رأيتني فيما يرى النائم في منامه ،وأنا أصول و أجول ،أعبر الأزقة والدروب بحثا عن لا شيء ،تائها في عالم بلا خرائط ولعبة نسيان بلا بداية ولانهاية، محاولا التأمل من اجل فهم ما جرى،ونسيان ما حدث ولكن دون جدوى،فللنسيان ذاكرته،وتعاندنا الذاكرة مرة أخرى ويتمنع النسيان فيتحالف الكل ضدنا . توقف بي المسير بمقهى"سامية"فوجدته جالسا يرتشف كاس قهوة،وبعصبية يحاول تقليب صفحات جريدة موهما نفسه بقراءتها في حين ان مظاهر الضجر كانت بادية على محياه، رغم محاولته إخفائها بابتسامة عريضة. قلت له حاول ان تنسى ولا تنبش في الجراح وتقلب في المواجع ،فرمقني بعينيه وقد أرعد وأزبد فقال بصوت مرتفع : كيف أنسى ما شاهدته ،ورجع الأحداث يأبى مفارقتي ،كيف أنسى رجالا على العهد سائرون،مهما خابت فيهم الظنون وكتبت عنهم التقارير ورفعت الى من يهمهم الامر. كيف أنسى اصواتا خرجت منددة بما راته ونامت اعين عن رؤيته، ونومت اخرى عن وصفه.اني لأسمعها من مكان قريب وهي تزحف زحف الربيع. كيف انسى جراحات وآهات مكسورة وقد اعتراها الوهن وخابت ظنونها في أناس كانوا سببا في مأساتها . كيف انسى كراكيزا اتقنت الدور إلى آخر فصول المسرحية على ايقاع موسيقى الغدر،لعنة التاريخ ستحل عليهم ،فقد دنسوا كرامتنا ومرغوها فوق التراب، لاحقونا عبر الازقة والدروب ولم ينذرونا او يعطونا الاشارة بالانصراف وكنا حينذاك سنلبي الدعوة لاننا قوم كرام لا نرضى بالذل.سيلاحقهم العار ابد الدهر ولن يجدوا له دفعا.سيندمون ولات حين مندم، حينما يساقون الى محكمة التاريخ سوقا،ويسجلون ضمن هامشه فيقال عنهم:"مروا من هنا". كم كانوا سيعظمون في اعيننا لو انهم قدروا فينا انسانيتنا ورفعنا الجهل عنهم وايصالهم الى ما هم عليه،ولكن أبوا إلا أن ينكروا المعروف ويأكلوا النعمة ويسبوا الملة ويمعنوا في الجحود والإنكار. خسئت قلوب هي في غلظتها وقسوتها اشد من الحجارة،وخسئت ألسن لا تتورع عن البوح بما لا يقال ضاربة عرض الحائط كل القيم الإنسانية ،خسئت من السن لم تنظف فمها قبل الحديث عن الشرفاء والأحرار الذين يحبون الخير للوطن ويسعون لإعلاء مكانته واسترجاع مجده،خسئت من السن نتنة تلك التي تفوهت بكلام قبيح فسبت الدين ورب الدين واستحلت كل المحرمات. بعدما أنهى كلامه أحسست بأعين غريبة جاحظة تتقلب كالحرباء تصوب سهام نظرها تجاهنا وهي تحاول ان تسجل ما قال دون ان تفلت كلمة واحدة،فقلت له في امان الله اودعك الان على امل اللقاء بك في ليلة اخرى... وتستمر الاحلام ويستمر معها رجع الاحداث وتابى الذاكرة من جديد الا الاسترسال في نبش جراح لم تندمل من اجل استرجاع جزء من الكرامة المهدورة.