بقلم : عادل دريدر. كلميم [email protected] عندما انطلقت أولى شرارات الغضب و الرفض في تونس و مصر، و عندما تجرأ الشباب على أن يقولوا "لا" متحدين كل تبعاتها الحقيقية و المتوهمة، و عندما وصلوا إلى قناعة جمعية بأن البناء لم يعد يحتمل الترميم و الترقيع، و بأن هدم أعمدة مهترئة أفضل و أحسن بكثير من طلائها و زخرفتها، لتنزاح و تتيح الفرصة لأعمدة جديدة تتوفر فيها شروط الصحة و السلامة..عندما كانت مثل هذه الأحداث تتسارع، كان أولئك الذين على سمعهم و على أبصارهم غشاوة يستهزؤون و يبتسمون ابتسامات صفراء خبيثة، و ينعتون الثائرين ب(الحالمين) و (الفوضويين) ثم ب(العيال الصغيرين). لكن، عندما أخذوا يرون بأم أعينهم كيف أن هذه الشرذمة من الشباب قد جد جدهم، و بأن الشعب الذي كان مجمدا في ثلاجة كبيرة بدأ يستجيب لندائهم و يردد ما يقولون، انتابهم القلق و الخوف و ارتعدت فرائصهم، ليستبدلوا بأسطوانتهم القديمة أسطوانة بتأليف و لحن جديدين تدغدغ مشاعر الشباب ...نحن نفهمكم..أنتم محقون..سننظر فيما تقولون..سنتغير..سنصلح..سنتنازل..سنشرككم في الأمر..لكن دعونا و شأننا نلعب لعبتنا و نحتفظ بأدوارنا..لا نريد هوانا بعد عقود من المجد و الانتصارات! فكان أن أرسل الله عليهم جنودا يرونها، و سلط عليهم شعوبا طالما تسلطوا هم على رقابها و خانوا العهود التي تجمعهم بها، فمادت بهم الأرض من تحت أرجلهم و ضاقت عليهم بما رحبت، فكان ما كان مما كنت أذكره فظن سوءا و لا تسأل عن الخبر... في المغرب، كانت الأمنيات أن تغرب و تدفن ثورة الغضب في مهدها..أن تقطع أنفاسها. فكان في البداية سياسة اللين ممزوجة بالخوف و الترقب، و بعض الوعود، و الأحلام، و الرشاوى! فنظرية الكلب الذي يضطر ليطيع مولاه إذا ما استمر هذا الأخير في تجويعه، أثبتت أن مدة صلاحيتها محدودة، بل إن نتائجها قد تأتي معكوسة تماما، و قد يتحول الكلب إلى أسد جائع يبدأ أولا بافتراس صاحبه..فاهتدى السيد، ممثلا في المخزن إلى فكرة إغراء الكلب برشوة مزيفة ! إلى زيادة طفيفة في كمية الطعام و وعود بالطعام لمن لم يحصل عليه أصلا..صحيح أن الحصة المضافة لن تسد الرمق، و لكنها على الأقل ستستمر مدة أطول في دغدغة الأمعاء و الإيهام بأن في المعدة..يوجد طعام! و إذا كانت الاستعارة في اللغة تؤدي معان مجازية في المقام الأول، فإن الدولة المستبدة تأبى إلا أن تجعل منها حقيقة تمشي على الأرض و تأكل كما يأكل الدواب و كثير من الناس! و بصريح العبارة، و حتى لا نراوغ الكلمات فتصبح هي الأخرى تراوغنا..إن نظرية الكلب و السيد، ينطلق المشتغلون بها في بلدنا، من أن الشعب هو عينه الكلب في مملكة الإنسان! و إذا استثنينا سمة"الوفاء" من هذا الكائن، و طبعا ستستثنى مادامت مثل هذه القيمة لا يمكن صرفها في أي بنك أو الانتفاع بها! فلن يتبقى للشعب من سمات هذا الحيوان غير الصفات البهيمية عموما و الكلبية على وجهه التدقيق...و يبدو أن المقام ليس ملائما لسرد مثل هذه الصفات و تفصيل مساوئها. معنى ذلك أنه سيكون مفهوما على ضوء هذه النظرية، لماذا تستثني الدولة من قاموسها مصطلحات من قبيل الكرامة و العزة و الاحترام و غيرها مما يمت على دائرة الإنسانية بصلة، فما حاجة الكلب إلى التأمل في السحاب؟ عليه أن يحصر تفكيره أو بالأحرى غرائزه في " قطعة اللحم"...أي "لحم" ..و كفى. النظرية تقول في بندها الثاني، أن الكلب عندما لا يجدي معه أسلوب اللين، فسيجدي معه أسلوب الشدة و القسوة و العقاب مرة أخرى. و للسيد أن يبتكر، حسب مقدرته على التخيل، أي أسلوب يراه ملائما لكبح جماح الحيوان و إجباره على السمع و الطاعة، و إذا ما يئس السيد تماما من ترويض مثل هذا الكائن، إذا ما يئس، تقول النظرية، "أن أقتله" ..أو " استبدل به كلبا غيره"! و لا ندري حقيقة هل اهتدى الفكر السياسي لهؤلاء إلى الوصول إلى وصفة لكيفية قتل شعب بكامله أو استبدال شعب آخر به..هل سيتم اللجوء حتى في مثل هذه الحالات المستعصية، إلى الانتخاب و الانقلاب؟ انتخاب شعب ثم الانقلاب عليه! كل ما نعلمه أن الإنسان، على خلاف أي حيوان كان، كرمه الله تعالى و أمر مخلوقاته النورانية لتسجد له، و أن قتله لا يكون بالضرورة مقتصرا على تجويعه المادي، بل قد يكون أسرع و أشنع بتجويعه و حرمانه من القيم و المثل التي يحتاج إلى تنفسها حتى يستمر معه ذلك الإحساس الذي يشده إلى دائرة الإنسان..خليفة الله في الأرض. لأنه، لا قدر الله، يمكن أن يتحول الاستبداد و ثقل الإهانة اليومية، إلى سم يسري في الأجساد...حتى إذا ما عض مواطن، من فرط الانفعال و الغضب، كلبا...مات الكلب. و لله في خلقه شؤون و هو المستعان على ما تصفون. عمود الكاتب :