في الذكرى التاسعة والأربعين للمسيرة الخضراء، ألقى الملك محمد السادس خطابا شاملا وموجها استراتيجيا، سلط فيه الضوء على إحدى القضايا الوطنية ذات الأبعاد الاستراتيجية، وهي دور الجالية المغربية المقيمة بالخارج في المساهمة في مسيرة التنمية الوطنية، وقد تميز الخطاب برؤية متكاملة تدمج بين التقدير الكبير لمغاربة العالم على التزامهم بقضايا الوطن ومشاركتهم في الدفاع عن وحدته الترابية، وبين الإقرار بضرورة استغلال الإمكانيات الهائلة التي يزخرون بها على المستويات الاقتصادية والعلمية والثقافية. وفي سياق التحولات العالمية الراهنة، حيث أضحت الموارد البشرية والكفاءات الوطنية في الخارج رصيدا استراتيجيا لأي بلد يطمح إلى تعزيز مكانته الاقتصادية والسياسية، جاء الخطاب الملكي ليطرح مقاربة جديدة تهدف إلى معالجة الاختلالات والتحديات التي تواجه مغاربة العالم، خاصة في ما يتعلق بتبسيط الإجراءات الإدارية، وتعزيز الحوافز الاستثمارية، وتمكينهم من المشاركة الفعالة في المشاريع التنموية الكبرى، كما شدد الخطاب على أن توجيه التحويلات المالية للجالية نحو الاستثمار الإنتاجي، عوض الاقتصار بشكل أكبر على الدعم الأسري، يمثل فرصة كبيرة لتحويل هذه الموارد إلى طاقة اقتصادية مستدامة. واستجابة لتطلعات مغاربة العالم، دعا الملك إلى إعادة هيكلة الإطار المؤسساتي المعني بشؤون الجالية لتجاوز مظاهر تشتت الجهود وتداخل الاختصاصات، عبر خلق آليات فعالة تدعم الانخراط الكامل لهذه الفئة في التنمية الوطنية. وتأتي هذه الدعوة كجزء من رؤية أوسع تهدف إلى تعبئة الكفاءات والخبرات المغربية بالخارج، والاستفادة من مواردهم المالية والعلمية والثقافية، بما يعزز مكانة المغرب كدولة حديثة تسعى إلى بناء اقتصاد متنوع ومستدام. تشكل تحويلات مغاربة العالم أحد الأعمدة الاقتصادية الرئيسية للمغرب، حيث بلغت قيمتها حوالي 113 مليار درهم في سنة 2023، ومن المتوقع أن تتجاوز 120 مليار درهم في سنة 2024. وتوفر هذه التحويلات مصدرا ثابتا للعملة الصعبة، مما يجعلها دعامة أساسية للاستقرار الاقتصادي، إلا أن توزيعها الحالي يعكس ضعف الاستفادة منها في تعزيز التنمية، إذ تخصص 60% من هذه التحويلات للدعم الأسري، و30% للادخار، بينما لا تتجاوز نسبة التحويلات الموجهة للاستثمار الإنتاجي 10%، هذه النسبة الأخيرة، رغم أهميتها، لا تعكس الإمكانات الكاملة لهذه الموارد، مما يبرز الحاجة الملحة إلى آليات تحفيزية وسياسات شاملة قادرة على توجيه جزء أكبر من هذه التحويلات نحو الاستثمار في مشاريع ذات قيمة مضافة، تساهم بشكل اكبر وأوسع في بلورة الأهداف التنموية الوطنية. في ظل الرؤية الاستراتيجية الجديدة التي أعلن عنها المغرب، والمتمثلة في الميثاق الوطني للاستثمار والنموذج التنموي الجديد، تطرح تحويلات مغاربة العالم كرافعة محورية لتحقيق تحول اقتصادي يهدف إلى تعزيز مساهمة القطاع الخاص في الاستثمار، حيث يهدف هذا النموذج إلى جعل ثلثي الاستثمارات في المغرب استثمارات خاصة، مع تخصيص الثلث فقط للاستثمار العمومي، حيث تبرز تحويلات الجالية المغربية بالخارج كمورد استراتيجي لدعم هذا التحول، إذ يمكن أن تصبح محركا أساسيا لتعزيز دينامية الاقتصاد الوطني، شريطة توفير إطار ملائم يحفز هذه الجالية على استثمار مدخراتها في مشاريع منتجة تساهم في خلق فرص الشغل وتنمية القطاعات الاستراتيجية. ورغم الإمكانيات الكبيرة التي تمتلكها الجالية المغربية بالخارج، فإن توجيه تحويلاتها نحو الاستثمار يواجه تحديات عدة، أبرزها تعقد المساطر الإدارية وضعف الحوافز الضريبية والمالية، إلى جانب غياب خدمات بنكية متخصصة لدعم المشاريع الاستثمارية، وهنا يمكننا أن نقدم رقما صادما في ما يتعلق بتمويل ودعم استثمارات مغاربة العالم، فعلى سبيل المثال، لم يتجاوز عدد الملفات التي جرى اعتمادها في إطار برنامج تشجيع الاستثمار لفائدة مغاربة العالمInvest MDMبين 2002 ويونيو 2022 ، ما مجموعه 48 ملفا، ما يثبت بشكل واضح غياب أي إرادة أو أي تصور لتحفيز مغاربة العالم للاستثمار في بلادهم ، هذا بالإضافة إلى أن غياب الشفافية ووجود مظاهر الفساد تساهم بشكل كبير في تعزيز انعدام الثقة في البيئة الاستثمارية المغربية. ورغم هذه التحديات، فإن الفرص المتاحة لتجاوزها باتت أكثر وضوحا مع اعتماد الميثاق الوطني للاستثمار، الذي يوفر حوافز مالية وضريبية ملموسة، إلى جانب إنشاء صناديق استثمارية منفتحة على دعم مشاريع الجالية، ستساهم، بلا شك، في تعزيز استثمارات مغاربة العالم في وطنهم الأم، فتوجيه تحويلات مغاربة العالم نحو الاستثمار لا يمثل فقط وسيلة لزيادة تدفق الاستثمارات الخاصة، بل هو أيضا استراتيجية لتحفيز التنمية المستدامة، فتحويل هذه الموارد نحو قطاعات ذات قيمة مضافة، مثل الزراعة الحديثة، الطاقات المتجددة، والصناعات التحويلية، يعزز من تنافسية الاقتصاد الوطني ويخلق فرص عمل ذات أثر اجتماعي كبير. كما يمكن أن تسهم استثمارات الجالية في نقل المعرفة والخبرات التكنولوجية من دول الإقامة إلى المغرب، مما يسهم في تحديث القطاعات الإنتاجية وتطوير البنية الاقتصادية للبلاد. البقية ص04 في ضوء رؤية النموذج التنموي الجديد والميثاق الوطني للاستثمار، تتجلى ضرورة إعادة النظر في السياسات الموجهة نحو مغاربة العالم، من خلال تبسيط الإجراءات الإدارية، تحسين الشفافية، وتوفير بيئة استثمارية جاذبة. ومع تطبيق هذه الإصلاحات، يمكن للجالية أن تتحول من قوة داعمة عبر التحويلات إلى شريك حقيقي في قيادة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمغرب. إن نجاح هذه المقاربة يتطلب إرادة جماعية لتعبئة موارد الجالية وكفاءاتها بالشكل الذي يحقق طموحات البلاد التنموية ويعزز مكانة المغرب كوجهة اقتصادية جاذبة ومتجددة. توجيه تحويلات مغاربة العالم نحو الاستثمار ليس مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب اقتصادية فورية، بل يمثل استراتيجية شاملة وطويلة الأمد تهدف إلى تعزيز التنمية المستدامة في المغرب. إن توجيه هذه الموارد نحو مشاريع إنتاجية ذات قيمة مضافة، مثل الفلاحة الحديثة التي تعتمد على التكنولوجيا لتعزيز الإنتاجية، وقطاع الطاقات المتجددة الذي يُعد ركيزة استراتيجية في تحول المغرب نحو اقتصاد أخضر ومستدام، بالإضافة إلى الصناعات التحويلية التي تضيف قيمة أكبر إلى المواد الخام، يعزز من تنافسية الاقتصاد المغربي على المستوى الدولي، هذه الاستثمارات لا تسهم فقط في خلق فرص عمل مستدامة بل ترفع من مستوى الابتكار وتعزز من قدرة الاقتصاد الوطني على التكيف مع التحديات الاقتصادية العالمية. إلى جانب ذلك، يمكن لاستثمارات الجالية في هذه القطاعات أن تكون محركا حقيقيا لتحقيق رؤية النموذج التنموي الجديد، الذي يسعى إلى بناء اقتصاد شامل ومتوازن يضمن توزيعا عادلا لعائدات النمو وتقليص الفوارق المجالية، ومن خلال إستقطاب تحويلات الجالية نحو مشاريع تنموية في المناطق المهمشة، يمكن تحقيق تكامل اقتصادي بين مختلف الجهات، بما يسهم في خلق فرص اقتصادية جديدة وتحقيق التنمية المتوازنة. كما أن استثمار تحويلات الجالية يحمل بعدا يتجاوز الجانب المالي، إذ يمكن أن يكون وسيلة لنقل المعرفة والخبرات المكتسبة في دول الإقامة إلى المغرب، فمغاربة العالم الذين يتمتعون بخبرات في مجالات التكنولوجيا الحديثة، الطاقة، والصناعات المتقدمة يمكنهم لعب دور محوري في تحديث القطاعات الاقتصادية الوطنية، وهو ما من شأنه أن يعزز من قدرات المغرب على الابتكار، ويرفع من إنتاجية القطاعات الرئيسية، ويعزز من مكانته كوجهة استثمارية تنافسية في المنطقة. ختاما، يجسد الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى التاسعة والأربعين للمسيرة الخضراء رؤية استراتيجية واستشرافية لدور الجالية المغربية المقيمة بالخارج في مسيرة التنمية الوطنية، حيث كان هذا الخطاب اعترافا رفيع المستوى بأهمية وحيوية مغاربة العالم في دعم الاقتصاد الوطني، خاصة في ظل التحديات غير المسبوقة التي فرضتها جائحة كورونا والأزمات الاقتصادية العالمية على الاقتصاد المغربي، حيث أثبتت الجالية التزامها العميق بوطنها من خلال ارتفاع تحويلاتهم المالية من حوالي 60 مليار درهم سنة 2019 إلى 113 مليار درهم سنة 2023، مما جعلهم شريانا أساسيا لدعم استقرار البلاد الاقتصادي، هذا الارتفاع القياسي في التحويلات لا يعكس ليس فقط ارتباط الجالية بوطنها، بل أيضا قدرتها على لعب دور استراتيجي في تعزيز التنمية الوطنية. لقد شكل الخطاب الملكي خارطة طريق شاملة ترمي إلى تحويل الدعم المتواصل الذي تقدمه الجالية المغربية المقيمة بالخارج إلى شراكة مستدامة تسهم في تحقيق الرؤية التنموية الطموحة للمغرب، شراكة لا تقتصر على البعد المالي المتمثل في التحويلات القياسية التي دعمت الاقتصاد الوطني خلال أصعب المراحل، بل تمتد إلى تعبئة الكفاءات والخبرات التي تزخر بها الجالية في مختلف المجالات، وجعلها جزءا لا يتجزأ من مسيرة التنمية الوطنية، فمن خلال هذه الرؤية، يفتح الخطاب الملكي آفاقا جديدة أمام مغاربة العالم للمساهمة الفعالة في القطاعات ذات الأولوية، مثل التكنولوجيا، الطاقات المتجددة، والصناعات الحديثة، بما يعزز من تنافسية الاقتصاد المغربي على المستوى الدولي. كما أن هذه الرؤية تسعى إلى تجاوز الأدوار التقليدية للجالية، لتحولها إلى شريك استراتيجي في مواجهة التحديات المستقبلية، سواء أكانت اقتصادية، اجتماعية، أو تنموية، فبهذا النهج، لا يعكس الخطاب الملكي فقط التزاما سياسيا نحو الجالية، بل يشكل دعوة صريحة لبناء مستقبل مشترك يستفيد فيه الوطن والجالية معا من الإمكانيات والفرص المتاحة لتحقيق تنمية شاملة ومتكاملة.