يوم ألقى القصف والدمار بآلاف اليهود على طرقات الهجرة الجماعية، منهم من احتضنته أسر أوربية خِلْسة، ومنهم من خُصّصت له سفنٌ لنقله إلى فلسطين السليبة سرّا، وإذا ما تعذّر على سفينةٍ الوصولُ إلى الأرض المغتصبة، كان يغيَّر مسارُها مؤقتا نحو قبرص أو إلى جزيرة خالية من جزر اليونان، مع توفير الأغذية والأغطية والخيام للمهاجرين اليهود الفارين من الحرب ومن نير النازية البغيضة.. كان من وراء هذا العمل، يهود، ومنظمات صهيونية، ولوبيات على رأسها شخصيات نافذة، تعمل في الخفاء، ولا تحتمل رؤية اليهود يتعرضون للتشريد والإذلال.. واليوم، يعيد التاريخ أحداثه، وجاء الدور على بعض أهل العروبة والإسلام، وها نحن اليوم نشاهد الهجرة الجماعية لأقوام، منهم من همْ إخوان لنا في الدين، ومنهم من هم لنا إخوان في العروبة، وبعضهم نظير لنا في الخَلق ثم لا فرْق.. لكن إذا كانت مأساة اليهود قد أتت على أيدي النازية العنصرية، فإن مأساة هؤلاء عندنا قد أتت بسبب مسلمين، أخذهم الحنين إلى عهد الفتنة الكبرى، وانقسموا إلى خوارج، وحَرُّورية، وشيعة، يقتلون بعضهم بعضا، ويُكفّرون بعضهم بعضا، وينادون بخلافة إسلامية لم يُوصِ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهى عن ضرب المسلمين رقاب بعضهم البعض مهما كان السبب؛ ولكنهم خالفوا وصية نبيهم، ورأوا فيها رأي الخاسرين، فقطعوا الرقاب، وقطّعوا الأوصال، وشرّدوا الأسر، وهدموا البيوتات، وخرّبوا الدين، ودمّروا البلاد؛ لكنّ الغريب في الأمر أن المشردين لم يفرّوا صوب إخوانهم المسلمين في الشرق الأوسط، وهم الأقرب نسبًا وجغرافية، بل فروا أو قُلْ استجاروا بالنصارى في أوربا التي حاربوا استعمارها بالأمس، وانتقد الفقهاء أخلاقها، وانحلالها، وحذّروا من التطبّع بطباعها، وتجنُّب إلحادها، إنها والله لمفارقة عجيبة في دنيا المفارقات، لم يعرف التاريخ لها مثيلا... بالأمس القريب، كان "الصرب" يذبّحون المسلمين في "البوسنة والهرسك"، حتى تدخل الغرب وأوقف المجازر والمسلمون يتفرجون؛ واليوم ترى هؤلاء "الصرب" يسمحون للمسلمين المهاجرين بالمرور دون مشاكل عبر أراضيهم، فيما لم تسمع ولو دولة عربية ممّن أذكت نار "الترويع العربي" وسخّرت لذلك وسائلَ إعلامية، وسمّت الفتنة "ربيعا" تفتح ذراعيها لهؤلاء البؤساء تنفيذا لما يسمّى كذبا "التضامن العربي".. لم نسمع دولة "قناة الجزيرة" تهيب بهؤلاء للقدوم إليها، مع العلم أن لها أراضيا خلاء، تدر ذهبًا أسودَ.. فإيواء هؤلاء هو أهم من كأس العالم، ومن مضمار سباق السيارات، ومن تظاهرات تكلف الملايير من الدولارات، ومن شراء أحياء تجارية في لندن، وفرق رياضية بأثمان خيالية.. ثم أين هم الأثرياء العرب من الأثرياء اليهود؟ لا مجال للمقارنة مع وجود الفارق.. فالأثرياء العرب لا يتنافسون في الحسنات، بل يهرولون نحو السيئات.. هذا يشتري سيارة عتيقة بأبهظ الأثمان، وذاك يتزايد على الملابس الداخلية للمغنية الراحلة "داليدا"، ولكن الذي "أعجبني" هو ذاك الثري العربي المقيم في النامسا، حين اتصل بمقدمة برنامج في ألمانيا تُدْعى "أرابيلاَّ"، وعبر الهواء مباشرة دعاها إلى قضاء ليلة معه مقابل 10 آلاف دولار؛ فكان جوابها صادما حين قالت له إن هذه العشرة آلاف، هناك من هو أحوج إليها في بلدك من فقراء، وأيتام، ومرضى؛ وشكرا لك على دعوتك... ثم ماذا؟ إن خُمُسَ ما يُصْرف على "داعش والنصرة" لكفيل بأن يبني بلدا بأسره، وليس فقط إيواء مهاجرين ومشرّدين يلوذون بأهل الكفر [كما نسمّيهم] بعد قسوة أكباد وغُلْف قلوب أهل الإيمان.. لم يحدث أن يهودا استغلّوا مأساة اليهود أيام الحرب الثانية أو مارسوا عمليات التهريب مقابل أموال ثم تركوهم في البحر الأبيض المتوسط يغرقون كما يفعل المهرّبون المسلمون بإخوانهم المسلمين.. ثم ماذا؟ هناك من سيذهب إلى الحج للمرة الثانية أو الثالثة أو، وهو يرى من هم أحوج لهذه الأموال من إخوانه في الدين أو العروبة، مع العلم أن قضاء حاجة المسلم المضطر هي فرض، فيما الحَجّة الثانية أو الثالثة فهي نافلة، والفرض أسبق عليها بإجماع علماء المسلمين قديما وحديثا؛ وصدق أبو العلاء المعرّي حين أنشد: توهّمتَ يا مغرور أنك ديِّنُ *** عليَّ يمينُ الله ما لك دين تسير إلى البيت الحرام تنسُّكًا *** ويشكوك جارٌ بائس وخدينُ..