يقول البعض إن الحكومة تعتبر تقارير المجلس الأعلى للحسابات مجرد مؤشّر، وأن تلك التقارير تبقى حبرا على ورق، مما يجعل الحكومة مترددة، إِنْ لم نقل عاجزة، عن مواجهة الجريمة المالية، وبالتالي إحالة المرتشين على المحاكم. ويرد البعض الآخر بأن تقارير المجلس تنهج إجراءين، الأول يتعلق بالملفات الخطيرة للتدبير التي تكون موضوع متابعة أمام المحاكم، بينما الإجراء الثاني يقتصر على إحالة الحالات المشتبهة أو الملتبسة إلى لجنة تقرر مصيرها. وبين هذا وذاك تبقى مسألة تقارير المجلس الأعلى للحسابات، التي تتحدث عن تبذير وتبديد الأموال العمومية من طرف بعض المؤسسات، عالقة ومُعَلَّقَة تنتظر أن تمتد إليها يَدُ وعين وزارة العدل والبرلمان للحسم فيها. يتعلق الأمر بربط المحاسبة بالمسؤولية وتنزيل هذا المفهوم المطلب الملح إلى أرض الواقع حتى نقنع أنفسنا بأن العدالة تشق طريقها بإصرار في هذا البلد الذي يتطلع ليكون نموذجا يُحْتَذَى به في محيطنا وقارتنا واُمَّتِنا، وعدم التهاون في تطبيق عدم الإفلات من المحاسبة والعقاب لكل من تتم إدانته من طرف القضاء. إذا كانت الحكومة لا تأخذ بالاختلالات والاختلاسات والخروقات التي يتحدث عنها الرأي العام بدعوى أن الأمر يتعلق بمجرد كلام، فماذا يمكن القول عن تقارير هذه المؤسسة الدستورية التي يعكف موظفُّوها وخبراؤها، السنة تِلْوَ السنة، على تمحيصها وفحصها وإعدادها ثم رفعها إلى من يعنيهم الأمر، بدون أن تجد السبيل مُمَهَّداً إلى حيث يجب أن تنتهي، عِلْماً أن الأمر يتعلق بملفات ثقيلة وغليظة يئِنُّ المستخدمون والعاملون بالمجلس من حَمْلِها إلى وِجْهَتِهَا؟ في هذا الوقت بالذات خرجت إدارة الضرائب بإجراءات جديدة لمطاردة الغشَّاشِين والمتمَلِّصِين من أداء ما بِذِمَّتِهِم من ضرائب. وكل هذا من أجل استرداد مبالغ ضخمة من الأموال، تُقَدَّر بملايير الدراهم، إلى بيت المال العام. ويتعلق الأمر بشركات ورجال أعمال وأشخاص من ذوي الجاه والنفوذ. وهو إجراء جد طبيعي يفرضه القانون والمنطق السليم، إلى جانب المُوَاطَنَة الحَقّة التي تستلزم التحلِّي بروح عالية من المسؤولية والانخراط في كل ما يتطلبه الوطن من واجبات وتضحيات، عِلْماً أن نفس الإدارة لا تتردد في إشعار ومتابعة وتغريم المواطن البسيط لمجرد تأَخُّرِه عن الأداء، وأنّ أصحاب الماء والكهرباء لا يتأخرون في التهديد بقطع "الْمَا والضَّوْ عليك" مع أنك أدَّيْتَ واجبات هذا "الْمَا والضَّوْ". وحين تُثْبِتُ لهم ذلك لا يتفضّلون بتقديم واجب الاعتذار. ما هو رد الحكومة على بعض الجمعيات التي تقول إن أبحاثها وتحقيقاتها تؤكد أن تقارير المجلس الأعلى للحسابات اعتراها الموت الزُّؤَام منذ عقود، مما يجعل من الصعب على الحكومة وغيرها إعادة الحياة إليها وهي تردد مع نفسها: كم من حاجة قضيناها بِتَرْكِهَا؟ ربما أن الحكومة تميل إلى تَرْكِ هذه التَّرِكَة للحكومة التي ستأتي بعدها. ربما أن الحكومة "تَقْرَأُها طَايْرَة"، لا تريد أن تسقط في طائلة العيب مع إدارات كبيرة وموظفين كبار وشخصيات لها من النفوذ ما يمكن أن يُعَكِّر صفو الحكومة، وبالتالي تمنع نفسها عن السقوط في الزّلَل من دون أن تعرف أن سلوكها هذا هو الزلل بعينه. وهناك من يقول إنه إذا قامت الحكومة بكل شيء فماذا تترك للحكومات القادمة؟ الحكومة تعلم علم اليقين أنها جاءت وهي تستقل سيارات "كونغو" المُزَيَّنَة برايات "مكافحة الفساد"، وبعض وزرائها يُرَوِّجُون صُوَراً لهم وهم مُتَحَلِّقون حول طاولات "الزعبول" و"البيصارة" بالأسواق البلدية، ويفخرون بالسَّكَن في الأحياء الشعبية. وحينما استبدل هؤلاء تلك العربات بعربات الدَّفْع الرُّبَاعِي الفارهة، ورحلوا إلى أحياء الرفاه والاسترخاء والاستجمام، وذاقوا مَرَقاً آخر غير الذي كانوا يتباهون به أمام العام والخاص وهم يردِّدُون: "اللهم أكرمنا طعاما طيِّباً"، وخالَطُوا كبار وعظماء القوم، اكتشفوا أنهم كانوا في وادٍ يَهِيمُون، ووجدوا أنفسهم أمام "تماسيح" و"عفاريت" لا قِبَلَ لهم بمقاومتها، فرجعوا عن "غَيِّهِم" وهم يرددون "عفا الله عمّا سَلَف". لكن تقارير المجلس الأعلى للحسابات وحسابات إدارة الضرائب لا تستهويها النغمة الحكومية، ولا تعزف على نفس السُّلَّم الموسيقي لِلْجَوْقِ الحكومي، وتطالب فقط بربط المحاسبة بالمسؤولية، وبِإِبْقَاء راية مكافحة الفساد مرفوعة.