[email protected] كان الناس، في معظم الأحيان يلقون باللوم و العتاب على أولئك الخطباء الذين يصعدون منابر الجمعة، و يعتبرونهم مسؤولين عن أجواء الرتابة و الملل اللذين تضيق بهما صدور المصلين و هم ينتظرون إقامة الصلاة و أداء هذه الفريضة قبل أن ينتشروا في الأرض و يتفرقوا كما اجتمعوا أول مرة..و لعل السبب الذي جعل أصابع الاتهام تتوجه إلى الخطباء تعود بالأساس إلى ضعف في تكوين البعض منهم و عدم إلمامه بفن الخطابة و أدبياتها التي تتطلب تقديرا و فهما دقيقين بطبيعة المخاطبين(بالفتح) و مستوياتهم الفكرية و الثقافية و طبائع أحوالهم و معاشهم و همومهم و غير ذلك من الأمور التي يعتمدها الخطيب و ينطلق منها في اختياره للمواضيع التي ينبغي أن تحضي بأهمية و أولوية في معاش المصلين و معادهم، و التي ينبغي أيضا أن تنفتح لها قلوب المصلين و عقولهم..هكذا يفترض أن تلعب خطبة الجمعة دورها في حياة الناس، حيث تذكرهم بالله تعالى و بأمانة الاستخلاف الملقاة على عواتقهم و بآخرتهم و عاجلتهم و ذلك ل(يتذكر من يخشى)آية.. دون أن نخوض في الأمور الفنية و المهارية التي يلزم الخطيب أن يمتلك أدواتها لعلها تؤهله لإخراج جيد و ملائم لخطبه التي يفترض أن لا تسقط في فخ الإطالة و الإطناب الممل، و لا في شرك التقصير و الاختزال المخل، و ذلك في الوقت الذي ينبغي أن يحرص على وحدة الموضوع و يغير من طبقات و نبرات صوته حتى تتلاءم و طبيعة الخطاب، فيتمكن من جذب انتباه المصلين و إيقاظ عزائمهم لعل الله يزكي قلوبا لا يزيدها الواقع المتغير إلا صلابة و بعدا عن الله...لكن الخطباء، و مهما برعوا و أجادوا و تفقهوا، يجدون أنفسهم، في بعض الاحيان، مغلوبين على أمرهم عندما يذكرونهم بأنهم ليسوا غير أجراء يلزمهم التقيد بتعليمات الوزارة الوصية و بخطبها دون "سهو آو نسيان آو تحريف كلمة عن موضعها آو تغيير حرف أو تقديم أو تأخير أو زيادة أو نقصان"..و هكذا تتحول منابر المساجد في هذا اليوم المعظم عند الله إلى منابر إعلامية تصرف فيها الدولة خطابها الرسمي الذي لم تعد تكفيه قنوات التلفزيون العمومي و غيرها من وسائل الاتصال.. و قد لا نعترض على اشرف وزارة، كوزارة الشؤون الدينية، على المسألة الدينية في بلدنا، سيما إذا كان من شأن هذا الإشراف أن يوحد الجماعة و يقوي لحمتها و يجنبها شرور الفتنة و الانقسام. لكننا سنكون مجانبين للصواب إذا لم تستنكر قلوبنا على الأقل ما يجعل مثل هذه المنابر الجليلة تتحول إلى مجرد أدراج خشبية صماء تتلى من فوقها خطب مائعة جوفاء..بعيدة عن واقع الناس و همومهم، تصرفهم عن الانشغال بالأقضيات التي تعترض حياتهم بدل أن تقدم لهم الحلول و تبين لهم طريق الرشد من طريق الضلال..و تركز لهم على الدقائق و الجزئيات التي لا يترتب عن تركها حرج و لا ضرر و لا عن إتيانها كبير منفعة أو أجر، و تضرب، في المقابل، صفحا عن مشاكل الحياة الكبرى التي يحتاج الناس من يبصرهم بموقعها من دينهم و موقع دينهم منها فيفقهوا حقوقهم فيها و واجباتهم تجاهها، و ذلك بطريقة يتذوقون فيها المعنى البليغ لشمولية الدين الذي ارتضاه الله لهم..و إلا فإن الدين، و الخطبة على الخصوص، سيكون كما وصفه دعاة المادية "أفيون الشعوب" الذي يهدئ من روع الأفراد و يبلد إحساسهم و يشل قدرتهم على التفكير ليضحوا كائنات طيعة و بليدة مفتقدة للوعي و الإرادة.. قال لي "علي" و هو يصافحني بعد أن فرغنا من صلاة الجمعة: " لقد شعرت بنوع من الاستحياء و الشفقة على ذلك الخطيب و هو يشرح لنا، بتفصيل ممل، كيف أن الرضاعة الطبيعية تحفظ أثداء النساء من السرطان و تطهر بشرتهن من الأدران، و تزيدهن جمالا على جمال..و كيف أن حليب الأم فيه ما فيه من المكونات و الفيتامينات و ما لا يعلم آمره إلا الله..هل تحولت الخطبة إلى إشهار يروج لسلعة خاصة بتجميل النساء أو درس تعليمي في البيولوجيا أو..؟؟ "..ما موقع هذه الخطبة الموحدة و المعممة على مساجد المملكة من الإعراب؟ و ما ترتيب موضوعها في سلم أولويات المغاربة؟ هل بلغ حليب الأمهات من الأهمية و الخطورة ما يستدعي تحرير الوزارة – لا نعلم بالضبط أية وزارة- لخطبة بتراء (من سياقها) و تعميمها في يوم واحد في بلد واحد؟ و لماذا منبر الجمعة بالخصوص دون غيره من قنوات الدعاية و الإعلام؟..كان من المفترض أن تجيب الخطبة نفسها عن هذه الأسئلة و تزيل الغموض و الالتباس، لعل الناس يقصدون بيوتهم و لم تنقبض بعد شهيتهم للطعام الذي ما فتؤوا يفكرون فيه و في سخونته و هو يطأطؤون رؤوسهم أو يتثاءبون منتظرين، بصبر و شوق، تسليمة الإمام..." السلام عليكم"..