إذا كان من بصيص أمل للتّصدّي للفساد في هذه البلاد وإعلان الحرب على المفسدين، فهو معقود على أبناء الشّعب الذين يبحثون يوما بعد يوم عن طرق جديدة يمكن من خلالها القضاء على الفساد الذي أنهك البلاد والعباد. انخرط الشّعب المغربي في حملة المقاطعة بعد أن اكتوى بنار الأسعار، فسارع أصحاب التّعويضات الخيالية لاتّهامه، وحاولوا إقناعه بأنّ الدعوة مسيّسة وأنّ وراءها أيادِ خفيّة في خطوة للتّشويش على حملة المقاطعة التي نبعت من معاناة الشّعب. مقاطعة المنتوجات في المغرب وإن كان البعض يُبخّس من دورها ،وإن كان البعض يعتقد أنّها ضرب للاقتصاد الوطني، فإنّها هي السلاح الوحيد الذي أصبح في يد الشّعب لمواجهة شركات الجشع التي رفعت الأسعار إلى حد غير معقول أمام أنظار حكومة لا تُجيد سوى لغة الصّمت . أكثر من ستين عاما من استغلال ثروات البلاد، لم تدفعهم للتّفكير في أحوال الشّعب المقهور، ولم تدفعهم لمراجعة أسعار منتوجاتهم ،لكن عندما تكلّم الشّعب عن المقاطعة ،خرج أصحاب التعويضات الخيالية من مكاتبهم المكيفة بعد أن مسّتهم الضّراء، وبعد أن باتت مصالحهم في خطر، فناشدوا الشّعب ونبهوه بخطورة ما أقدم عليه، بل بعضهم ذهب بعيدا في حربه على الشّعب فربط مقاطعة المنتوجات بالخيّانة ووصف المُقاطعين بالقطيع، كلّ ذلك من أجل دفع الشّعب للتّراجع عن الخطوة التي أربكت حساباتهم وبعثرت أوراقهم. الخيّانة في وطننا أصبحت فزّاعة يستعملونها كلّما استيقظ الشّعب وكلما طالب بحقوقه المشروعة. ولمن أراد أن يفهم كيف ذلك، لا بد أن نعود به إلى الوراء ولو قليلاً وبالضبط عند احتجاجات الرّيف التي خرج فيها أبناء الريف سلميّا للتّعبير عن غضبهم من سيّاسات التّهميش التي طالتهم لعقود من الزّمن،فأقاموا الدُّنيا ولم يُقعدوها، فعسكروا الرّيف واعتقلوا العشرات من أبنائه واتّهموهم بخيّانة الوطن ،وما هي إلا أشهر حتّى خرجت جرادة عن بكرة أبيها، مُندّدةً بأوضاعها المزرية فسخّروا إعلامهم للترويج لرواية الخيّانة، و نفس الشيء يحدث مع المغاربة الذين انخرطوا في حملة المقاطعة. للأسف في بلادنا كلّ الطُرق الاحتجاجية تُؤدّي إلى الخيَّانة، ماعدا الصّبر على ظُلم شركاتهم التي تمتصّ عروقنا فهو القادر على أن يُدخل المغاربة إلى الوطنيّة من بابها الواسع، أمّا من يصرخ في وجه الفساد فغالباً ما ينزعون عنه ثوب الوطنية وكذلك حبّ الوطن. إزاء عجز الحكومة عن الاستجابة لأصوات الشّعب،وأمام فوضى الأسعار التي وصلت إلى حدّ لا يُطاق، من الطبيعي أن يتمرّد الشّعب على هذه الشّركات، ومن الطبيعي أن نرى الطّبقات الفقيرة تُعلن الحرب على لوبيات الفساد عبر حملة المقاطعة، فهذا أضعف الإيمان. لا نعرف حقيقةً ما هو المنطق الذي يُفكّر به هؤلاء ؟الاحتجاج في الشوارع خيّانة وإثم كبير ،وربما قد يخدم أجندات أعداء من يريدون بالوطن سوءاً، والاحتجاج عبر شبكات التواصل الاجتماعي هو الآخر خيانة. لا أحد يستطيع أن يُنكر أنّ الأسعار أرهقت كاهل المواطن المغربي،وخطوة المقاطعة خطوة منطقية ولا نرى فيها أيّ تهور أو صبيانية أو خدمة لجهة معينة كما يُروج بعض من يحاولون الحفاظ على مصالح أبنائهم. حتّى لو افترضنا أنّ هذه الحملة مسيّسة وأنّ وراءها من يريدون تصفيّة حسابات سيّاسية بغض النظر عن كل ذلك فإنّ المغربي الذي رفع شعار المقاطعة يعي جيدا أنّ ذلك يصُبّ في مصلحته، كما يعي أنّ الأسعار قد وصلت إلى حد لا يطاق، وتجاوزت قدرته الشرائية لذلك انخرط فيها بقوة دون الاهتمام بما يقال حولها. حملة المُقاطعة سلوك حضاري ودرس جديد لكل من كان يعتقد أنّ المغاربة أغبياء، وأنّه قادر على استعبادهم إلى أجل غير مسمى، وهي سلاح سلمي اختاره الشّعب للتّعبير عن رفضه لجشع الشركات بدل الخروج إلى الشارع، وبالتّالي تجنّب السُقوط في مُشاحنات بينه وبين الدولة ،وهذا أفضل ما حصل ولأوّل مرة في المغرب. الشّعب كان في قمة الذكاء هذه المرّة ،لم يفضل أن يعيد سيناريو المواجهات في الشارع، بل فضل البقاء في منزله ومقاطعة المنتوجات، وبذلك بدل أن يُحَاصر في الشوارع حَاصَرَ شركات الجشع وكبّدها خسائر فادحة في وقت قصير . الشّعب فهم اللّعبة جيّداً، وراح يُفكّر في طرق جديدة ربّما أنجع من سابقاتها من أجل التخلّص من الاستبداد ،وأظنّ أن من يُسيّرون شؤون البلاد يُدركون هذه الحقيقة. فإذا كانت الدّولة على الدّوام تعتقد أنّ الشّعب المغربي لا يمكن أن يفكّر خارج منطقها الذي يفرض عليه أن يرى ويصمت ، فإنّ حملة المقاطعة هذه ستفرض عليها التفكير في إعادة ترتيب أوراقها من جديد. من يُشكّك الآن في حملة المقاطعة ،ومن يُلبسها ثوب التآمر أو الخيانة لكونها اقتصرت على ثلاث شركات ولم تشمل جميع الشركات لا بد أن يفهم أن المُقاطعة كخطوة أوّليه، لا يمكن أن تشمل جميع المنتوجات وإن كُنّا نعتقد أنّها تحتاج إلى المقاطعة،فالمقاطعة الشّاملة لا يمكن أن تؤدّي إلاّ إلى حصار الشّعب نفسه بنفسه، وهذا ما لا نريد . بالرغم من حملات التّبخيس التي تتعرّض لها الحملة من طرف بعض وسائل الإعلام التي تحاول أن تُقلّل من قوة المقاطعة، إلاّ أنّ الواقع يُظهر بما لا يدع مجالاً للشّك أنّها حقّقت بعض أهدافها، وإلاّ لما خرجوا مذعورين، يُحاولون إقناع الشّعب بالتّراجع عن المقاطعة . الحملة أربكت أوراقهم وزلزلت عُروش الأباطرة الذين يَقتاتون على أحزان الشّعب، كما كشفت عن إمكانية المواجهة عبر الوسائل الاقتصادية والابتعاد ما أمكن عن الوسائل التّقليدية التي أظهرت الأيّام أنّها لم تجد نفعاً. صحيح أنّ المُقاطعة اختيار لا يمكن لأحد أن يفرضها على الآخر كُرهاً، كما لا يمكن لأيّ كان أن يُخوّن الآخر لمجرد انخراطه في هذه الحملة الحضارية . دعوا عنكم الصّراعات ،من شاء فليُقاطع، ومن شاء فليُمانع فالمقاطعة اختيار. دعوا عنكم البحث عمّن أطلق حملة المقاطعة على شبكات التواصل الاجتماعي، اتركوا ذلك للأجهزة الأمنية، فهيّ المُؤهلة لفعل ذلك ،لا تنشغلوا بمن كان وراءها المهم من كل ذلك أنّ المقاطعة قد نجحت. على الأقل يجب أن نعترف أنّ المقاطعة حقّقت نجاحاً كبيراً أرهبت الكثير ممن اعتادوا سرقة أموال البسطاء، من الذين لا يريدون النزول من أبراجهم العاجية لسماع صوت الشّعب ، لكن الحقيقة تُقال فالمُقاطعة أظهرت طينة هؤلاء الذين استعبدونا بشركاتهم، لمجرد إعلان الشّعب عن الحملة وهذا من حسنات المقاطعة .