خلال السنوات الأخيرة كثر الحديث عن التنمية في الأقاليم الجنوبية و خصوصا بعد خروج الورقة التأطيرية لتنمية هذه الأقاليم، التي أعدها المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي، هذه الورقة أعلنت و بكل وضوح أن النموذج التنموي الحالي قد بلغ مداه، مما يستوجب إيجاد نموذج تنموي بديل و جديد يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات السياسية، الاقتصادية،الاجتماعية،الثقافية، الجغرافية و المناخية لمنطقة الصحراء، ليقوم نفس المجلس بعد ذلك بإعداد تقرير آخر يكشف فيه عن ملامح النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، الذي أعطى من خلاله الوظائف الاقتصادية لكل جهة من الجهات الثلاث، لنشهد في الأخير إعطاء الانطلاقة للمخطط التنموي الجديد. فمن هذا المنطلق يوجد سؤال ملح يتبادر إلى ذهن جميع المهتمين بالشأن التنموي المحلي، ألا و هو: أي نموذج تنموي نريد ؟. للإجابة عن هذا التساؤل لابد من تشخيص دقيق و تحليل عميق للواقع الاقتصادي و الاجتماعي في الصحراء للوقوف على الاختلالات التي تعوق التنمية في هذه المنطقة، ليتم بعد ذلك بلورة تصور واضح حول واقع التنمية في المنطقة،و من تم اقتراح المداخل و الأسس لنجاح أي نموذج تنموي في هذه المنطقة. 1- تشخيص و تحليل النموذج التنموي الحالي: إن تحليل النموذج التنموي الحالي يظهر مفارقات عديدة بين الأرقام و النتائج المحققة و ذلك نظرا للحجم الكبير للاستثمارات العمومية المخصصة للمنطقة، والواقع التنموي لهذه الأقاليم، إذ تعتبر الدولة هي المستثمر الأول في الجهات الجنوبية، لكن بالرغم من ارتفاع نسبة الاستثمار العمومي إلا أن مؤشرات البطالة، و الفقر و التهميش و الهشاشة لا زالت مرتفعة، مما يؤدي الى المزيد من الاحتقان و التوترات الاجتماعية المتكررة في المنطقة. أما بالنسبة للاستثمار الخاص و المبادرات الفردية فإنها ما زالت محتشمة و غير كافية ، مما يطرح التساؤل حول نجاعة السياسات العمومية التي تهدف لتشجيع الاستثمارات الخاصة و المبادرات الفردية في الصحراء. من خلال التشخيص الدقيق لواقع التنمية في الصحراء يمكننا الوقوف على مجموعة من الاختلالات الجوهرية التي تحول دون اقلاع اقتصادي حقيقي في هذه المنطقة، إذ أنه بالرغم من ارتفاع المبالغ المرصودة للاستثمار العمومي فإنها تخصص فقط للتجهيزات و البنيات التحتية. كما أن غياب استراتيجية واضحة للتنمية في هذه الأقاليم تتمحور حول العنصر البشري باعتباره العمود الفقري للتنمية، يحول دون تحقيق التنمية المنشودة، اضافة الى غياب مبادئ الحكامة الجيدة في تدبير الأموال العمومية،و استغلال النفوذ من طرف بعض الأعيان و شيوخ القبائل و المنتخبين للاغتناء من المال العام عن طريق تفويت الأراضي، التهريب ،واستغلال رخص مقالع الرمال و الصيد في أعالي البحار. 2- أسس و مداخل التنمية الحقيقية في الأقاليم الجنوبية: بداية التسعينيات أصدر البنك الدولي أول تقرير حول التنمية البشرية أشرف عليه الاقتصادي الهندي "أمارتيا صن"، هذا المفكر يرجع له الفضل في ابتكار الصيغة الجديدة لمؤشر التنمية البشرية، التي تقوم على عدم حصر مؤشر التنمية البشرية في الناتج الداخلي الخام فقط، اذ أكد على ضرورة ادخال مؤشرات أخرى و ذات أهمية كبيرة،و هي الكفيلة بإعطائنا الوجه الحقيقي للتنمية في كل دولة من دول العالم، مثل مؤشر الأمية ، التعليم، و مؤشر أمد الحياة. أعطى أمارتيا صن في كتابه "التنمية و الحرية" تعريفا جديدا لمفهوم التنمية، هذا التعريف شكل طفرة في التاريخ الأكاديمي لمفهوم التنمية،إذ عرف التنمية على أنها توسيع للحريات الفردية ،فبالنسبة لصن لا يمكن التحدث عن التنمية في ظل غياب للحرية، و يعتبر أن أهمية الحرية في عملية التنمية يمكن تعليلها بسببين اثنين، الأول تقييمي : (أي تقدم لا يحقق و لا يجلب الحرية فهو لا يعتبر تقدما).و الثاني يطرح سؤال الفعالية : (أي ما مدى فعالية البرامج التنموية؟ ، وهذا يتعلق أولا و قبل كل شيء بالإمكانية المتاحة للأفراد للمضي قدما في مبادراتهم الخاصة). و من هذا المنطلق فإن أي نموذج تنموي في الأقاليم الجنوبية لا بد أن يمنح لساكنة المنطقة هامشا أكبر من الحريات للتعبير عن حاجياتهم، و تشجيع مبادراتهم الفردية، و هذا لن يتأتى لا باعتماد مقاربة تشاركية و ذلك من خلال إشراك جدي وفعال لجميع فعاليات المجتمع المدني، ، كما أن إشراك النخبة الأكاديمية الصحراوية من أساتذة، باحثين، و طلبة باحثين أصبح اليوم حتميا للتقعيد لأي نموذج تنموي حقيقي ومندمج. إن الأقاليم الجنوبية اليوم في حاجة ماسة لنموذج تنموي يتم فيه القطع مع كل أشكال الفساد و اقتصاد الريع و استغلال النفوذ، هذه الممارسات التي كرستها وجوه تقليدية لا تريد الخير للمنطقة،و تقاوم كل المحاولات الجادة للتغيير و التنمية في الصحراء، كما يجب على الدولة أن تتحمل مسؤولياتها فيما يتعلق بتشجيع المستثمرين المغاربة و الأجانب للاستثمار في الصحراء، و إرساء مبادئ الحكامة الجيدة، و ربط المسؤولية بالمحاسبة،كلها إجراءات ستساهم لا محالة في تحقيق تنمية حقيقية و مندمجة، مما سيساعد على امتصاص البطالة و بالتالي التخفيف من حدة التوترات الاجتماعية التي تعرفها منطقة الصحراء. وفي الأخير نؤكد أنه لا يمكن أن نحقق التنمية دون توسيع هامش الحرية الفردية،أو بعبارة أخرى فإن تشجيع المبادرات الخاصة و منح الشباب الصحراوي هامشا واسعا من الحرية للتأسيس لمبادراتهم الفردية، هو مدخل استراتيجي للتنمية في الأقاليم الصحراوية. كما أن اشراك المرأة الصحراوية يعتبر رافدا من روافد التنمية في هذه المنطقة، باعتبارها خزان مليء بالمواهب و القدرات التي تحتاج فقط للصقل و الاهتمام. * باحث في التنمية البشرية، عضو مركز الأبحاث و الدراسات السياسية و الاستراتيجية للشؤون الصحراوية