تبخرت صورة الوجودي الثائر...انطفأت شمعته و تهافتت ثقافته...تشتت المعنى و غابت الفكرة ...ولطالما أنكر أن يكون الإنسان معطى ناجزا و نهائيا، أو عبدا مكسور الجناح، مذعنا لقيود تستلبه، تخنق رقبته...سيزيف في مكنته أن لا يكون سيزيفا . كأن الأمر لا يتعلق بصخرة عملاقة، و لعنة حذفت من السماء، وعذاب لا ينفك أن يتضاعف حدة و بأسا.ملأ زعيقه الدنيا، بحثا عن فرحة ضائعة ، وكأن به يبحث عن إبرة تائهة في كومة قش...صرخ:ليس الإنسان محصلة تابثة، بل هوية منفتحة متجددة...الإنسان يصنع ذاته باستمرار...يطارد ذاته الهاربة في اتجاه الأمام...نحو المستقبل..لن يكون غير ما يختار أن يكونه... شرب أحمد و سارتر من كأس واحدة، فنالت منه سكرة الفلسفة، وعنت له الحرية كنزا غريبا و مفتاحا لعالم فردوسي جميل.لكن، هل طبق تعاليم حبيبه سارتر؟! هل صنع ذاته كما يريد؟أأبدع حياته كما يرغب؟ انكمش في حجرة ضيقة رثة، تأويه وإخوته الخمسة مع أمه، أو الأم التي صارت أبا كما يطيب له تسميتها.بدت المسكينة حزينة مثقلة بالهموم...مكسورة الخاطر...نبساء كما الشجرة في فصل الخريف...مستلقية على لحاف أسود داكن مترهل ممدود فوق حصير قمحية بالية.جعلتها صلابة الأرض تنبطح على بطنها طلبا لراحة مفقودة. مازالت تشتكي أحمد الابن إلى الله، تستعين عليه بسلطتها الروحية و الاجتماعية. تشتكي بخله و قلة ما يعطيه لها من مال.فهو لم يرد الدين ،بأن يمنح أمه مقابل ما تجشمته من عناء في سبيل إعداد أستاذ بالثانوية... يتشدق بالحكمة...يشرئب لحياة وردية...لم يتوقع أن تكون يبابا. ربما النساء كلها لا تكف عن التذمر من الرجل مهما كان باسطا كفيه لتتهمه بالبخل و الشح.كرست الرزايا التي تهاوت على أم رأسه شعوره بالدونية والخجل والذنب، فكانت أفكاره وسلوكا ته صدامية كأنه في حرب دائمة...شخصية سوداوية مزاجية حادة الطباع.حياته بحرهائج و موجة غاضبة تذهب بأعزمايملك و تؤوب بما تبقى. قالت الأم حانقة:عليك أن ترجع كل ما أعطيتك من مال، مصاريف دراستك التي أثقلت كاهلي. أجاب أحمد:إذا كنت تريدين منحة عام كاملة أعطيتك إياها...لكن بشرط. الأم:قطعت الواد ونشفت رجليك...وبت تشرط علي...كبر شأنك أيها الخنفس...وصار معك مال تبتزني به. أحمد:أمي خذي المال وسأعطيك كل شهر مصروف البيت، وما ترغبين...لكن لا أريد رأيتك تزفين عروسا إلى الشارع كل ليلة...أيتها العجوز الجميلة. الأم:أنا أمقتك...أكرهك...رحل أبوك وحللت مكانه...لن ترتاح حتى ترسلني إلى القبر. أراد أحمد أن يسترد كرامة ضائعة أهدرها تآلف الجهل و العوز...بيد أن الكرامة و الشرف كعود الثقاب إذا اشتعل مرة خمد أبدا. إن أمي لم تستسلم...ماذا سأفعلَََََ! كم كنت أشعر بالذنب، وأنا جالس في مدرج أستمع إلى المحاضرة.كم خلت نفسي حقيرا وانتهازيا...وأنا أطالع أمهات الكتب في الفلسفة...لا بل كانت مراجع رديئة و ترجمات سطحية...لا ألوي لساني بأي لغة أجنبية فأنا لا أتكلم لغة عدا العربية. لكن لماذا أشعر بالذنب؟!لقد قاومت أمي ما استطعت!راكضا وراءها باكيا من زقاق إلى آخر.راجيا إياها ألا تفعل وأن نترجى أبي ونقبل رجليه...ربما يقدس هذا الطقس من الخضوع والمذلة،فيثنيه عن بغيه ،وهو الذي سولت له دوافعه التدميرية بركلها عقب مضاجعتها والوطر منها....لغريزة الحياة وغريزة الموت الأصل ذاته،ذروة لذته متجذرة في مزج عجيب بين الحب و الكراهية...رحل الرجل وخلف عياله يتخبطون في صنيعه. لعله طفح به الكيل من معاشرة زوجته مذعورا أن يتفطن له عياله،أما هي فكانت لا تذعن لرغباته تلجم الأنثى التي بدواخلها،تحجم عن الظهور بغير دور الأم الوقور،معلقة بين الطهارة و النجاسة وسط لهيب الشهوة و لذة العفة والشرف. صرخت الأم:إذا نبست بكلمة طردتك أيها الطفل أو أرسلتك إلى السجن أيها العاقٍٍٍِِ. رد ممتشقا:أنا لا ذنب لي في ما وقع. أماأنا فعلت ما فعلته على مضض...أحسبت أن بيعك لسجائر يكفي حاجتنا؟ألا تهدرما تكسبه من دراهم معدودات في اقتناء كتب منسوخة؟ رجع أحمد إلى البيت مرتديا أجمل ما عنده، فقد أخذ لنفسه ملابس فخمة فهو الآن أستاذ بالثانوية، لكن تأنقه و تكلفه لم يكن من عادة المتفلسفة في شيء.تراه مقوس الظهر مرتخيا،بالكاد يهز رجليه على الأرض وكأنه خاضع لجاذبية مضاعفة،ضمر تمرده وخبا بريق الشباب في عينيه،فالأفكار الثقيلة يتحمل عبءها الجسد،الذي بدا وكأنه يستغيث من رأسه المحشوة بالهموم والأفكار السوداء.لن تحسبه أبدا أنه كان في موعد غرامي مجالسا خليلته،لن تتصوره غارقا في الحب،يرشف أقداحا من العشق والهوى. داهمته أمه بصوت حاد:أنت لا تجمع المال و تبذره في شراء الكتب،وتراكم الملابس في هذا الجحر العفن،وتصرفه على دميتك الذميمة.أنا المسكينة تكبدت الصعاب ،وعانيت لأجل أن تصير أستاذا.أتريد أن تتزوج وتتركني، أكلتني لحما ورميتني عظما. أحمد:أنت لا تدركين أنني أرسلت لأدرس في الجنوب، مصاريف التنقل والسكن أثقلت كاهلي.آه الوظائف القريبة الشاغرة منحت لأصحاب الحال و سلاطين الزمان،امتلأت جيوبهم وجفت عقولهم فكان حظهم أوفر.فلا عجب أن يتهم أستاذ للفلسفة زميلا له بالإلحاد...إذاظهرالسببب بطل العجب،لكن أمي لن تفهم هذا. تبددت أحلام أحمد الواحدة تلو الأخرى...لم يكمل دراسته العليا بالجامعة،لم يصلح ما أفسده أبوه...وباتت علاقته بمحبوبته على كف عفريت،سكبت في روحه شيئا من الوداعة والرقة فاستسلم لمشاعر العطف والحنان كالطفل. صاح مهلوسا:لماذا الأموات يحكمون الأحياء ؟لماذا حياة لعينة مليئة بالأخطاء ترخي بظلالها على حياة بالكاد تتفتح؟لماذا علي أن أدفع ثمن أخطاء لم أرتكبها. أحمد أنت امتداد لأمك فلن تكون إلا كما أرادت، رغبتك أنت هو ما ترغبه أمك، بل إنك إناء تخزن فيه ما مر بها من ويلات ومصائب، ربما أنت الرجل الأول في حياتها، وتذكر أن الجنة تحت أقدام الأمهات. أشعر أني متورط في وجودي...مغلوب في أمري كائن هش وهن...معلقا في فوضى الفكرو الرغبة...تائه بين المعنى واللامعنى في جاذبية الحقيقة وحسرة التيه والضياع في شركها... لماذا تخشى على نفسك من الحرية؟لا تقدس الحياة والحرية،تعزل ذاتك في وضعيات نهائية و واجبات سخيفة ومبتذلة...أملتها تجارة الحب و الزواج. تهرب من حضن الأم إلى أحضان الزوجة،تستعيض أنثى بأخرى...تفر من قيد أمك التي كيف ما كان الحال ضحت بأثمن ما لها لأجلك،لتسقط في عقال أنثى أقل وفاء وإخلاصا...من الأسرة إلى الأسرة تتخبط بين الأنثى والأنثى...سطحية و بالية،سهلة الاستمالة لا يؤتمن جانبها،نفعية وحرفية حريصة على العادة و المألوف،طقوس ومراسيم جوفاء رتيبة...فارغة من المعنى...يولد الإنسان حرا لكنه مكبل بالأغلال في كل مكان. انتفض أحمد وأرسل لها قائلا:وجدتك سهلة الاستمالة،ذميمة الخلقة،مجربة.... تعوضين نقصك بإنكار الوفاء، تخونين ولا تخلصين، لن يقتنع بك إلا خائن مستهتر أو رجلا بدون كرامة لا يخلص إلا لمأربه....ألمت به حالة من الهوس و الاكتئاب. إستحود عليه التعب والنعاس،فألقى بٍرأسه على الوسادة وراح في النعاس،أخذ قسطا من الراحة تنسيه عناء الوجود في هذا العالم. لكنها أتته في المنام،سمراء سامقة ونحيفة،بدت رقيقة وديعة،جميلة كفاية وأنثى للغاية،حاملة مصحفا في يدها...بدت مستسلمة ومذعنة، لغزارة الود والرجاء رنت بمكر شديد إشباع عدوانيته وتبديد قلقه وخوفه منها .