إن الأمر الذي لا يمكن أن تختلف فيه الأطراف الفاعلة في المنظومة التربوية هو الحاجة الماسة إلى إصلاحها مع وقوع الإجماع على فسادها من قاعدة الهرم التربوي إلى قمته . وربما أهدرت المجهودات والإمكانات بلا طائل من أجل إصلاح المنظومة المختلة مع أن أول ما يجب التفكير فيه هو إصلاح أطرافها الفاعلة إذ لا توجد منظومة تربوية بدون عنصر بشري هو محركها . وإصلاح العنصر البشري هو إصلاح معنوي يرتكز على التخليق خصوصا وأن المنظومة التربوية ذات الصلة بالعلم لا مندوحة لها عن الأخلاق إذ يقترن العلم بالأخلاق ضرورة . وما قول نبي الله يوسف عليه السلام لملك مصر : (( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )) إلا دليل على أن الأخلاق تسبق العلم حيث قدم نبي الله يوسف عليه السلام صفة الحفظ على صفة العلم ، فالحفيظ من العباد كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في مقصده الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى هو :" من يحفظ جوارحه وقلبه ،ويحفظ دينه عن سطوة الغضب ، وجلابة الشهوة ، وخداع النفس وغرور الشيطان " وهذه أمور أخلاقية تسبق العلم. ولهذا فلا بد من تخليق الأطراف الفاعلة في المنظومة التربوية تماما كما كان نبي الله يوسف عليه السلام لما أراد أن يكون طرفا في المنظومة الاقتصادية في زمانه . لقد كان لنبي الله يوسف علم بالادخار وتدبير المعيشة في ظروف القحط والجفاف وهي خبرة عظيمة توقفت عليها حياة الناس في زمانه ، ولكن هذه الخبرة ما كان لها أن تؤتي أكلها لو لم يكن النبي الكريم على خلق عظيم. فلو أنه كان من المستسلمين لجلابة الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان لضيع الأمانة التي استؤمن عليها ولتأثرت خبرته بذلك وضاعت المنظومة الاقتصادية في زمانه وهلك الناس . فكذلك الأمر بالنسبة لمنظومتنا التربوية وهي ذات صلة بباقي المنظومات علما بأن فسادها هو فساد غيرها من المنظومات ، ولست بحاجة إلى التذكير بدور المنظومة التربوية في التنمية . وإصلاح المنظومة التربوية وحالها اليوم شبيه بحال المنظومة الاقتصادية زمن نبي الله يوسف عليه السلام حيث تهدد سنوات المنظومة التربوية العجاف سنوات خصبها إن كانت لها سنوات حصب ،ولا بد من حسن تدبير مكتسباتها التي راكمها المغرب بعد استقلاله وما قبل استقلاله وما قبل احتلاله. إن المتأمل للمنظومة التربوية اليوم يجدها من حيث الإمكانات المادية في بعض الحالات أحسن مما كانت عليه في الماضي ومع ذلك لم تستطع استعادة عافيتها التي كانت عليها في الماضي إذا صح أنها كانت بعافية من قبل مما يستوجب الاستفسار عن السر وراء ذلك. وما أظن المنظومة التربوية ستتعافى مما ألم بها إلا من خلال مراجعة أحوال أطرافها الفاعلة. وأول مراجعة تتعلق بتخليق هذه الأطراف لتكون أطرافا حافظة قبل أن تكون عالمة ،و على رأس التخليق حفظ الدين الكابح لجماح الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان على حد تعبير الإمام أبي حامد الغزالي وهو فيلسوف يعرف أين يضع الكلمات . فكل طرف فاعل في المنظومة التربوية سواء كان الطرف المتعلم أو الطرف المساهم في توفير التعلم بشكل من الأشكال لا بد أن يكون متخلقا أي متدينا يتحكم فيه ضميره ووازع تدينه قبل أن تضبطه النصوص التنظيمية والتشريعية ذلك أن دين الله عز وجل يقوم أولا على سلطة الضمير قبل سلطة الحدود والقوانين . فالمتعلم المتحلل من دينه لا يمكن أن يكون مؤهلا لتلقي العلم ، والأطراف التي تساهم في تعليمه مهما كانت مهامها إذا ما تنكرت لدينها فلا يمكن أن تقوم بدورها على الوجه المطلوب ، لهذا لا بد من تخليق هرم المنظومة التربوية من قاعدته إلى قمته . والتخليق يقوم أساسا على الوازع الديني، والوازع الديني يقوم أساسا على مخافة الله عز وجل ومراقبته بحيث لا تتصرف الأطراف الفاعلة في المنظومة التربوية إلا باستحضار رقابة خالقها سبحانه انطلاقا من قناعة مفادها أن الانخراط في المنظومة التربوية هو شكل من أشكال العبادة والطاعة وليس مجرد ممارسة خالية من التدين. فالمتعلم المتدين أو المتخلق بأخلاق دينه يصدر في تعلمه عن قناعة راسخة بأنه يطيع بتعلمه خالقه قبل أن ينمي رصيده العلمي وكفاياته المختلفة استجابة لأمر ربه سبحانه : (( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم )) فهذا الأمر الإلهي شبيه بكل الأوامر الإلهية وهو في نفس درجة الأمر بالعبادات من صلاة وصوم وحج وزكاة وفي نفس درجة المعاملات المختلفة المنصوص عليها في كتاب الله عز وجل ، ذلك أن الذي لا يقرأ كما أمر الله تعالى مخالف لأمره . ولا يمكن للإنسان أن يقرأ طلبا للعلم والمعرفة وهو خارج التغطية الدينية أي خارج أخلاق الدين. وبالتجربة لا نجد التفوق في التعلم والعلم غالبا إلا عند المتعلمين المتخلقين بأخلاق دينهم. فما من نابغة ولا متفوق إلا وهو على خلق عال ، وقلما نجد عديم الأخلاق ينبغ في تعلمه وعلمه ، ولئن نبغ قيل في حقه ما أنبغه لولا أنه يفسد نبوغه بسوء خلقه. ولم أستغرب نتائج الباكلوريا في التعليم العتيق خلال الموسم الدراسي الفارط التي تجاوزت بضعا وتسعين في المائة في حين لم تبارح نسب النجاح في غير هذا النوع من التعليم ما يزيد عن أربعين في المائة مما يؤكد أن تخليق التعليم التخليق المتعلق بالدين يسهم بشكل كبير في نتائج هذا التعليم وليس من قبيل الصدف أن يقول الله عز وجل: ((واتقوا الله ويعلمكم الله )) فعلم الله تعالى تسبقه التقوى وهي بتعبير الإمام الغزالي حفظ الجوارح والقلب لكبح جماح الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان. فالمتعلم الذي يؤم المؤسسة التربوية بدون رصيد ديني يوجهه إنما يفعل ذلك لمجرد تلبية حاجة والديه أو طمعا في الحصول على منصب شغل بعد إنهاء تعلمه. وعندما يصير هذا منطلقه يكون تعلمه تعلما مغشوشا فهو يتحايل على والديه وعلى مدرسيه وعلى من له علاقة بتعلمه من بعيد أو من قريب فيكون تعلمه محض تظاهر أو نفاق بالمعنى الديني ، لهذا لا يتورع عن الغش في التعلم وتكون النتائج مغشوشة ، و لهذا لا نستغرب ظاهرة قصاصات الغش المستفحلة ، ولا نستغرب حكايات الزبونية في التنقيط وشراء النقط من أجل الحصول على الشواهد والمناصب. ومن غش في تعلمه ونال الشهادة المغشوشة لن يكون إلا صاحب منصب مغشوش وصاحب أداء مهني مغشوش ومن ثم لن يكون إلا نموذجا سيئا لتكريس الغش في كل مجالات الحياة لهذا تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغشاش بقوله : " من غشنا فليس منا " والغش المنصوص عليه في هذا الحديث الشريف يشمل كل مجالات الحياة بما في ذلك المنظومة التربوية التي هي عماد التنمية . وعلى غرار تخليق المتعلم الذي هو محور المنظومة التربوية لا بد من تخليق كل الأطراف الأخرى التي تعمل من أجل أن يتعلم المتعلم مهما كان دورها في تعلمه ، ذلك أن غياب الأخلاق أو غياب التدين يجعل هذه الأطراف تقع في الغش بكل أنواعه وأشكاله وطرقه وحبائله ما ظهر منها وما بطن . فهذه الأطراف التي تتوجه إلى بيوت الله عز وجل يوميا خمس مرات لأداء طاعة الصلاة في حين لا تؤدي طاعة خدمة المنظومة التربوية وهي طاعة معاملة من المعاملات تعبدنا بها الخالق سبحانه كما تعبدنا بطاعة العبادات يعيشون انفصاما دينيا وأخلاقيا ، وينقض تقصيرهم في تدين المعاملات حرصهم على تدين العبادات لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدين المعاملة " لتنبيه من يظن أن الدين عبادة فقط . فإذا لم تتخلق بخلق الدين كل الأطراف الفاعلة في المنظومة التربوية من رأس الهرم الذي يتربع عليه وزير التربية أو كاتبة الدولة إلى قاعدته حيث عون الكنس أوالعسس فلن يستقيم أمر هذه المنظومة أبدا ولو أنفق عليها ملء الأرض ذهبا . وأول التخليق المنشود هو أن تعرف هذه الأطراف الفاعلة قدرها فتجلس دونه وأن تعرف كفاءتها وأهليتها فلا ترنو ولا تشرئب إلى ما فوق طاقتها حتى لا تكون خادعة لنفسها ولغيرها من الأطراف ذلك أن الله عز وجل يقول : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " فما من نفس تكلف ما ليس في وسعها إلا وهي مخالفة لناموس الله تعالى وإرادته ، لهذا لا يجب أن تطلب هذه الأطراف الفاعلة في المنظومة التربوية المناصب التي تفوق طاقتها ولا تحسن تدبيرها ، وهي تعلم ذلك علم اليقين .فمن حسن الخلق ومن التدين أن يقول الإنسان حين يجهل : " لا أدري " ومن قال لا أدري علمه الله ما لا يدري. ومن قال : " لا أدري " وهو كذلك أوكان على قناعة راسخة بذلك كان مراعيا لمعية ربه سبحانه وكان متقيا وكان جديرا به أن يعلمه الله تعالى ما لم يعلم لأن الله تعالى قصر علمه على من اتقاه. فلا يحسن بوزير ولا بكاتبة دولة لديه ولا بمفتش عام ولا بمدير مديرية ولا برئيس قسم ولا برئيس مصلحة ولا برئيس مكتب في الوزارة ، ولا بمدير أكاديمية ولا بنائب نيابة ولا بموظف بنيابة أو أكاديمية ،ولا بمفتش تخصص ولا برئيس مؤسسة ولا بمدرس ولا بناظر دروس ولا بحارس عام لداخلية أو خارجية ولا بممون ، ولا بكاتبة ، ولا براقنة ، ولا بمعيد و بحارس ليل أو نهار ولا بعون كنس أن يتبوأ منصبه وهو دون مستوى هذا المنصب . فالقيام بما يقتضيه المنصب مهما كان في المنظومة التربوية هو أهم خطوة لتخليق الأطراف الفاعلة في المنظومة. ومن المؤكد أن الذين لا يقومون بما تقتضيه مهامهم أو الذين يحتلون مناصب فوق مؤهلاتهم عن طريق المحسوبية والزبونية والغش والتدليس هم إسوة سيئة لباقي الأطراف الفاعلة في المنظومة التربوية حيث يسود التذمر غيرهم ممن يعرفون أو يكتشفون بأنهم دون مستوى المسؤوليات الملقاة على عاتقهم وأنهم يفسدون المنظومة ولا يصلحونها. وقد يكون هذا التذمر سببا في تراخي باقي الأطراف في مهامها مما ينعكس سبيا على أدائها في مناصبها المستحقة مجاراة ومسايرة للعناصر التي تتبوأ مناصب فوق مؤهلاتها وتفسد ولا تصلح ، ومن ثم يصير الفساد مستشريا في المنظومة بسبب ذلك ، ويكون المسؤول عن الفساد هو من سنه لوجوده في منصب فوق مستواه ، ويشمله حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها على يوم القيامة " إن الطرف الفاعل في المنظومة الذي يتبوأ منصبا فوق مؤهلاته يحمل وزر تدهور المنظومة التربوية لأنه حلقة في سلسلة فسادها. والقضية أولا وأخيرا قضية تخليق على أساس صحة التدين .وبالمناسبة أتذكر دائما قول أحدهم تعقيبا على مدع للتدين من المنتسبين للمنظومة التربوية وهو لا يقوم بواجبه على الوجه المطلوب في خدمة المنظومة التربوية : " إنه يمسك المسبحة بشكل معكوس " كناية عن تدينه المغشوش الذي يهمل واجب وطاعة المعاملة الخاصة بالمنظومة ، ومع ذلك يدعي القيام بواجب وطاعة عبادة التسبيح أو الذكر ، وهو يحسب أنه يحسن صنعا ولا يبالي أن يكون من الأخسرين أعمالا ، من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وقد يغادر منصبه متقاعدا أو مسلما روحه لبارئها وفي ظنه أنه قام بواجبه وما كان في حقيقة أمره إلا ماسكا مسبحته بشكل معكوس. وما أكثر الأطراف الفاعلة في المنظومة التربوية الماسكة المسبحة بشكل معكوس ، وما أكثر المستعملين لسجاد الصلاة بشكل معكوس ، وما أكثر من يرتلون القرآن بشكل معكوس ، ويفهمونه بشكل معكوس ، وهم في أمس الحاجة إلى تخليق يسدد وجهتهم المعكوسة قبل التفكير في إصلاح المنظومة الإصلاح المادي الذي لا يزيد التربية والأخلاق المعكوسة إلا فسادا لأن الإصلاحات المادية بأرصدتها المغرية صارت مصدر إغراء من لا خلاق لهم من أهل الطمع والجشع عوض أن تكون لفائدة إصلاح المنظومة .