2 - ) مقومات المشهد السياسي الحقيقي/السليم لم يكن من الممكن الحديث عن المشهد السياسي دون المرور على الدستور الجديد و ما خلفه على مستوى بنية الخارطة السياسية بشكل مباشر أو غير مباشر، بإعتباره أسمى قانون (مع أنه لا يزال بعد لم يكتسب هذه الصفة بشكل كلي و جلي بالنسبة للدستور الجديد كما هو مؤكد من خلال التحليلات السابقة) ينظم السلطات العامة و يحدد إختصاصاتها و العلاقة بين مكوناتها، كما يحدد طبيعة النظام و علاقته بالقوى السياسية، و بالتالي مدى قدرة هذه الأخيرة على الفعل و المناورة لتأثيت المشهد السياسي. لا شك أن المتتبع للخلاصات التحليلية لطبيعة النظام التي يرسمها الدستور و علاقته بالقوى السياسية و هيكلة المؤسسسات العامة لا ينم عن تبلور مؤشرات حقيقية لإصلاح المشهد السياسي المغربي. إنه لمن السهل الإدعاء بصحة و سلامة المشهد السياسي في أي قطر من الأقطار، من خلال إجراء إنتخابات و تعدد المتنافسين فيها و إقبال الناخبين على ألادلاء بأصواتهم بنسب مهمة، والتباهي بهذه الانجازات الثلاث في مختلف منابر الاعلام. إلا أن هذا الادعاء سرعان ما تسطع عليه شمس النقد العلمي و التحليل الموضعي كاشفة عورة زيفه و مجانبته للحقيقة، حقيقة أن الفعل السياسي السليم أعظم من أن يتحدد بتلك المحددات الثلاث المفرغة من روحها، روحها التي لا تنبعث فيها إلا إذا إستندت على مبادئ و مرتكزات أهم، حيث لا تكون تلك إلا نتيجة لهاته، و هكذا حق لها أن تعد كمرتكزات و مقومات أساسية لأي فعل سياسي حقيقي و سليم وهي:الديمقراطية(روح الديمقراطية)، ووجود طبقة اجتماعية متوسطة عريضة، و وجود أحزاب و فاعلين سياسيين أقوياء يمثلون إرادة الشعب. 1)الديمقراطية:إن الديمقراطية كمبادء و أفكار و ممارسات إجتماعية و سياسية و إقتصادية أعظم من أن يتم حصرها في موُشرات إجرائية كإجراء إنتخابات، فهي أولا و قبل كل شيء، تبنى على عدة مرتكزات و موشرات و مكتسبات مرتبطة بما هو إجتماعي،إقتصادي،سياسي،ثقافي. و يمكن جمع تلك المرتكزات و الموُشرات في مفهوم جامع مانع يحمل في طياته زبدة مفهوم الديمقراطية، و إمكانية بسطها على ارض الواقع و هو مفهوم الحداثة. قد ينظر البعض إلى هذا المفهوم من منظور غربي بحيث يقوقع نفسه داخل التجربة الغربية لهذا المفهوم الإنساني القابل للإرتقاء في إطار قوالب تجريبية، بناء على المرتكزات الجوهرية المبني عليها: الحرية و العقلانية و الفردانية، بإعتبارها مكاسب إنسانية، قابلة للإستيعاب ضمن ثقافات و مجتمعات و تراث. و ثراتنا العربي الإسلامي ثري ببدور هذا المفهوم بشكل يجعل التجربة أكثر غنى و بلوغ لحدود هذا المفهوم الإنساني السرمدي بسرمدية الفكر الإنساني : دخول المجتمع في الحداثة:إن دخول المجتمع في الحداثة يخلق المناخ المناسب لتقبل فئات المجتمع لفكرة الديمقراطية و تبعات تجسيدها على واقع الفرد و المجتمع، ويرسخ إيمانها بها كوسيلة لبناء مجتمع أفضل، يتم من خلالها نشر الحريات و الحقوق الخاصة منها و العامة، خاصة حرية التعبير، و حق التعليم، و احترام الفرد كمواطن مواطنة كاملة، و كشخص عاقل قادر على ان يدبر أموره بذاته، و ليس في حاجة الى من يفرض عليه وصايته باي شكل و مبرر كان، هذا بدرجة اولى. وبدرجة ثانية، كوسيلة للتداول السلمي على السلطة، حيث يتم إيكال سوس أمور المجتمع للافضل و الأصلح حسب رأي و قناعة غالبية الشعب لا على أساس مصالح فئة دون اخرى.و على هذا الاساس كانت أسس و مرتكزات الحداثة: الحرية، العقلانية، الفردانية، أساسا للحديث عن الممارسة الديمقراطية الفعلية و الفعل السياسي السليم: ا) الحرية:لا يمكن الحديث عن الديمقراطية في ظل تقييد الحريات، و تكميم الافواه، و عدم تعدد الأراء، و التوجهات المختلفة النابعة من الشعب. إن الحرية هي أساس الديمقراطية الفعلية حيث تختلف الاراء و تتصارع في جو من الروح الديمقراطية، والتي لايكون صوت مدفع الجيش، و لابندقية الثوار، و لا مال و جاه السيد فلان الحكم و الفيصل قيها، بل صوت المواطن. ب) العقلانية:كيف يمكن الحديث عن الديمقراطية في ظل الامية، فالمعدلات التقديرية للأمية في المغرب بالنسبة للساكنة الأكثر من 15سنة بلغت %56,4 (2008/2005)، أما بالنسبة للذين تتراوح أعمارهم بين 15و24 سنة فتصل إلى %56,8، و هذه النتائج الكارثية لا تنفصل عن الإهتمام الهزيل الذي يلقاه قطاع التعليم حيث لا يتعدى 5,6% من الناتج الداخلي الخام في الفترة ما بين (2008/1999)، ناهيك عن نتائج أخرى هزيلة لسنة 2011، رغم الرجة التي حسبنا أنها ستوقض القائمين على هذا القطاع الإستراتيجي و الحيوي لأي مجتمع، متمثلتا في تقرير البنك الدولي حول وضعية التعليم بكل من الشرق الأوسط و شمال إفريقيا تحت عنوان" un parcours non encore achevé: la réforme de l'éducation au moyen-orient et en afrique du nord” و الذي وضع المغرب في رتب متدنية مع كل من العراق و اليمن و دجيبوتي، و مع ذلك فنتائج 2011 لا تؤشر على تجاوز الإختلالات التي أشار إليها التقرير، و على رأسها تمكين كل الأطفال من ولوج التعليم الإبتدائي، حيث لازلنا نواجه تحدي الكم ناهيك عن الكيف، فالمسجلون في التعليم الأولي 57% ، و الإبتدائي %90 غير أن الذين يتمون تعليمهم الإبتدائي لم يتعدى%80، و التعليم العالي %11)المصدر: الموقع الإلكتروني لهيئة الأممالمتحدة:Perspectives économiques en " Afrique2011").ان مجتمعا تنخره الامية كيف لأفراده ان يدركوا كنه الديمقراطية، و يحللوا و ينتقدوا مبادئها و الياتها، و يتوصلوا الى ما ستجلبه لهم من خير أو شر إن هم اعتنقوها.كما أنهم كيف سيتعاملون مع اليات تطبيقها على ارض الواقع، من احزاب سياسية، و غرف تمثيلية للشعب، و عمليات الاقتراع. و على سبيل المثال لا الحصر تعامل الناخبين في المجتمعات التي ترتفع فيها نسب الامية مع الاحزاب السياسية، التي هي في الاساس مبادئ و روئ و برامج إنتخابية، فكيف إذا لهاوُلاء الأميين التعامل مع هذه المبادئ و البرامج و الاختيار بينها بناء على قناعاتهم و مصالحهم. لهذا نجد على ان هاؤلاء الناخبين في مثل هذه المجتمعات يتجهون الى الاشخاص لا إلى الاحزاب، التي هي قبل ان تكون مكونة من اشخاص، هي مبنية على مبادء و افكار و قناعات تجمع حولها أولائك الاشخاص. ج) الفردانية:ان الفردانية كمقوم من مقومات الحداثة تخدم بالضرورة تثبيت دعائم الديمقراطية الحقة على وجه الخصوص، و العملية السياسية على وجه العموم. كيف ذلك؟ ان افراد المجتمع الحداثي الذين تلبسوا هذا المقوم يبنون مواقفهم و افعالهم بناء على مصلحتهم الذاتية(الفردية)،و هذا لا يعني بالضرورة إنفصالهم التام عن محيطهم الاجتماعي،و صبغ افعالهم بالانانية التي لا تراعي المصالح العامة، بل ان وديان المصالح الخاصة تصب في كثير من الاحيان في بحر المصلحة العامة،اذا كانت تلك المصالح الفردية مبنية على مقتضيات العقل السليم(و هذا حاضر بقوة في هذه الحالة على اعتبار ان العقلانية مقوم اساسي من مقومات الحداثة كما سبقة الاشارة الى ذالك).فالفرد في هاته المجتمعات باختياره لمبادئ حزب سياسي معين تخدم طموحاته و تطلعاته الشخصية بناء على شروط موضوعية تتحرى المصلحة أينما وجدت، و إن فاز الحرب الذي رأى فيه هذا الفرد المصلحة لنفسه، فانها و ان عادت عليه المصلحة من ذلك بشكل شخصي، فانها بالضرورة تعم عموم الناس و إن بنسب مختلفة. و على العكس من ذلك فان افراد المجتمعات الغيرحداثية يتصرف افرادها لا بوازع المصلحة الذاتية، و إنما بناء على تبعية عمياء للجماعة سواء كانت هذه الجماعة أسرة، أو عائلة، أو قبيلة، أو زاوية... وعلى الرغم من عدم جني الفرد لأي منفعة في غالب الأحيان جراء هذه التبعية، إلا أنه يستمر في تقديم الولاء لهاته الجماعة التي تمثل له الامتداد التاريخي، و العرقي، و الاديولوجي. إن نزوع الفرد نحو الولاء للجماعة و جعلها غاية في حد ذاتها من اكبر معيقات البناء الديمقراطي، حيث تنتفي روح الديمقراطية و لو اجريت انتخابات، و وجدت احزاب، و عدم تزوير للانتخابات، وشراء للاصوات، و تسجيل نسب مشاركة جيدة.ان الديمقراطية اولا و قبل كل شيء وجدت ليحكم الأفضل و الأنفع و الأجلب لمصلحة المجتمع، لا للأكثر عددا و نفوذا،و للأسف هذا ما نلاحظه في الديمقراطيات الهجينة، حيث الحكم للقبيلة الاكبر، و الزاوية الاكثر مريدين، و الحزب السياسي الاقدر على ضم كبار القبائل بين جناحيه، حيث تتسابق الأحزاب و تتنافس في خطب ود الزعماء القبليين للترشح ضمن قوائمها الانتخابية، لمعرفتها لمدى قدرتهم على دفع ابناء القبيلة للتصويت عليهم بشكل مباشر و بالتالي على الحزب بشكل غير مباشر.إذن كيف يمكن الحديث عن الديمقراطية(روح الديمقراطية)داخل مجتمع يعيش كل تلك الانتكاسات التي تمس مقومات الحداثة، و بالتالي مقومات البناء الديمقراطي،مجتمع يعيش التخلف، حيث لا حرية، و لا تعليم، و لا يعي الفرد ذاته داخله كشخصية مستقلة عن الجماعة مهما كانت هذه الجماعة. وبالمقابل هناك القمع، و الكبث بشتى أنواعه و أصنافه، و الجهل و الأمية، و التبعية العمياء للجماعة. 2) وجود طبقة اجتماعية متوسطة عريضة:إن الطبقة الاجتماعية المتوسطة هي الطبقة الاجتماعية الفاعلة بشكل رئيسي في العملية السياسية بمختلف تمظهراتها، سواء من حيث تشكيل الاحزاب السياسية، حيث توفر قاعدة عريضة لمعضم الاحزاب، بالاضافة الى إقبالها على المشاركة في العملية الانتخابية، لاسواء من خلال المشاركة الفعالة في الحملات الانتخابية أو بالتصويت.وبناء على مشاركتها القوية في العملية السياسية تهدف الى تحسين أوضاعها الاقتصادية و الاجتماعية،و يدفعها الى ذلك مستواها التعليمي و الثقافي الجيد، و بالتالي ايمانها بقدرتها على الفعل و التغيير. على عكس كل من الطبقة الغنية(البرجوازية) التي تستفيد من الوضع القائم، و ترى في العملية السياسية السليمة وألياتها و مبادئها، كالديمقراطية التي تقوم على التداول السلمي للسلطة خطرا عليها، و يقوض استمرار نفوذها و سلطتها على المجتمع. و الطبقة الكادحة(البروليتاريا)التي هدها الفقر و الجوع و الأمية مما جعلها تفقد الامل في أي تغيير و إصلاح، في ظل هذا المجتمع المتوحش النهم (الطبقة الغنية)الذي يبني ترفه و رفاهيته على انقاض شقائها و حرمانها.وعلى هذا الاساس كيف يمكن الحديث عن عملية سياسية سليمة و فعلية في مجتمع تغلب عليه هذه الثنائيات:المركز/الهامش ،الفقر المدقع/الغنى الفاحش،الجوع/التخمة،القصور/الاكواخ... إن المغرب غير بعيد عن هذا التوصيف في ظل واقع البنية الإجتماعية و الفوارق الطبقية التي تشرخ نسيجه المجتمعي، حيث المجتمع طرفان الواحد منهما على نقيض الأخر، طرف يملك المال و السلطة و طرف لا يملك أي شيء حتى نفسه بيد الطرف الأول، و هذا ما تعبر عنه المؤشرات الإجتماعية السيئة حيث يصل معدل البطالة مع نهاية سنة2011 %9,10 حسب المندوبية السامية للتخطيط في تقرير نشرته جريدة "L'opinion" على موقعها الإلكتوني، بينما الرقم أكبر من ذلك بكثير و هو ما تؤكده الأرقام المرتفعة لمعدلات البطالة في الدول الأروبية الغنية(التي لطالما شكلة سوقا للعمالة المغربية) بفعل الأزمة المالية و الإقتصادية الحادة التي تضرب أوربا، و من الأكيد أن المغرب ليس ببعيد عن تداعياتها التي هو أصلا في غنى عنها. و بالعودة إلى المؤشرات الإجتماعية فالوضع يزيد تفاقما كلما إنتقلنا من مجال إلى أخر، حيث تبرز بشدة هشاشة الوضع الإجتماعي بالمغرب، فإذا إتجهنا إلى الصحة نجد على أنه لكل 100.000شخص 57,8 طبيبا و 93 ممرض. كما يصعب على نسبة كبيرة من المواطنين بلوغ العديد من الخدمات الإجتماعية خاصة في البوادي، أما في حالة ولوجهم إليها فهم ملزمون على الرضى بسوء خدماتها أو دفع رشاوى قصد تحسينها أو على الأقل تلقي إهتمام أفضل بالمقارنة مع الذين لم يدفعوا، هذا يدفعنا إلى إستحضار تصنيف الأممالمتحدة ل دولة180 من حيث شيوع الرشوة داخل القطاع العام بموجب سنة 2011 الذي وضع المغرب في الرتبة 80)المصدر: الموقع الإلكتروني لهيئة الأممالمتحدة:Perspectives économiques en " Afrique2011"). إن التقسيم الغير عادل للثروات هو ما يزكي إبتعاد الناس عن السياسة و المشاركة في تأثيت مواسمها الفلكلورية التي باتت أشبه بمعارض للتراث السياسي المغربي و محاولة تسويقه داخليا و خارجيا كمؤشر على الإنفراج السياسي و تقدم التجربة الديمقراطية المغربية صوب الأفضل و الأحسن، غير أن الذي يبني الأوهام على أمواج البحار لا يستطيع إيهام الناس طويلا بسراب عذوبة مياهها المالحة، حيث سرعان ما يكشف زيف إدعاءه الباطل كما حصل في تونس و مصر و اليمن و سوريا... و البقية لا محالة في الطريق مهما عاند البعض القدر، إنه قدر الشعوب مع الحرية. 3) وجود احزاب و فاعلين سياسيين أقوياء يمثلون ارادة الشعب:إن عجلة العملية السياسية لا تدور بشكل صحيح إلا بوجود قوى سياسية تعمل على دفعها بشكل سليم و قوي، مسترشدة بقاعدتها الجماهيرية التي تمنحها الشرعية و القوة اللازمتين للدفع بتلك العجلة، حسب المسار الذي تختاره ما دامت تمثل ارادة اغالبية الشعب. وعلى العكس من ذلك، ففي التجارب السياسية الهجينة نجد على ان الاحزاب و الفاعلين السياسيين سمتهم الاساسية أنهم احزاب اوليغارشية، تتسع فيهم القمة على حساب القاعدة على شكل مثلث مقلوب، و بالتالي احزاب سياسية مقلوبة، مما سيقلب عجلة العملية السياسية رأسا على عقب، قبل ان تبدأ بالدوران.وما دامت القمة أعرض من القاعدة، فإن الرهان سيكون بلا شك على القمة في جلب الأصوات، خلال المواسم الإنتخابية.وهذا سيدفعنا الى التسائل عن ماهية هاته القمة؟ تتكون القمة في تلك الاحزاب الاليغاشية في غالب الاحيان من ثلاث عناصر اساسية، تبرز كنتيجة لواقع إجتماعي، سياسي، إقتصادي يفرزها و يذكى حضورها: ا) رجالات المال و الاعمال:حيث يمتلكون القدرة على تعبئة مستخدميهم خلال المواسم الانتخابية، قصد الادلاء باصواتهم لصالحهم، عن طريق صرف مكافات مالية لهم(رشوة)أو تشغيل احد اقاربهم، بالاضافة الى قدرتهم على شراء الأصوات، خاصة أصوات الناخبين الفقراء و الأميين، و تمويل حملاتهم الانتخابية من مالهم الخاص، موفرين على الحزب عناء ذلك، وقد تصل تكاليف الحملات الانتخابية لهاؤُلاء الى مبالغ مالية ضخمة، حيث يحاول كل واحد منهم اظهار قوته، و غناه الفاخش(كتوزيع صور لهم بالالوان،و اقامة الولائم، و إحياء السهرات التي تعج بنجوم الغناء و التمثيل...). ب) الزعماء القبليين و الدينيين:فهاوُلاء بالاضافة الى غناهم، و بالتالي امتلاك خصائص رجال المال و الاعمال، لديهم القدرة على التحكم في توجهات و اختيارات العديد من افراد القبيلة أو الطائفة أو الزاوية، مستغلين في ذلك عنصر العصبية. ج)المسؤولون النافذون في أجهزة الدولة و البيروقراطيون:إن هاؤُلاء يشتركون مع رجال الاعمال في أغلبهم باعتمادهم على المال كوسيلة لجلب شراء الاصوات، إلا أن ما يميزهم هو نفودهم القوي داخل أجهزة و موسسات الدولة السياسية، و الاقتصادية، و الادارية...نظرا للمكانة التي يشغلونها داخل هاته الاجهزة، و ولاء العديد من المشتغلين بها لهم، خاصة المقربون منهم، مما يساعدهم على إستغلال مناصبهم و مسوولباتهم العامة، قصد تحقيق مأربهم الخاصة، دون رقيب و لاحسيب. و بناء على ما سبق، فإن هذه الاحزاب و الفاعلين السياسين لا يستمدون مشروعيتهم و قوتهم من الشعب، من خلال تأطير المواطنين داخل احزابهم، و شبيباتهم الحزبية، و جمعياتهم الثقافية، و الاجتماعية، و إنما من كوادر و أطر و زعامات، في مجال المال و الأعمال و العرق و النفوذ داخل اجهزة الدولة. صحيح على أن كل تلك الزعامات لها من الإمكانيات ما يؤهلها لولوج المعترك السياسي، غير أن تنظيمها ضمن قالب حداثي أي كحزب سياسي بمبادء و رؤى و أفكار تؤسس لمشروعية هذا الكيان يظل صعب المنال، نظرا لطبيعة تلك الزعامات و همومها التي لا تتقاطع البتة مع طبيعة فكرة و مشروع الحزب السياسي و العملية السياسية بصفة عامة بكل مكوناتها و رهاناتها. ولعل الحزب الاخير، الأصالة و المعاصرة، الذي ظهر في المعترك السياسي المغربي خير دليل على المسار الهجين للكيانات السياسية من هذا النوع، و التي لا يعد هذا الحزب أولها بل ربما أخرها !!! إذا عدنا لكرنولوجيا ما يعرف بأحزاب المخزن أو الإدارة أو الدولة... التي أنشأها القصر في إطار إستراتيجيته الرامية لتمييع المشهد السياسي المغربي و قطع الطريق أمام أي جهة سياسية قد تنافسه مشروعية تمثيل الشعب و الحكم بإسمه، و على رأسها الكثلة الديمقراطية(الإستقلال، الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية، التقدم و الإشتراكية)، التي ووجهت بسلسلة من الأحزاب و التكثلات المخزنية منذ إستحقاقات (1976-1977) لتوسيع المجال الترابي و دائرة الأعيان فيما يخص الولاءات للقصر ، حيث تمت صياغة الفوز الساحق للشخصيات الملكية المنضوية تحت يافطة حزب التجمع الوطني للأحرار الذي تأسس مباشرة بعد الإنتخابات سنة1978 على يد أحمد عصمان، و الذي سبقه في سنة 1965 تأسيس ما سمي ب"جبهة الدفاع عن المؤسسات الديمقراطية" على يد رضى كديرة مستشار الحسن الثاني. سناريو التكثلات المخزنية لا ينفك عن الظهور تزامنا مع كل إستحقاق إنتخابي لضخ دماء جديدة في التكثلات السابقة عبر خلق أحزاب جديدة (تضم الزعامات التي أشرنا إليها سواء في مجال المال و الأعمال أو العرق أو النفوذ داخل أجهزة الدولة) توجت سنة 1983بتأسيس حزب الإتحاد الدستوري الذي سارع إلى تشكيل وحدة ظرفية مع كل من الحزب الوطني الديمقراطي و الحركة الشعبية تحت يافطة "الوفاق الوطني" لمواجهة الكثلة و الحد من التراجع الملموس للأحزاب المخزنية بعد إستحقاقات(1993-1992). لقد كان ظهور حزب الأصالة و المعاصرة و النتائج التي أقل ما يمكن القول عنها غير معقولة و غير منطقية بإحتلاله للرتبة الأولى في الإنتخابات الجماعية 2009، حلقة ضمن مسلسل الأحزاب المخزنية و الذي توجه بتأسيس « G8 »التي ضمت الأحزاب المخزنية التقليدية التجمع الوطني للأحرار، الإتحاد الدستوري، الحركة الشعبية، إضافة إلى الوافد الجديد الأصالة و المعاصرة و بعض الأحزاب الصغيرة ذات التوجه الإسلامي و اليساري كالنهضة و الفضيلة، الحزب العمالي، الحزب الإشتراكي، اليسار الأخضر، لدر الرماد على العيون حول حقيقة تلك الأحزاب و تكثلها. غير أن إندلاع الثورات العربية و رياح الربيع العربي التي كان للمغرب نصيبه منها عجل بإجهاض مشروع حزب الأصالة و المعاصرة، و الذي هو في الحقيقة أكبر من أن يكون مشروع حزب سياسي يستهدف مواجهة حزب العدالة و التنمية و إن كان هو الخصم الرئيسي له على الساحة السياسية في الفترة الراهنة، بقدر ما هو جزء من إستراتيجية طويلة المدى إعتمدها القصر لكبح أي مشروعية تنازعه مشروعية الحكم، مهما كانت توجهاتها و مرجعياتها الإديولوجية سواء أكانت يسارية أو إسلامية. إن أي مشهد سياسي تغيب فيه هذه المرتكزات و المقومات الثلاث :الديمقراطية، وجود طبقة إجتماعية متوسطة عريضة، وجود احزاب و فاعلين سياسيين اقوياء يمثلون ارادة الشعب، وإن وجدت مؤشرات إجرائية، كإجراء إنتخابات، و إقبال المواطنين على ألادلاء بأصواتهم، و تعدد الاحزاب (التي لاتحمل من مضمونها سوى الاسم) و المرشحين الى غير ذلك من مظاهر الممارسة السياسية... لايعدو أن يكون مشهدا سياسيا هجينا على اقل وصف. لذلك كانت الرهانات و التحديات المطروحة على حكومة بن كيران لإصلاح المشهد السياسي و ترميمه تتجه صوب تلك المقومات الثلاث لتعزيزها داخل المجتمع المغربي...
مقال سابق : رهانات إصلاح المشهد السياسي ما بعد إقتراع 25 من نونبر