لقد كان النص الدستوري السابق يحيل في الإشارة إلى مساعدة المجلس للبرلمان على القانون الذي كان يحدد هذه المساعدة في نقطتين اثنتين لاحقتين على تنفيذ الميزانية، وهما التصريح العام بالمطابقة والتقرير حول تنفيذ القانون المالي، لكن حتى هاتان النقطتان كانتا عمليا مفرغتين من المحتوى نظرا إلى تأخر الحكومة في إصدار مشروع قانون التصفية، وبالتالي لم تكن للمجلس الأعلى للحسابات، عمليا، أية فعالية في مساعدة البرلمان المحدودة أصلا بنص قانون المحاكم المالية. أما الآن، فإن الدستور أقام جسرا متواصلا ومنهجيا طوال السنة مع البرلمان، وهذا هو الجديد المهم، إذ سيكون بإمكان البرلمان كما هو الشأن في التجارب المتقدمة الاستناد إلى تنويرات ومعلومات وتقارير المجلس من أجل رفد عمله التشريعي، من جهة، وعمله الرقابي والتقييمي، من جهة أخرى، وهذا هو الأهم. وكم سيكون ثوريا وجميلا أن نرى -ولم لا على الهواء مباشرة- حلقات استماع برلمانية إلى المسؤولين عن تدبير الشأن العام بحضور قضاة المحاكم المالية كملاحظين يقدمون التوضيحات والاستشارات متى ما طلبت منهم اللجنة البرلمانية المختصة ذلك، على غرار التجربة البريطانية العريقة أو تجربة مكتب المحاسبة الأمريكي مع الكونغرس. وهذه لو تم تفعيلها فسيكون أثرها، لعمري، رادعا وعميقا أكثر عشرات المرات من الأثر الرادع لبعض العقوبات الجنائية، دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية تحريك المتابعات الجنائية، بما فيها المبادرة الجريئة التي اتخذها وزير العدل مؤخرا. إن تفعيل هذا النص وتعزيزه ببرلمان مؤهل وجريء وبمجلس أعلى للحسابات مؤهل وجريء ومنفتح على البرلمان والرأي العام لهو ضمانة لصوغ تجربة مغربية-مغربية في المراقبة وتوازن السلط، تقوي البرلمان بذراع رقابي موضوعي ومستقل وتقوي المجلس الأعلى للحسابات بإضفاء المزيد من الأهمية والحيوية على ملاحظاته واكتشافاته، من جهة، مع تأمين المتابعة والمحاسبة والمساءلة ذات الطابع السياسي لأعماله ومجهوداته، من جهة أخرى، الأمر الذي سيدفع المسؤولين الحكوميين إلى التفكير مرتين قبل الإقدام على أي سياسة عمومية مرتجلة أو أي خيار عشوائي في تسيير الشأن العام والمال العام. العلاقة بالقضاء نقلة جديدة تترجم فطنة المشرع الدستوري ووعيه بربط الرقابة بالمساءلة (من مقومات الدستور) ثم ربط المساءلة بأبعادها الثلاثة الأساسية: البعد القضائي إضافة إلى البعد السياسي (البرلمان) والبعد المالي والتأديبي (المجلس الأعلى للحسابات). وعمليا، لم يخترع المشرع الدستوري شيئا جديدا أو يستورده من الخارج، بل سن قاعدة من بنات المطالبات المغربية التي ما فتئت تنادي بتحريك المتابعة القضائية وتفعيل العلاقة التواصلية بين الرقابة والقضاء، مما يعني أن مدونة المحاكم المالية مطلوب من معدليها أن يحددوا الآن طبيعة وآليات وحدود المساعدة التي ينبغي للمجلس أن يقدمها إلى القضاء. وبالمقابل، أعود وأؤكد أن المساعدة ينبغي أن تكون متبادلة، بحيث ينبغي للقضاء أن يحيل الملفات المتراكمة التي لم يقع تكييفها جنائيا والممكن تكييفها أمام المجلس الأعلى للحسابات في شكل خروقات مالية من قبيل التسيير بحكم الواقع أو التأديب المالي، ولا مناص هنا من عقد دورات تدريبية وتواصلية مشتركة بين قضاة المحاكم المالية وقضاة القضاء العدلي من أجل تبادل الخبرات والتجارب. أما إحالة الملفات الجنائية من المجلس الأعلى للحسابات على القضاء فقد كان منصوصا عليها في مدونة المحاكم المالية، ولكن أهمية الفقرة الجديدة في الدستور أنه يقيم جسرا تواصليا مستمرا من التفاعل والتعاون نظرا إلى تداخل حالات الاختصاص بين القضاء والمحاكم المالية، ولاسيما لجهة قدرة وزير العدل التلقائية انطلاقا من قانون المسطرة الجنائية على الإحالة التلقائية للمخالفات المشكوك في كونها ذات طابع إجرامي الواردة في التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات. في هذا الخصوص، يمنح الدستور لوزير العدل صلاحية طلب أي مساعدة على شكل وثائق أو معلومات أو مستندات من المجلس الأعلى للحسابات الذي أصبح ملزما بالاستجابة للتعاون في جميع الحالات، بقطع النظر عن حالة إحالة الملفات الجنائية من المجلس على القضاء ذات الطابع المناسباتي.
العلاقة بالحكومة
لا يحتاج الأمر إلى تجديد أو إضافة، حيث اكتفى المشرع الدستوري بالإحالة على القانون لأن فلسفة الدستور الجديد هي إعادة النظر في توزيع السلطات في اتجاه تقوية المراقبة الديمقراطية للحكامة (البرلمان - المجلس الأعلى للحسابات - الرأي العام)، وذلك وفق منظور المراقبة في إطار توازن السلط. ما ينقص -من وجهة نظري- بصدد الحكومة، التي يفترض أن يعمل المجلس على تطوير أداء مرافقها وتخليق سلوك مستخدميها هو أن تتحمل مسؤوليتها بخصوص الإدارات والمؤسسات التي لا ترد على تقارير المجلس وتوصياته السابقة، كما يتعين على المجلس أن يعي أن الرقابة الفعالة هي الرقابة الصديقة، بمعنى التشاركية وليس التفتيشية التي لن تساهم سوى في تسميم العلاقة بين المجلس والإدارات الحكومية... نشر أعمال المجلس التقارير الخاصة: هذه واحدة من أهم مستجدات الدستور وأعمقها أثرا، وهي ترجمة أمينة لواحدة من أهم المبادئ والمعايير المتعارف عليها عالميا في ما يخص استقلال وفعالية وشفافية الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة. وأهميتها تكمن في أن الدستور السابق لم ينص عليها، أما قانون المحاكم المالية فقد كان مفعول مبدأ النشر مقصورا على التقرير السنوي الذي لا يتضمن سوى ملخص للأعمال السنوية للمجلس ولم يكن يتضمن عمليا جميع أعماله، أي جميع التقارير الخاصة التي من المفترض أن يكون التقرير السنوي قد تضمن ملخصات لها. لكن هل كانت جميع التقارير الخاصة ترى النور في التقرير السنوي؟ وهو ما كان يفسر انتقادات البعض التي كانت تصوب على عدم شمولية وتوازن ما كان ينشر حول المرافق العمومية التي تمت مراقبتها. كان هذا عن جميع الأعمال، بما فيها التقارير الخاصة، أي التقارير التي كانت تنجز بصدد مرفق من المرافق. الآن، أصبح المجلس ملزما بنشرها بمجرد انتهاء المسطرة. إضافة إلى التقارير الأخرى الخاصة بالأحزاب والانتخابات والممتلكات... إلخ، فلا سرية ولا حجز للمعلومات بعد اليوم، مما يكرس دخول الرأي العام على خط المراقبة الديمقراطية للحكامة. ولمزيد من التوضيح، فإن التقارير الخاصة المنجزة سنة 2011 والتي من المفترض أنها جاهزة في ربيع 2012، يتعين دستوريا نشرها على العموم الآن، أي في وسط السنة على أن ينشر التقرير السنوي تلخيصات لأهمها، وليس بالضرورة كلها، قبل نهاية السنة طبقا للمادة 100 من مدونة المحاكم المالية وليس بعد انصرامها كما هو جار منذ أربع سنوات، علما بأن التوقيت المناسب، أي المبكر، معيار مهني للرقابة وللمحاسبة والمساءلة. المقررات القضائية: أما نشر المقررات القضائية فمسألة في غاية الأهمية من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: وفقا لدلالة الإشارة، فإن هذا يعني أن المجلس الأعلى للحسابات ليس مفتشية عامة للمالية (بيس) كما يبدو إلى حد الآن، مهمتها إنجاز تقارير وتحميل الآخرين مسؤولية المتابعة وتخصيص المآل، بل هو جهاز رقابة قضائية يتولى مهمة قضائية صريحة هي التأديب المالي والأمر بإرجاع الأموال العامة المهدورة، كما يكتسي اختصاصه الرقابي في مجال البت في الحسابات طابعا قضائيا ويتوجه بإصدار أحكام; الوجه الثاني: بالرغم أن مدونة المحاكم المالية كانت تجيز صراحة نشر الأحكام وتنص على اختصاص هيئة الغرف المجتمعة في المصادقة على الأحكام المقرر نشرها، فإنه منذ صدور مدونة المحاكم المالية ودخولها حيز التنفيذ سنة 2003 لم ينشر ولو حكم قضائي واحد. والحال أن الجميع ينتظر من المجلس الأعلى للحسابات تفعيل المساءلة التأديبية المالية ونشر نتائجها والتعليق على أفضل أحكامها قبل مطالبة الآخرين بتحمل مسؤوليتهم، أعني القضاء والحكومة والبرلمان. وللتدليل على ما نقوله، لا أثر لأي اجتهاد قضائي مالي للمحاكم المالية منذ صدور مدونة المحاكم المالية، علما بأن نشر الأحكام هو الذي يعكس تحريك المحاسبة والمساءلة; الوجه الثالث: إلزام المجلس بنشر أحكامه سيرغمه على مراجعة أخطائه واختلالاته في صياغة تقريره السنوي، الذي يتضمن اتهامات مباشرة وغير مباشرة بارتكاب خروقات مالية وجنائية صريحة (مخالفات وجرائم موصوفة)، في انتهاك سافر لمبدأ حيادية المحاكم المالية. والحال أن التقرير السنوي لا ينبغي أن يتضمن إلا الملاحظات والتوصيات المتعلقة باختلالات التنظيم والتسيير وتقييم النتائج واقتراح التصويبات والتصحيحات طبقا للمادة 100 من مدونة المحاكم المالية، مضافة إلى ذلك الآن الأحكام القضائية التي يتعين دستوريا نشرها. أما المخالفات ذات الطابع التأديبي المالي أو الجنائي فمكانها ليس التقرير لأنه ليس تقريرا بوليسيا أو تحقيقا من الضابطة القضائية (وحتى في هذه الحالة لا يجوز نشره أو تسريبه قبل اكتمال المسطرة وتحويل المعنيين بالأمر على المحاكمة العادلة)، بل هو تقرير افتحاص وتدقيق وتقييم وشتان بين التفتيش والتحقيق وبين التدقيق والافتحاص والتقييم. *خبير دولي في الرقابة والمحاسبة رئيس مركز الأبحاث والدراسات حول الرقابة والمحاسبة ومكافحة الفساد