها، وتضمن التصريح الذي تقدم به اليوسفي تحديدا دقيقا لعمل الحكومة وفق محاور محددة. ولم يكن مطلوبا من اليوسفي، أن يسقط في التهريج كي يقال عنه إنه شعبي وخطابه قريب إلى الشعب. ولا نريد ذاكرة مثقوبة تجعل بداية التاريخ هي العدالة والتنمية، فما قدمه اليوسفي كان متقدما ودقيقا على ما قدمه بنكيران، وما جاء به رئيس الحكومة لا يعدو أن يكون نوايا التي ليس لها مكان في السياسة المبنية على استغلال المعطيات العلمية.