جالت عيناه بين الصفوف المرتبة بعناية امامه ، تفقد القاعة الجميلة ،ستائر تتدلى أمام النوافذ الزجاجية المغلقة باحكام ، ألوانها فاتحة تغري بالحياة والاندفاع ، الكل منكب على معالجة أوراق بيضاء وضعت أمامه بنهم واضح. عاوده الحنين الى ماض قريب ، عندما كان يصبح على دعوات أمه التي تشيعه وهو يغادر البيت ، على ايقاع ابتهالاتها المتواترة ، بعد أن يشرب اللبن الأبيض أو يفطر على بيضة تيمنا ببياض يوم الامتحان. تحركت دواخله وجاشت بعواطف مختلفة ، يتنازعه فيها الحنين المفرط والسعادة الغامرة ، التي كانت تعمر في أوصاله أيام الباكالوريا. وفجأة قفزت الى ذهنه يوميات أحمد أمين... كان الأستاذ أحمد أمين يدرسه اللغة العربية ، طبع أيامه بطابع غريب ، كان يشده إليه دوما ، ويربطه به ربطا أبديا. كان طويلا معتدلا مشذب اللحية في أناقة ظاهرة من غير تكلف ، وديعا هادئا ، مبتسم الوجه دوما ، ودودا ووقورا الى حد بعيد ، كان كثيرا ما يأسر تلامذته بأسلوب تعامله الفريد ، يتعامل مع الجميع كما لو أنهم صاروا كبارا بالفعل ، ما جعل هذا الكبر يترسخ في رؤوسهم الصغيرة ، رؤوس حينها كانت مملوءة بعنفوان المراهقة وطيشها ، يمدها بكل تقلباته وفورانه الغريب ، يغذيه عشق دفين لأنواع الموسيقى الشبابية ، وحب كبير للتسكع في الأزقة والدروب ومشاهدة أفلام الهند الرومانسية في سينما السلام بزاكورة. لم ينس قط يوم دخل عليهم أحمد أمين يحمل كيسا ثقيلا كان قد ملأه عن آخره بكتيبات صغيرة ، تحمل مذكراته تشجيعا لهم على الكتابة ، منذ ذلك الحين دب في أوصاله حب الكتابة وعشق معانقة الأوراق البيضاء ، عشق بدا في الأيام القادمات كما لوكان يسرق أحلى أوقاته وأكثرها حميمية ، ذلك أن منادمة الأوراق والقلم بات يغتال سويعات الزوجة والأبناء. كم من مرة استيفظ من فراشه كي يخط كليماته في جوف الليل والناس نيام ، وتجده مرات أخرى يهب وقد حم يئن من فرط حرارته ليكتب لعله ينتعش برواء الكتابة ويعانق الراحة والشفاء... كل ذلك وأكثر مر بخاطره وهو يذرف دموع الأسى حزنا على أستاذه عندما علم بأنه أصيب بسرطان وهو يرقد في مستشفي مراكش ، هاتف زوجة الأستاذ ليطمئن على حالته ، كان يكلمها لأول مرة ، على الرغم من معرفته إياها عن بعد ، ذلك أنها كانت تسكن الحي نفسه الذي سكنه في طفولته. جاء الصوت من الجهة المقابلة خافتا حزينا مسجوناً ، يحمل هم زوج طريح الفراش ، بعد أن كان نابضا بالحب والحياة. عبر لها عن مكنون مشاعره تجاه أستاذه ، جاءت العبارات صادقة وهادئة دون تخطيط مسبق ولا تصنع : - كيف حاله أستاذي أحمد أمين ؟ -الحمدلله لا زال يرقد في المشفى -هل تحسنت حاله بعد تلقيه العلاج الكيماوي ؟ - نعم ، الحمدلله هناك تحسن طفيف وهو يتعاطى بشكل ايجابي مع جلسات العلاج ، وإن كانت مهمة و مضنية. نحى الهاتف جانبا ، ورماه بيده اليمنى بمحاداة سريره البني المتواضع ، لم يستطع إكمال حديثه مع الزوجة المكلومة ، وضع رأسه المثقل بين كفيه ، جلس القرفصاء جلسة صغير مذعور من بطش والد سادي ، لم ينبس ببنت شفة ، لكن آهة ساخنة ومريرة صعدت من باطن جوفه كأنها خنجر مسموم يخترق رئتيه ويشق أضلاع صدره بغير رحمة. تنهد تنهدا عميقا ، امتلأت مآقيه بدمع ساخن ، انحدرت دمعة بلورية دافئة تعبر طريقها بمحاداة أنفه الدقيق ، اختلطت بشاربه الهلالي الكث. نقل يديه اللتين كانتا تحيطان برأسه الأشيب ، كما لوكان يتحسس حبيبات العرق التي طفقت تتناسل فوق جبهته البارزة المحببة تناسل الفطر البري وقت انهمار المطر. قال متأوها : شافاك الله أستاذي الجليل. كانت زوجته حفيظة تجلس قبالته هامدة لا تتحرك ، لم تدر حقا ما حل بزوجها ، وما سبب تعاسته المفاجئة بعد أن أجرى مكالمته الأخيرة. علا وجهها وجوم وعبوس تخالطه حيرة ممزوجة بيأس وقنوط ، وكما لو تريد تبديد ما علق بذهنها من وساوس وظنون ، يغذيها عجز الزوج أمام قدرة علوية قاهرة تتحكم في مصائر الناس فوق أرض الله الواسعة ، قالت متلعتمة وهي تبحث عن كلمات تصلح لمثل تلك الحالات : ما المصاب الجلل؟ مابه أستاذك الجليل ؟ ودون أن ينظر إلى عينيها كعادته حينما يتحاوران في وقت الصفا والسلوة ، أجابها وصدره يعلو وينخفض في تنهد عميق وصفير كحشرجة مريض بربو مزمن : آه أستاذي أحمد أمين آه. أدركت حينها فقط مقدار المأساة التي تحيط بزوجها وتحاصر سعادته وراحته ، لأنها تعلم مقدار حبه أستاذه ، فقد كان بالنسبة له قدوة يقتدي بها في حياته ، فكثيرا ما حكى لها قرينها عنه عشرات الحكايا التي جعلته يعجب به كل الإعجاب. كانت الزوجة تدرك حقيقة علاقة زوجها بأحمد أمين ، لكنها في الوقت نفسه تخاف من تأثير الصدمة عليه ، لأن صلته بأستاذه كانت صلة أصل بفرع ، والفرع يهتز عندما يصاب الأصل برجة عظيمة. أردفت حفيظة مستدركة تيها طويلا : بكاؤك هذا لا يجدي. كان لحظتها غارقا في حزن عميق ، وفي تفكير وجودي جدلي طويل يستحضر عبثية الحياة ، دون أن ينسى ايمانه المتجدر بالقضاء والقدر ، سمع ما قالته الزوجة ، فحاول أن يجيب على الرغم من غيبوبته البادية على وجهه ، حمله تفكيره على الإستنجاد ببيت مأثور من الشعر القديم ، فقال متأوها : أعلم أنه لا يجدي ولكنه يشفي. - يشفي كيف ؟ ومم يشفي ؟ - من وجع المعاناة ، من ألم الضياع ، من غليان جوفي المثقل بالجراح ،من ارتجاف قلب مكلوم بآلام المرض الذي بات ينهش لحم أستاذي المتحلل ، المتساقط كل يوم تحت تأثير العلاج الكيماوي... - آه آه... أتصوره الآن ماثلا أمامي ، وقد بدا أصلع الرأس مقوس الظهر معقوفا لا يستطيع المشي ، تيبست رجلاه وفقد نضارة وجهه الباسم وقده المعتدل ، فغابت الإبتسامة عن محياه المنير. - سبحان الله مبدل الأحوال... - اتق الله يا رجل وعد إلى رشدك ، كل الأمور بيد الله وحده لا مقدرة لنا على تغيير الأقدار. - قال متأوها ومتنهدا : ونعم بالله ، ونعم بالله. ولاها ظهره وخرج من الغرفة التي كانا يتحادثان فيها ، كان يعلم يقينا صدق ما تفوهت به زوجته آنفا ، لكن الألم مايزال يجثم على صدره ويخترق دواخله فيحاصره إلى غير رجعة ، مازالت الكلمة الملعونة تحدث طنينا مدويا وفرقعة في أذنيه " سرطان القولون " .كلمة صارت تتكرر على مسامعه فتسيل مدامعه ، يكاد يختنق من ضيق تنفسه ، أحس بأوصاله ترتعش بات همه وقتها أن يستعيد أنفاسه المسلوبة ، كانت كلمات زوجته المذعورة تتناهى إلى سمعه ، تلاحقه من خلفه ، كان بوده أن يجيبها ، غير أنه لم يستطع. صفع الباب الخشبي من خلفه بقوة ، توارى عن ناظريها ، كان يخطو أدراج العمارة بسرعة جنونية غير معتادة. جر الباب الحديدي المؤدي إلى الخارج بقوة فدفعه خلفه ليحدث رجة ، سمعت دويها وهي تتوسط بآب مسكنها في الطابق الأول ، عادت مسرعة دون أن تشعر التصقت بالنافذة ، أطلت برأسها العاري على غير عوائدها ، كانت ترقب الزوج الهارب وهي تتألم بحرقة لحاله ، عيناها دامعتان تشيعانه إلى أن اختفى طيفه بين المارة في شارع ابن بطوطة.