ثمة ما يدعو إلى القلق. ثمة كثير مما يقض مضجع الناس باستمرار. ثمة قلوب تنبض خوفا كل يوم. ماذا حدث لك أيها الوطن؟ لماذا لم يعد الناس يطيقون مجاراة اندفاعاتك الخرساء غير المحسوبة؟ كيف لك أن تبطش بأبنابك وهم من صلبك؟ لم، أيها الوطن العزيز، لست مضيافا كما في الماضي، حيث كان الناس أكثر لطفا ورأفة؟ كان المسلمون الأوائل أكثر لطفا ببعضهم، وكان الرسول قيد حياته أكثر تفهما لاختلاف الناس عن معتقده فأحاطهم بلطفه رغم ما يشكلونه من خطر على الأمة والديانة والأخلاق وغير ذلك. أما هذه الطغمة من المسلمين الآفلين، فلا حياء فيهم؛ يرتكبون المعاصي في الظلام، وتحت شمس النهار تراهم يضربون بكل الجهات قائلين إن هذا منكر. إن ما حدث من اعتداءات (المثلي، التنورة، اللص..) في الأيام الماضية ليعبر عن نزعة سادية متأصلة في اللاوعي الجمعي لا تخبو إلا تأهبا للظهور في أبشع صورة. وينبئ على أننا تربينا على "العصيان" والفوضى، ليس عصيان أخطبوط السلطة والدكتاتورية، بل عصيان الضعفاء والمسحوقين، ممن لا يملكون يدا صلبة تدافع عنهم في دهاليز المحاكم. تربينا على العصيان والفوضى بخرقنا للقوانين التي وضعناها اتفاقا، والتي حمتنا من قتلنا لبعضنا البعض بوصفنا شعبا لا سلطة. يعكس هذا السلوك الفوضوي مرجعية دينية وأخلاقية لا خلاف عليها، وإذا كانت المرجعية الأخلاقية واضحة في الأحداث التي نعنيها، باعتبار أن المرجعية الدينية تنتفي حالما ننظر إلى الأمم الأخرى التي تدين أو لا تدين بدين ما، فذلك لأننا تربينا فعلا على مقت أنواع من السلوك. لكننا حتما لم نعاقب يوما لصا بأيدينا في الشارع العام، ولم ندن امرأة لأنها ترتدي تنورة في رمضان (وهل التنورة حرام في رمضان وحلال في غيره من الأيام)، ولم نعتد على مثلي راكب لسيارة أجرة. إنها أحداث لم نعرف بمثلها مسبقا، ولم يذكرني ذلك إلا بالصورة البشعة التي حدثت أمام عيني الرسول أثناء تطبيق حد الحرابة على مجموعة من الناس، حيث تمرغت أفواههم في التراب وهو يصرخون إلى أن ماتوا! أظن أن المغاربة يشتاقون إلى الدماء، وربما هذا ما جعل عددا كبيرا منهم يلتحق بداعش لتجريب أشكال التعذيب التي يمارسها هذا التنظيم على مرأى أعين العالم. لهذا يغادرونك أيها الوطن؛ يركبون أولى نفحات الصباح، متسللين مع بصيص الليل المتبقي، لعله يخفي غدرك بهم. يعتلون صهوة مركب مهترئ يغرق قبل الوصول، أو يلقي بهم في لجة البحر قبل الرسو. يحشرون أنفسهم فوق عجلات حافلة، يختنقون هناك قبل الأوان. هكذا تلفظهم، كما البحر الهائج، دون حرص زائد. لهذا حتما يغادرون، فالذين جلسوا على كراسيك سنوات، وتلعموا على يديك، رأوا فيك، بعد أن نضجوا كفاية في كفنك أو كنفك، عينا غادرة تتربص بخطواتهم، فلفظوك قبل أن تلفظهم، وغادروك قبل أن تطردهم. تذركت الآن، حكاية قال لنا بها الأستاذ والكاتب عبد النبي ذاكر؛ جلس قرب فتاة منتظرا سيادة العميد لتقديم سيرته العلمية للعمل في الجامعة، اعتقد أن الفتاة طالبة، فإذا بها كفاءة مغربية حصلت على الدكتوراه في الفيزياء النووية بإحدى الجامعات الغربية. للأسف لم يقبلوها للعمل في الجامعة، فهذا التخصص غير موجود لديهم! وها أنت تبكي على الكفاءات التي خانت ونكرت كل الجميل، فعنادك الأبي يقتل فيهم روح الوطن ما أن يعودوا إليك، فيغادرون كما العادة. إن الوطن لا يخنق من لا يحصلون على "طرف الخبز" فحسب، إنه يخنقنا جميعا، ويكفي أن تفتح للموظفين فرصة العمل في دولة أوربية لتنهال الطلبات كالريح العاصفة. إن الجميع يود أن يغادر، لكنه لا يستطيع. فعادة لا نكتب كل ما نفكر به، وعادة لا نفعل كل ما نريد. لا وطنية ولا وطن هناك إذن، فالوطن يخنقنا بقدر ما استطاع، ونصنع من لحمنا حديدا كل يوم، لعل لسعاته تكون أقل تأليما.