كنا نود أن تكون المعارضة البرلمانية معارضة قوية وبناءة وذات مصداقية ، وأن تكون القضايا التي تثيرها قضايا حقيقية ، لأنه كما أن المواطن اليوم يرقب ويراقب عمل الحكومة فإنه يرقب ويراقب عمل المعارضة ، لولا أنها قد انطلقت منذ البداية انطلاقة غير موفقة وصدق عليه قول القائل : " قالو ليه باك طاح قال ليهم من الخيمة خرج مايل ". كنا نود لو أن المعارضة قد وفقت في اختيار القضايا التي تبرز فيها قدراتها وكفاءتها السياسية في المعارضة لولا أنها منذ البداية كشفت عن أنها تعاني من توعكات بنيوية وتفتقد إلى لياقة " بدنية " تجعلها قادرة على رفع الإيقاع ، خاصة أن عددا من مكوناتها لم يكن مهيأ للعب في ملعب المعارضة بل وجد نفسه فيها دون سابق إنذار مثل متسابق تعود المنافسة وسط قاعات مغطاة مكيفة ، فاضطر إلى السباق على الطريق أو أن يجري في العدو الريفي دون تدريب ملائم أو تسخين كافي . التوعك الأول كانت أول طلقة فارغة هي قضية التنافي بين المسؤولية الوزارية للسيد كريم غلاب وبين ترشيحه لرئاسة مجلس النواب في خلط واضح لا يقوم به الطلبة المبتدئون في القانون الدستوري بين التنافي وبين الأهلية حيث الأهلية مانعة من الترشيح أصلا في حين أن التنافي هو وضع لاحق يحتاج إلى إجراء بعد من أجل تصحيحه أي حينما يكتسب برلماني مثلا صفة وزير فتسقط الصفة الثانية الصفة الأولى ، أو حين يكتسب وزير صفة برلماني فيكون عليه أن يرفع هذا التنافي ضمن الآجال والمسطرة القانونية المحددة لذلك . وإلا كيف يمكن للنائب البرلماني أن يسارع إلى الاستقالة من البرلمان وهو ليس بعد متأكدا من تنصيب حكومته بعد التعيين الملكي فيكون كما يقول المغاربة في مثلهم الشعبي : " لا حمار لا ستة فرنك ". وبعيدا عن التأويلات التي يمكن أن تتفاوت لنص الدستور ، فليس هذا بيت القصيد ، إنما بيت القصيد ، هو أنه في الوقت الذي كان فيه بعض نواب المعارضة يرفعون عقيرتهم دفاعا عن الدستور كما يقولون ، مستغلين تسامح الرئاسة من خلال نقط نظام في جلسة دستورية مخصصة للتصويت ولا مجال في الأصل لنقط نظام اللهم إذا تعلق بخلل في تسيير الجلسة ، خارقين بذلك النظام الداخلي للمجلس الذي صادق عليه المجلس الدستوري أو على الأقل الأعراف المعمول بها داخل المجلس كان هناك وزراء يجلسون في الصفوف المخصصة لأعضاء الحكومة بالمجلس ، وزراء من نفس بعض فرق المعارضة يجمعون بين صفتين : صفة وزير وصفة نائب برلماني ، وكان وجودهم بهذه الصفة يفضح مصداقية الاعتراض على ترشيح السيد غلاب ، وكان المتتبعون والمراقبون يتندرون ب " المعارضة " وبعضهم يستدل بالآية :" أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون " وبالآية :" يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " في حين كان بعضهم الآخر ممن لا يحبذ الاستدلال بالآيات القرآنية لتوصيف خلافات ذات طبيعة سياسية يكتفون بالقول : إنها أزمة المصداقية لدى المعارضة . التوعك الثاني ولأن الأمر لم يكن زلة بداية ، انخرط فيها بعض البرلمانيين المبتدئين الذين حاولوا أن يسجلوا حضورهم منذ اليوم الأول، وأن الأمر لا يتعلق بتوعك ناتج عن عدم أخذ وقت كافي للتسخين ودراسة المعطيات في الميدان وهضم قوانين اللعبة ، وإنما يتعلق بتوعك بنيوي ، فقد كررت " المعارضة " التي وجدت نفسها في المعارضة دون تدبير سابق ، أو نسي بعضها ثقافة المعارضة ورشاقتها وآلياتها ، حيث انقضت على فرصة اعتبرها سانحة لتسجيل "خرق دستوري جديد" ، يتمثل كما قال بعضهم في الترحال السياسي وإطلاق طلقة فارغة ثانية هي عدم قانونية تشكيل فريق من الفرق النيابية . ومن غريب الأمور أن يكون من بين الذين انبروا للتنديد بهذا الخرق الدستور نواب فريق ولد قبل ولادة حزبه السياسي ، وشهد أكبر وأبشع عملية ترحال سياسي في التاريخ المعاصر . ومن جديد تكلم المراقبون عن أزمة مصداقية المعارضة بينما استشهد البعض بالآيات المشار إليها من جديد . وتواصلت الطلقات الفارغة حينما انتفخت أوداج بعض الزعماء الحزبيين والرفاق المناضلين عن الانتكاسة التي عرفتها تمثيلية المرأة . ولأن مصداقية المعارضة لا تأتي من انتفاخ الأوداج أو التظاهر بالحرص على المناصفة التي "خرقت فيها التركيبة الحكومية الدستور" ، ولأن المواطنين ليسوا أغبياء أو فاقدي الذاكرة ، فإن كثيرا منهم وهو يؤكد من جديد على ضعف مصداقية خطاب المعارضة أو يستدل بالآيات المشار إليها قد تواردت على أذهانهم عدة تساؤلات كشفت أن الأمر لا يتعلق بطلقات خاوية أو بتوعك طارئ ناتج عن ضعف في التسخين ، بل عن ضعف بنيوي ينبئ عن ماهية المعارضة الحالية وخرجاتها المتوقعة مستقبلا من قبيل : لم لم توجد مثلا من الاتحاد الاشتراكي أية وزيرة في الحكومة السابقة ؟ ولم تلك الانتكاسة في التمثيلية النسائية الاتحادية بالمقارنة مع الحكومات السابقة ؟ لم لم توجد من بين الوزيرات في الحكومة السابقة إلا وزيرات إما من الأحزاب الداخلة في الأغلبية الحكومية اليوم ( الأسرة الصحة الطاقة والمعادن بتجاوز) ، بينما كافة وزيرات تلك الحكومة إما مستقلات ( التعليم الخارجية ) ؟ عن أي انتكاسة نتحدث وأحد أبرز أحزاب المعارضة الحالية هو الذي سبق إلى هذه البدعة ، ومن ثم يطرح سؤال المصداقية من جديد في هذه المسألة ؟ ثم لم تدافع أحزاب المعارضة الحالية التي كانت في الحكومة السابقة عن مطالب حركة رفع تمثيلية النساء إلى الثلث واكتفت وهي في موقع الحكومة بمضاعفة الكوطا النسائية إلى حدود الستين ؟ خاصة أن الدستور قرر أن المناصفة هو توجه ينبغي أن نصل إليه بالتدرج وأنه ينبغي أن تحدث له هيئة حتى يكون مضمونه مضمونا ديمقراطيا حقا لا أن يكون ديكورا ، أو تسجيلا لموقف ولا تزال بين أيدينا بعض التعيينات الوزارية النسائية التي لم ترق إلى تشريف المرأة المغربية ؟ لماذا لم لم تقدم أحزاب المعارضة القدوة من نفسها و تعمل بمبدأ المناصفة مباشرة بعد إقرار الدستور في إقرار لوائحها المقدمة للانتخابات وخاصة على رأس اللوائح ما دامت قد انتقدت بحدة على الحكومة الحالية مخالفته للدستور ؟ لماذا لا تعمل به داخل هيئاتها الحزبية حيث تملك أن تقرر في استقلال عن إكراهات تشكيل الحكومة ، وتتحمل فيه المسؤولية وهي التي حملت المسؤولية في ذلك إلى الحكومة التي تقطع أولى خطواتها نحو التنصيب ؟ وحيث إن مؤتمرات عدد منها قادمة في الشهور المقبلة هل تكذب هذه الأحزاب المعارضة توقعاتنا وتطبق مبدأ المناصفة ؟ التوعك الثالث: وآخر التوعكات هو إثارة معارضة " عاصفة " في فنجان من قهوة باردة لا توقظ نائما ولا تنبه وسنانا، وإنما تبعث على الشفقة وتكشف عن بؤس المعارضة في انطلاقتها غير الموفقة . قالت المعارضة إن تسلم الحكومة الجديدة للمهام من الحكومة المنتهية ولايتها فيه خرق للدستور، لأن الحكومة الجديدة لم تنصب بعد برلمانيا . ولكم أن تحكموا على مصداقية هذا الطرح " المعارضاتي " الجديد ، خاصة أن الدستور يسميها حكومة ، ولا ندري لأي شيء تصلح حكومة معينة إن لم تتسلم من المهام ما يجعلها قادرة على إعداد برمجها ؟ وهل كان ينبغي على رئيس الحكومة أن يضرب موعدا يوميا مع "وزرائه" المعينين ، حفظهم الله من العين ، في مقهي مابيلا أو غيرها من مقاهي الرباط أو في المقار الحزبية من أجل تحضير فريق عمله و برنامجه ، ونفس الشي ء بالنسبة لوزرائه ؟ ثم ما هي المهام التي سلمتها حكومة تصريف الأعمال للحكومة المعينة ، كي نحكم أن تسليم المهام خارج نطاق الدستور ، والأمر أن فاقد الشيء لا يعطيه ، وأنه إذا صدقنا أن الحكومة المعينة ينبغي أن تدخل إلى الثلاجة في انتظار التنصيب البرلماني ، فما نقول عن حكومة أدخلت غرفة العناية المركزة ، وفقدت كل الصلاحيات اللهم إلا ما كان من صلاحية تسيير الأعمال ، وعدد من الأسئلة التي يمكن أن يطرحها أي عقل سليم ناهيك عن أن يكون مبتدئا أو متخصصا في القانون الدستوري ؟ وأخيرا وليس آخرا وبالعودة إلى سؤال مصداقية المعارضة ، فإن المغاربة يتذكرون لأنهم لا يعانون من فقدان الذاكرة أن حكومة السيد اليوسفي كما أشار إلى ذلك بعض الباحثين قامت سنة 1998 بإصدار مرسوم- وهي غير منصبة بعد من طرف البرلمان ودون التداول بشأنه في المجلسين الحكومي والوزاري- برفع مبلغ الرسوم الجمركية عن واردات القمح كقرار يقع خارج نطاق تصريف الأمور الجارية . يبدو إذن إذا كان دور المعارضة الأصلية هو نقد الأداء الحكومي و الوقوف على ثغراته ، من أجل تجويده ، فتكون بذلك المعارضة بناءة ، فإنه من اللازم حين يبدو أداء المعارضة متوعكا توعكات بنيوية ، أن تتم معارضة المعارضة ونقد أدائها حتى لا تفقد كامل مصدقيتها لأن أول متضرر من ضعف مصداقية المعارضة هو الحكومة نفسها وبالتبع المصلحة الوطنية العليا . الدستور يا ناس يتحدث عن حكومة ، حكومة معينة وحكومة منصبة ، لكن الحكومة حكومة معينة ، صحيح أنها لا تكتسب كافة الصلاحيات التنفيذية إلا بعد التنصيب بعد مصادقة مجلس النواب على برنامجها الذي تعرض خطوطها العريضة ولكنها حكومة ، وتسمي دستوريا حكومة وهي ناسخة لحكومة تصريف الأعمال ، وبمجرد تعيين الحكومة تنتهي حكومة تصريف الأعمال كي تبدأ الحكومة المعينة في إعداد برنامجها في مقار الحكومة وبإدارة الحكومة وبموظفيها لا في الهواء الطلق أو باليما ..