المسائية العربية خلال العشرية الأخيرة من القرن العشرين، وفي 4 فبراير 1998، دفع الملك الراحل الحسن الثاني حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إلى قبول تدبير الشأن العام للبلاد، وبالضبط يوم 14 مارس 1998، قَبِل المناضل الكبير الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي تحمل مهام الوزير الأول في الحكومة السادسة والعشرون، وأعود بالذاكرة شيء ما إلى الأمس القريب لأتذكر مقولة المغفور له الحسن الثاني: "سيظل هذا اليوم ( 14 مارس 1998) في ذاكرة المغرب الجديد، يوما تاريخيا للتناوب الذي طالما بحثنا عنه، وسهرنا على إيجاده، وبلورناه أيضا في المدة الأخيرة في خطاب العرش، وها نحن اليوم، كما ترون، كيف قدمنا جماعة وأفرادا فكرة ناجحة عن تدبير شؤون الدولة" وعلى هذا الأساس، اتُفق على تسمية الحكومة ب. "حكومة التناوب"، الشيء الذي جعل الحزب الذي ظل يناضل تحت يافطة المعارضة منذ انشقاقه عن حزب الاستقلال، يفقد الشعبية التي لم يكن لها نظير في ذاك الوقت، والتي كان يحظى بها من لدن الشعب المغربي، الذي كان متعاطفا مع الحزب إلى حد كبير، لِما كان يتمتع به من سمعة طيبة، وما كان يقوم به نوابه تحت قبة البرلمان وهم في صف المعارضة، من مجابهات جريئة مع الوزراء الذين كانوا عندذاك تحت رئاسة الوزير الأول عبد اللطيف الفيلالي وغيره .. ولكن، بارتداء الحزب لجلباب الأغلبية، خسر كل ما حصل عليه من ثقة .. ومرت المرحلة، وأخفق الذين تحملوا الحقائب الوزارية على جميع المستويات .. ولم تثن هذه الخسائر الحزب عن مشاركته في الحكومات التي تلت لعبة التناوب التوافقي، ولا يمكن أبدا أن تنمحي من ذاكرتي صورة النائب فتح الله ولعلو (برلماني يمثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) الذي كانت طاولات مجلس النواب تئن تحت (ضربات) يديه وهو مصاب بنوبة هستيرية أثناء تقديم سؤال ما، والعجب العجاب أن الأخير كمثل زملاء له، خرس لسانه، وهمد حماسه، وشل ثقل (حقيبة) المالية والاقتصاد حركاته، ولم يعد يقوى على النطق، وتفرغ فقط لحساباته وحسابات الموالين له. وقد يذهب البعض للقول: "ما العلاقة بين هذا وذاك؟" أقول .. انه منذ ذلك الحين، بل وقبله بقليل، تعاقبت حكومات على الشأن العام بالمغرب، وكان مصيرها كلها الفشل الذريع في تدبير شؤون البلاد، بحيث عرف المغرب في عهد الكثير من بعضها عدة مشاكل، على رأسها ولأول مرة ضربة الإرهاب التي زلزلت المملكة سنة 2003، حيث سقط العديد من الأبرياء، ومرد ذلك إلى الأداء الرديء لحكومة عباس الفاسي، الرجل الذي كثرت فضائحه السياسية وهو لازال يحمل على عاتقه ثقلا كبيرا .. يتمثل في مخلفات فضيحة "النجاة" الشهيرة التي تعد (صفقة القرن)، التي لازالت تلاحقه، بل وستلاحقه ما دام حي يأكل الطعام .. لما عرفته من عمليات انتحار ذهب ضحيتها العديد من الشباب، جراء اليأس و(الحكرة)، أضف إلى ذلك ملف الراحلة عائشة المختاري الذي لازال أمام القضاء الزجري، و .. و .. علاوة على أن السيد الوزير الأول المحترم المنتهية ولاية الحكومة التي كان يقودها، ما كان يجرأ على مواجهة المواطنين، الذين تعاهد معهم على الكثير من الأمور إبان الحملة الانتخابية التشريعية التي قادته إلى ترأس الحكومة، بسبب عدم إيفائه بالتزاماته، ثم أنه لم يعمل بتاتا على تطبيق برنامجه الانتخابي، الذي سطره قبل الاستحقاقات التشريعية المذكورة رغم ما نشر عبر موقع "مكاسب" الذي أنشأ لحاجة في نفوس (...) ناهيك عن ما عرفته ولايته من تلاعبات ومن فساد استشرى بشكل كبير في مختلف القطاعات، أذكر البسيط منها .. قطاع الإعلام العمومي الذي لازال الذين يتحكمون في زمامه يضحكون حتى الآن على ذقون المغاربة الذين من جيوبهم تمول القناتين (الأولى والثانية)، ابتداء من عرض الأفلام الأجنبية التركية وغيرها المدبلجة الفاسدة شكلا ومضمونا، والتي تساعد سريعا على نشر الإنحلال الخلقي بين صفوف الشباب على الخصوص، وتساهم مباشرة في فساد المجتمع، ومرورا بإغراء المواطنين وتحريضهم على القمار لجني الملايين، من خلال طرح أسئلة تافهة لا تليق البتة أن تقدم حتى إلى معشر أطفال المستوى الأول من التعليم الأساسي، إنما تبرهن على مدى الاستخفاف بعقول النظارة، واستنزاف أرزاقهم، بدعوى أنهم بمجرد اتصالهم عبر(SMS)سيحصلون على جوائز مهمة، والتي يبقى علم حقيقتها عند الله، وما ذلك في حقيقة الأمر إلا لأكل أموال الناس بالباطل، مع العلم أن ما تحويه طرق هذه المسابقات يخالف الشرع والدين الحنيف، لأنها أصلا تهدر المال والوقت فيما لايفيد .. ولا ننسى أيضا التضييق على الحريات، وبالخصوص على حملة هم حرية الرأي والتعبير، وما عرفته الساحة الصحفية من إغلاق للصحف، وقطع أرزاق المجردين من أي سلاح ما عدا أقلامهم التي يعبرون بها عن آرائهم وأفكارهم، وما توج حقا هذه المعاناة في عهد الحكومة المنتهية ولايتها، هو الفضائح التي قدر لها أن تكون من أبرز ما زركش سجل عباس، والتي تجلت في جر خدام مهنة المتاعب إلى السجون ومحاكمتهم بفصول القانون الجنائي بدل قانون الصحافة، وعلى هذا الأساس، جاء العنوان أعلاه. وبما أن حزب العدالة والتنمية الذي طالما نادى تحت قبة البرلمان لما كان خارج اللعبة، طالما نادى بمحاربة الفساد والمفسدين، واحترام حقوق الإنسان، وحيث أن الأقدار شاءت اليوم أن تأتي نتائج الانتخابات التشريعية 2011 به إلى رئاسة الحكومة، وجمعته الصدف مع حزب "آل الفاسي"، بل مع (العائلة) التي هيمنت على الحزب طويلا وعلى عدد من مرافق وقطاعات الدولة، والتي رغم ذلك لم تفلح في تسيير الحكومة السابقة كما كان يتوقع المغاربة، نظرا لعدة اعتبارات .. ألخصها في سياسة الامتيازات، وبخاصة في مجال تفويت أراضي الدولة للمحظوظين من المقربين، ومنح رخص كل شيء لأناس يعرفون من أين تؤكل الكتف .. واللائحة طويلة، ليقفز السؤال التالي إلى ذهن المغاربة، هل يستطيع بن كيران وهو متحالف مع هذا الحزب الذي في عهده خرج الشباب لأول مرة في تاريخ المغرب إلى الشارع وهم يحملون شعارات ثورية تنادي بإسقاط الفساد، وتطالب برحيل بعض الوجوه .. هل يستطيع مثلا أن ينفذ ما جاء في برنامج حزبه إبان الانتخابات التشريعية الأخيرة، أو بالأحرى ما وعد به الناخبين الذين ساندوه، هل يعمل على فرض 3000 درهم كحد أدنى للأجور، والوصول بنسبة النمو إلى 7 % ، ومواصلة بناء الدولة الديمقراطية ومكافحة الفساد وبناء اقتصاد وطني قوي ضامن للعدالة الاجتماعية، وإحياء وتجديد نظام القيم المغربية الأصيلة على أساس الهوية الإسلامية .. وتخفيض نسبة البطالة إلى7 %، وتقليص نسبة الأمية إلى 20 % وغيرها من الإصلاحات .. وبمعنى آخر هل يملك رئيس الحكومة الحالية من الشجاعة ما يجعله يوقف عجلة من أوصلوا المغرب إلى هذا الوضع الذي لايحسد عليه ليدافع عن البرنامج الذي سطره، ثم هل الوزراء المقبلين المنتمين أصلا للعدالة والتنمية لهم عزيمة قوية لوضع التغيير الذي طال انتظاره بين أيدي المغاربة، أو أن الكراسي الوثيرة ودفء المكاتب الوزارية الفسيحة، قد تنسيهم الإصلاح الذي كان يقض مضاجعهم أيام كانوا لعباءة المعارضة لابسين .. وبصيغة أخرى هل يقدر بن كيران ومن معه على إصلاح ما أفسده سالفه وجوقته، والحسم في القضايا الساخنة التي تعرفها الساحة الوطنية ..؟ من أجل تأسيس مرحلة جديدة بشيء من التنازل عن المصالح الشخصية والزبونية .. وضمان المزيد من هالة المصداقية لحزب العدالة والتنمية، أم أنهم سيفضلون الانعزال والقبوع في أبراجهم العاجية مباركين استمرار الفساد وملتزمين صمت أهل القبور..؟ ! ورغم أني أعرف جد المعرفة أن الطريق إلى الإصلاح ليست معبدة .. وأن الحكومة الجديدة ستواجه تحديات كبيرة، وهي فعلا لاتملك خاتم سليمان أوعصا موسى .. لكنني أؤمن عن علم، أنه بعد الدستور الجديد الذي صوت عليه المغاربة في فاتح يوليوز من العام الماضي لم يعد ممكنا التلاعب بالمسؤولية أو الإفلات من المساءلة، بل وحتى من العقاب إن اقتضى الحال ذلك .. وأتمنى شخصيا أن تجيبنا المائة يوم القادمة من عمر حكومتنا الموقرة بما يثلج صدورنا .. ! والله من وراء القصد.