لا أدري حقيقة إن كان هذا التسارع المهول في التطور الذي عرفته هذه الآلات التكنولوجية التي أصبحت تشاركنا الطعام و الشراب، و تتقاسم معنا غرف النوم و اليقظة، وترافقنا في حركاتنا و سكناتنا، و لا تستحيي أن تزاحمنا حتى في ولوج المراحيض –أعزكم الله-… لا أدري إن كان هذا الأمر مسؤولا عن التدهور و التراجع الذي أصاب نسب ذكاءاتنا، و عن البلادة التي ضربت بنسجها على شعورنا و قدرتنا على التمييز بين الحسن والقبيح و بين الضار و النافع، أم أن هذه الأجهزة لم تفعل شيئا غير أنها كشفت عن أمراضنا النفسية و الاجتماعية، وعن الغباء الذي أصبح عنوانا للكثير من سلوكاتنا و تصرفاتنا اليومية. لقد كنت أتساءل لماذا يصر الناس على وضع تلك الغشاوة أمام أعينهم عندما يجدون أنفسهم فجأة أمام منظر طبيعي، وعوضا أن يمنحوا أنفسهم أولا فرصة للتأمل و التمتع بالجمال الذي من حولهم، فإنهم يتصرفون كآلات مبرمجة على حركات ميكانيكية محددة..يخرجون الهواتف وآلات التصوير، و يشرعون في " قتل المشاهد الحية" التي تنبض بالحياة..و يحولونها إلى "مومياوات" جوفاء تتكفل ذاكرات أجهزتهم " الذكية" بتخزينها و مراكمتها، لعلهم يؤلفون بواسطتها سيرا ذاتية مطولة، تكون خالية من المعنى و موغلة في السطحية، يزينون بها صفحاتهم الإلكترونية…و مع ذلك، فقد اعتدنا على هذا الإخراج السيئ لمسلسل حياتنا، فتعودنا على أن يلعب البعض منا دور الممثل أو المخرج بينما يقوم البعض الأخر بدور المتفرج، ثم لا نلبث أن نتبادل الأدوار فوق خشبة افتراضية ألهتنا حتى عن التفكير في ذواتنا!..عندما كنت أتصفح أخبار عالمنا الغريب، فاجأني خبر غريب!...شاب أسترالي يقوم بتصوير لحظات ولادة زوجته و أم أولاده، و هي تئن من الوجع و ألم الولادة…صورها، بكل أريحية و ثقة في النفس، لحظة لحظة لما يقارب الساعة من الزمن، و المسكينة شبه عارية و تتألم وسط زمرة من الممرضات المنشغلات بتوليدها..و ليتوج المغفل بطولته التاريخية، نشر هذا " الفيلم الدرامي" على موقع التواصل الاجتماعي، ليشاهده العالم بالمجان و يسخر من سذاجته و يتعجب لوقاحته!..قد لا يكون هذا السلوك غريبا تماما عما أصبح يقوم به الكثير منا و يتبجح به، و إلا فماذا يعني أن يتجرأ بعضنا على تصوير ضحايا حوادث سير مميتة و هم يتمرغون في دمائهم ليعلقها على " حائطه"، و يحصد من خلالها علامات الإعجاب و التقدير؟!..و ماذا يعني أن تنتهك خصوصيات الأفراد في مساكنهم و أسواقهم و منتدياتهم و مساجدهم و حماماتهم، لتصنع بها فرجة مبتذلة؟!..و ما يعني أيضا أن يتحول الأطفال الرضع و غير الرضع إلى دمى نتفنن في وضع الواحد أو الاثنين منهم داخل آلة تصبين.. أو طنجرة ضغط.. أو بطيخة كبيرة ( دلاحة).. أو قنينة... لتلتقط لهم صور في مثل هذه الوضعيات التي ينبغي أن تخلق في دواخلنا نوعا من الشفقة و الأسى، و ليس الرغبة في الضحك و التهكم؟!...ألسنا نتحول، بهذه الطريقة، إلى كائنات غبية مفتقدة للنبل و الشعور تعري، بواسطة هذه " الآلات الذكية"، أمراضها الدفينة؟...أليس يفرض علينا الخوف من أن تصطادنا عدسات اللئام و أجهزتهم أن نحمل فوق صدورنا و على ظهورنا يافطات كتب عليها بالخط العريض: " ممنوع التصوير"!!.. ربما لهذه الأسباب و لغيرها، أنصح أولئك الذين يملكون ، " هواتف غبية"، والذين قد يستحيون من إظهارها أمام الملأ، أن يفخروا بممانعتهم ضد القيم اللاإنسانية التي أصبحت تعشش في ذكاء الآلات، و بأن يعوا بأن التفوق الحقيقي و التنافس الشريف، ليس في غلاء أسعار مقتنياتهم و كثرة وظائفها و زخارفها، و إنما يكمن في القيم التي تحكمها و توجهها إما إلى ما ينفع الناس فيمكث في الأرض…أو إلى " زبد" لا ينفعهم..فيذهب جفاء…و لله الأمر من قبل و من بعد و هو العزيز الحكيم.