يحكي الدكتور المهدي المنجرة في حوار أجرته معه أسبوعية الصحيفة(عدد 54-2002)، أنه في سنة 1960، استدعاه محمد الخامس رحمه الله، رفقة عبد اللطيف الفيلالي و أحمد عصمان و الخطيب( ليس الدكتور)، و ذلك بحكم اختصاصاتهم المتنوعة، و قال لهم بأن المغرب في حاجة إلى دستور..و هذا يتطلب أناسا لديهم تجربة و يعرفون جميع أنواع الأنظمة..و لكنه، كما يقول المنجرة، عوض أن يسألهم عن أرائهم، اكتفى بطلب خبرتهم. فكان ذلك سببا ليذهب د المنجرة إلى مدير الديوان الملكي و يقول له بالحرف : « أنا لا أؤمن بالدساتير التي تأتي من فوق..فالدستور أهم شيء، لأنه هو العين، و العين هي السيادة، و إذا كانت السيادة للشعب، فإن هذا الأخير هو الذي يجب أن يقرر مصيره بنفسه و يختار دستوره، و هذا بالأساس هو الذي كان وراء محاربة الاستعمار الذي أخذ السيادة من الشعب و جعلها في خدمته» فلم يعجب القصر هذا الموقف الجريء ! ما الذي تغير بعد أكثر من نصف قرن من الزمان؟ مازال المخزن هو هو، يحكم بنفس المنطق و بنفس التركيبة الذهنية، و يسعى لخدمة نفسه أكثر من خدمة المجتمع! و مقاصده واضحة كما يقول المنجرة..فرض الحكم و تطبيقه، و هذا ما يتنافى مع مبدأي المشاركة و الإستشارة اللذين هما أساس الديموقراطية. إنها نفس الصورة التي نسجها الخيال السياسي للفيلسوف الانجليزي "توماس هوبس" في القرن 17، و جسدها في نموذج " اللوفياثان" ..ذلك التنين المهول الذي يتمتع بقدر هائل من القوة و الجبروت و القدرة على البطش و الفتك، إنه مثال السلطة التي تتجمع فيها جميع السلط الأخرى و تخضع لها، و في المقابل يدفع الشعب ضريبة تفويضه، و ليس تعاقده، تفويضه لإرادته و حريته، بأن يلتزم طوعا أو كرها بإرادة اللوفياثان الذي من حقه أن يفعل ما يريد و يفكر و يغير بالطريقة التي يريد، مقابل أن يوفر لأفراد الشعب حقهم في البقاء و الاستمرار و الحماية من الأخطار الخارجية التي قد تهددهم! اللوفياثان لدينا في المغرب، ليس بالضرورة كائنا ماديا، بقدر ما هو موجود كبنية ذهنية متعششة في مؤسسات الدولة السياسية منها و المدنية و التي تناضل بقوة من أجل استمرارها. إن المخزن لم يعد حكرا على الدولة بمفهومها السياسي، فعقليته مترسخة في الأحزاب و الجمعيات و في المساجد و المستشفيات و المدراس و غيرها. بقي أن نشير أن الدستور و مسألة إصلاحه، كان يستعمل في البلدان المتخلفة كالمغرب، كجرعة مهدئة و مخدرة لكل توتر يعتقد أنه قد يهدد استقرار بنية النظام..لم يكن يراد منه علاجا حقيقيا أو تنمية حقة، لقد كان من نوع الأقراص سريعة الذوبان التي يمكن لغير المختص في الطب أن يصفها لأي مريض قصد إراحته و لو لفترة وجيزة من الألم! و كان يستعمل أيضا تزيينا لصورة البلد من الخارج ،و لا يهم إن كانت أعمدة البيت الداخلية آيلة للسقوط! مشكلتنا للأسف أننا نعتقد، في مغربنا، أننا نعد استثناءا.. و لا أدري حقيقة ما الذي نقصده بالضبط بكلمة استثناء؟ اللهم إلا إذا كانت تعني أننا كائنات من نوع فريد تسري عليها قوانين العمران غير تلك التي تسري على باقي سكان الأرض! و بالتالي فنحن، تبعا لهذا الشعار، قادرون على الحياة و لو كنا لا نتقاضى أجورا تتلاءم و ما نقدمه لهذا البلد من أعمال و خدمات..و لو كنا ، عندما تحل بنا أمراض غير تلك التي تعودنا تحمل ألمها، لا نجد في المستشفيات التي يسمونها زورا عمومية و مجانية ، لا نجد تطبيبا ولا دواء..و نحن سنكون أيضا قادرين على الحياة و لو كنا ضحية نظام تعليمي يجهز باستمرار على مكتسباتنا و قيمنا..و لو كنا ضحايا ظلم ممنهج يسمونه" عدلا" لا يعرف استقلالا و لا مساواة..و أيضا حتى لو كنا فقراء و أموالنا تسرق أمام أعيننا و تهرب إلى الخارج دون أن ينال سارقوها عقابا ..إننا الأقدر على الحياة و لو كنا نتلقى الإهانة كل يوم!..مرضنا العضال و المشترك هو أننا لم نتعلم و لا يوجد في قاموسنا كلمات للرفض..لقول.."لا"..إجاباتنا دائما كانت " نعم" ..حتى صرنا أبناء ال"نعم"..و مع ذلك، فلابد أن نعذر أنفسنا ما دمنا مغلوبين على أمرنا، ومادام أنه في الأخير لن ننال من الحظوظ أكثر من تلك التي نستحق، فكل عطاء مجاني فسيذهب جفاء و يتبدد كما يتبدد زبد البحر. و سنضطر لنعذر أنفسنا مرة أخرى، لأن نخبتنا التي من المفترض أن تمثل ضميرنا الحي و المتيقظ و لسان الحق الذي ينطق باسمنا، ظلت تخذلنا باستمرار، و لماذا لا تخذلنا و قد تم شراؤها بمديريات و وزارت و قروض و سفارات..و هاهي تقود حملتها النعموية( نسبة لنعم) حتى لا تتخلف عن العطاء..بقي في الأخير أن نتساءل ..أي اجتهاد بشري تفتقت عنه عبقرية لجنة إعداد مشروع الدستور الذي استطاع أن ينال هذا الإجماع الكبير..إجماعا بدون تحفظ! و أي ديموقراطية تستطيع أن تحقق أحسن البرامج المتنافسة فيها مثل هذا النجاح؟! ألسنا بصدد نظرية الدستور الأخير و نهاية التاريخ؟! نهاية التاريخ التي تفرض عليك ، كما يتصورها فوكوياما، طريقا واحدة و نموذجا أوحدا للحاق بالركب. نحن أيضا، إما " نعم" و نصنع المعجزة المهداة إلينا.. فندخل التاريخ من أوسع أبوابه ..و إما "لا" و سنكون متهمين في وطنيتنا و في احترامنا للملك!
عمود السيد عادل دريدر : http://www.4non.net/categories39.html