إنها القضية، تلك التي تجُزّ أغصان حياة الكتاب والمفكرين الذين نصبوا أنفسهم للدفاع عن قضايا الإنسان، فهم إلى الآخرة أقرب وإلى الزوال أدنى، لأن حملات التشهير المختلفة التي تصدر من خصومهم في الفكر، ومن الدولة التي يئست من تواجدهم المستمر على قيد الحياة، لم تبق على كمية هواء تكفيهم للتنفس بشكل طبيعي. ولعل نوال السعداوي من صفوة النخبة التي عانت من شكلي الاضطهاد؛ ذاك الذي مارسته السلطة حين اعتقلتها بسبب نضالها في صفوف الحركة الماركسية أيام السادات. وذاك الآتي من التفكير النسقي في الدين الذي راد فيه إخوان مصر وسلفيوها وأزهريوها؛ فقد حكم عليها الأزهر بالكفر والردة، وخُصصت عشرات الحلقات في البرامج التلفزيونية الدينية، للتشهير بها والتحريض على قتلها، وقد قال عنها الداعية خالد عبد الله إنها تستحق الرجم والشنق والقتل، وتأسف على عدم تواجدها في بلد إسلامي، وإلا كان مصيرها ذلك المصير. لهذا تجدها لا تتوقف عن الدعوة إلى الدولة المدنية، لأن الأخيرة تكفل للناس حرية التفكير في كل ما يحيط بهم، بما فيه الدين نفسه، الذي اعتبرته شأنا خاصا يتم بشكل عمودي بين السيد والعبد. ومع ذلك، فسهام نقدها ليست موجهة لخطاب الأديان فحسب، فهي مصرة على نقد الرأسمالية والنظام الأبوي ومتمسكة بقواعد التحليل الماركسي للظواهر المجتمعية. لكن نقد الخطاب الديني هو الذي جعلها عرضة للمحنة، فقد رُفعت قضايا لتطليقها من زوجها الروائي المعروف شريف حتاتة، باعتبار أنها أصبحت -كما يعتقدون- مرتدة، تماما كما حدث مع نصر حامد أبو زيد. والمؤكد من ذلك كله، أنها امرأة مختلفة عن كل النساء؛ فهي رقيقة الحس، لكنها صلبة الإرادة. كثيرة الثقة بالناس، لكنها قادرة على استعادة نفسها حين تثبت الإدانة. سعيدة الحظ بارتقائها إلى مصاف أصحاب الكعاب الطويلة، لكنها سيئة الحظ بمجتمعها المنحدر إلى المراتب الدنيا من التردي الحضاري. انتقدها الكثير من دعاة هذا الزمان، مثل عبد الحميد كشك، وأبو إسحاق الحويني، وخالد عبد الله، وغيرهم كثير، واتهموها بالكفر؛ فقد كان الأقسى على ذكورية الرجل المسلم، أن يرتفع صوت العورة على صياح الرجال، وأن يتوارى الرجل عندما ترفع النساء صوت الرفض والثورة. تلك عقد كان لها صداها الثيولوجي في كل الحضارات، ففي المسيحية يُعتقد أن الخالق صنف الرجال والنساء على نحو مختلف. وفي الصين يعتبرون لغة النساء كالسيف لا تتركه المرأة يصدأ. كما أن الإنجليز يقولون إن الصمت هو أحسن حلي المرأة، إلا أنها قليلا ما تتقلده، وفي الإسلام تعتبر ناقصة عقل، وفي أغلب الأمم ليست سوى موضوع للشهوة. وهذه التصورات كانت سائدة في كل الحضارات القديمة، لكن أغلبها لم يعد سائدا في الوقت الحالي، بعد أن أثبتت المرأة جدارتها في كل الميادين. ولعل المؤسف في الأمر، أن الخطابات الإسلامية المتشددة تريد لنا أن نعود لتكريس هذه التصورات بإحيائها لما كان زمن الرسالة، وليس بالبعيد ما قاله أبو إسحاق الحويني حين أكد أن المرأة مهما صعدت هي مقلدة وعامية، فالعلم في نظره إنما هو للرجال! والحقيقة التي لا تُدارَى، هي أن التكفير نفسَه، يوجه لذوي المكانة الفكرية والمعرفية الكبيرة، أي أن التكفير في حد ذاته اعتراف بما تمثله نوال السعداوي في الذاكرة الثقافية للمصريين ولقرائها كافة، فهي في كل الحالات، لا تتدثر بمقالات معدودة لكي تكون سهلة المنال، فإنتاجها يتجاوز الخمسين كتابا، ومعظمها أثار ضجة حين إصداره، من قبيل "الإله يقدم استقالته"، و"سقوط الإمام"، و"الوجه العاري للمرأة العربية"، و"جنات وإبليس"، و"ملك وامرأة وإله" و"مذكرات طفلة اسمها سعاد"، و"مذكراتي في سجن النساء". وهي، إلى حدود كتابة هذه الكلمات، مازالت تقْدم، بخطى واثقة، على تعرية الطابوهات الاجتماعية، وتغيير أنساق التفكير التليدة، وهدم المسلمات التاريخية التي تعشش في الذاكرة الجماعية منذ زمن طويل.