لا يوجد خلاف بين فئات المجتمع عموما ، و كل الفعاليات التربوية خصوصا بأن منظومتنا التربوية تعاني من الاختلال البين الواضح ، الذي لا ينكره إلا مكابر. والخلاف على أشده بين الجميع في الأسباب الكامنة وراء هذا الاختلال، ذلك أن المجتمع المدني ينحي باللائمة على الفعاليات التربوية ، وهذه الأخيرة تتراشق فيما بينها تهم المسؤولية عن اختلال المنظومة التربوية . والحقيقة أنه كما اتفق الجميع على فكرة اختلال المنظومة ، فالجميع أيضا مسؤول عن اختلالها بنسب تتفاوت بحسب المسافة الفاصلة أوالرابطة بين المنظومة التربية ، وبين الجميع كل على حدة . فإذا كانت المسؤولية القانونية تعود إلى الوزارة الوصية عن المنظومة ، فإن المسؤولية الأخلاقية عنها هي مسؤولية الجميع . ومن الخطإ البين أن ينصب التفكير في برامج الإصلاح على استيراد الوصفات الأجنبية كما دأبت على ذلك الوزارة الوصية . ومشكلة الوصفات الجاهزة هي أنها أعدت على ضوء تشخيصات خاصة بمجتمعات أجنبية لها خصوصياتها وخلفياتها الثقافية . وعندما تستورد الوصفات الأجنبية المناسبة لأعراض داء منظومات تربوية أجنبية لمعالجة داء منظومتنا التربوية،يكون ذلك محض عبث ، إذ لا بد من إعداد الوصفة الخاصة بمنظومتنا بناء على تشخيص دقيق لعلتها . وحال وزارتنا وهي تستورد على سبيل المثال ما يسمى بيداغوجيا الإدماج ، كحال من وصف له مريض وصفة دواء خاصة به ، فلم يفكر في تشخيص مرضه ، وباشر تعاطي دواء غيره الذي ربما زاد علته زمانة ، وهو لا يشعر ، أو لا يبالي . فوصفة بيداغوجيا الإدماج جربها صاحبها إذا صح ادعاؤه في دول عربية وإفريقية وأسيوية ، والشائع أنها غير مستهلكة في دول غربية ، فإذا صادف أن عالجت شيئا من علل المنظومات التربية في البلاد التي جربت فيها ، فهذا لا يعني أن فعاليتها ستكون بنفس الدرجة في هذه البلاد كلها . وقد تكون هذه الوصفة جيدة عندما تعرض على الخبرة ، إلا أن استعمالها في حالات مرضية خاصة يفقدها مصداقيتها بسبب سوء التنزيل . وهذه هي مشكلة وصفة بيداغوجيا الإدماج بالنسبة لمنظومتنا التربوية ، حيث نصح صاحبها أصحاب القرار التربوي عندنا كما صرح بعظمة لسانه في أكاديمية الجهة الشرقية بتعاطي وصفته عبر جرعات ، وبكميات محدودة ، أي ابتداء من أول سنة بالسلك الابتدائي وبالتدرج من سنة إلى أخرى ، ومن مستوى إلى آخر ، وبتحليلات طبية محددة تتعلق بمراجعة المناهج والبرامج الدراسية ، إلا أن أصحاب القرار التربوي عندنا لم يعملوا بنصيحة صاحب الوصفة ، فتعاطوها بجرعات أكبر وفي سلكين تعليميين دفعة واحدة ، دونما احتفال بالأعراض الجانبية التي حذر منها صاحبها ، وبدون تحليلات سابقة للمناهج والبرامج ، لأنهم كانوا على موعد مع مساءلة أصحاب القرار السياسي لهم عن نفقات المخطط الاستعجالي ، كما كانت لهم عقد مع أصحاب المناهج والبرامج ، وهي عقد تجارية لا تنقضي إلا مع نهاية السنة الأخيرة من المخطط الاستعجالي. ومعلوم أن الوصفة العلاجية المستعملة دون مراعاة شروطها تكون مضرة بالضرورة بغض الطرف عن مصداقيتها . والعيب ليس في الوصفة في حد ذاتها ،وإنما العيب في كيفية تعاطيها . والمسؤولية لا يتحملها صاحب الوصفة ، وإنما يتحملها من استعملها بكيفية مغلوطة ، كما يتحملها من سوق لها طمعا في ثمن السمسرة ليس غير، وهو يعلم أنها تستعمل استعمالا خاطئا . لا أحد في الحقل التربوي يعارض فلسفة بيداغوجيا الإدماج المتمثلة في ضرورة دمج الموارد ، علما بأن هذه الفلسفة ليست خاصة بهذه البيداغوجيا وحدها ، بل هي فلسفة العلمية التعلمية منذ خلق الله عز وجل التعلم، إذ الغاية من كل تعلم هو أن يوظف المتعلم مكتسباته ليخوض غمار الحياة ، وإنما الذي يعارضه الجميع هو الاهتمام بآليات الإدماج مع إهمال تام لآليات وظروف إرساء الموارد. ولقد حضرنا حصصا للإدماج كشفت لنا حقيقة مؤسفة،وهي إما غياب الموارد جملة وتفصيلا، أو فقرها الشديد بسبب نظام الانتقال من مستوى دراسي إلى آخر ، وهو نظام يعتمد الانتقال ولا يعتمد النجاح ، واقتحام عتباته بسبب سياسة الخريطة المدرسية الفاشلة عندنا . ومعلوم أن فاقد الشيء لا يعطيه ، ومع غياب الموارد لا يمكن إدماجها . وليس من قبيل الصدفة أن ترفض نسبة كبيرة من المدرسين بيداغوجيا الإدماج لأنها كشفت عن ضعف إرساء الموارد ، وهو أمر محرج بالنسبة لهم كما كشفت عن سوء بناء المناهج، وتوزيع البرامج. والرافضون لها لم يقبلوا تحمل مسؤولية ضعف موارد المتعلمين ، علما بأن هذا الضعف لا يمكن أن يعود إلى جهة بعينها ، وإنما هو نتيجة ذهنية كرست لعقود في منظومتنا التربوية . فالكل يذكر كيف كان الالتزام بعتبات النجاح يساهم في الحفاظ على مستوى التحصيل ، أو بعبارة أخرى يضمن الحد المطلوب من الموارد التي كانت تدمج بشكل تلقائي ، ويسبر إدماجها في الاختبارات والامتحانات دونما حاجة إلى ما يسميه صاحب بيداغوجيا الإدماج وضعيات إدماجية . ولقد كانت الاختبارات والامتحانات بالفعل وضعيات إدماجية تدمج فيها موارد مواسم دراسية كاملة بينها علاقة جدلية وترابط وتكامل . فلما حشر من لا علاقة لهم بالتربية والتعليم أنوفهم في مصير المنظومة التربوية، سادت عقلية ما يسمى الخريطة المدرسية التي عمدت إلى النفخ في النتائج عن طريق عدم احترام عتبات النجاح التي كانت خطوطا حمراء غير قابلة للتخطي بتاتا. فنزول عتبة النجاح على سبيل المثال من 5 على 10 إلى 8،2 على 10 في نهاية السلك الابتدائي بذريعة إجبارية التعليم ،هو السبب في تردي أحوال المنظومة التربوية من خلال ضعف أرصدة المتعلمين من الموارد . ولقد انتقلت عدوى فقر الموارد من أدنى سلك تعليمي إلى أعلاه ، وأصبح فارق الضعف وهو2،2 من 10 لبلوغ نقطة المعدل 5 من 10 في السلك الابتدائي مئات الدرجات من الضعف في التعليم العالي في مستوى شهادة الدكتوراه . وهكذا ساهم فضول من لا علاقة لهم بقطاع التربية والتعليم في كارثة المنظومة التربوية من خلال ذهنية تعميم التعليم ، وإجباريته ، وهي ذهنية تفضل الكم على الكيف، إذ يمكن أن نرفع نسبة التمدرس في السلك الابتدائي إلى ما يقارب المائة في المائة ، ولكن على حساب المردودية المنشودة . وبعدما ساهمت الوزارة الوصية في تدني المستويات الدراسية من التعليم الأولي إلى التعليم العالي ، وفي فقر الموارد لدى المتعلمين أصبحت تنادي بمؤسسات التميز ، والجودة ، وأجيال النجاح. وكلها عبارات تدل على وعي الوزارة بما لحق المنظومة التربوية من أضرار بسبب سياسة الخريطة المدرسية التي لا تعنيها الموارد ، ولا عتبات النجاح المحترمة، بل يعنيها الانتقال بذريعة إجبارية التعليم وتعميمه ، والتبجح بنسبة التمدرس مقابل التصفيق الكاذب لها في المناسبات الإشهارية . وعندما ننتقد اليوم وبشدة قرار وزير التربية الوطنية بإلغاء مؤسسات التميز ، وهي مؤسسات محرجة لغيرها ،لأنها تراهن على عتبات النجاح الحقيقية ، وعلى امتلاك المتعلمين للموارد الواجبة ، فإننا نفعل ذلك بقناعة مفادها أن الوزير يكرس من جديد ذهنية تخريب المنظومة التربوية المخربة أصلا بسبب سياسة الخريطة المدرسية الفاشلة . وتردي مستويات التعليم في مؤسساتنا هو الذي جعل الوزير وأمثاله يرون في مؤسسات التميز مؤسسات مجرد مؤسسات نخبوية ، ومؤسسات أبناء الأعيان على حد تعبيرهم المجانب للصواب . وتردي المستويات هو الذي جعل سوق الدروس الخصوصية رائجة ومزدهرة .وهذه ذهية أخرى من الذهنيات المخربة للمنظومة التربوية سواء لدى الأولياء والآباء والأمهات الذين تصدمهم مستويات أبنائهم الدراسية الكارثية ، أو لدى تجار الحرب من أصحاب الدروس الخصوصية الذين ينتهزون فرصة تدني مستويات المتعلمين لعرض خدماتهم بالمقابل، وحالهم يذكرنا بفيلم الممثل الساخر " شارلي شابلن" الذي كان يكلف ابنه الصغير بكسر زجاج النوافذ ، فيمر بعده ليعرض خدمة إصلاحه على المتضررين بالمقابل . وتدني المستويات هو الذي فتح الباب على مصراعيه لتجار المؤلفات والكتب المدرسية ، وهذه ذهنية أخرى ساهمت في خراب المنظومة التربوية حيث انتهز مرتزقة التأليف الفرصة لتسويق منتوجاتهم بذريعة أن منظومتنا التربوية مشكلتها تكمن في الكتب والمؤلفات . وتدني المستويات هو السبب المباشر في عزوف المتعلمين عن الدراسة ، وفي اختلال تربيتهم ، وهو السبب المباشر في ظاهرة الغش في الامتحانات والاختبارات، لأن المتعلمين الذين يفتقرون إلى موارد لا يمكنهم دمجها في الامتحانات والاختبارات وهم وفاقدون لها ، لهذا يعوض الإدماج عندهم من الذاكرة بالنقل من قصاصات الورق ، ومن الأشرطة المسموعة ، والهواتف المحمولة ، وغيرها من وسائل الغش المتطورة التي تغطي ضعف الموارد لدى المتعلمين . وعزوف المتعلمين عن الدراسة هو الذي شجع المدرسين على العزوف عن التدريس ، والتراخي فيه بذريعة أن المتعلمين فقدوا الاهتمام بالدراسة ، وأن الجد لم يعد يفد في شيء . وعندما نراكم معضلة المنظومة التربوية نجد وراءها ذهنيات ساهمت في خرابها بدءا بذهنية فضول من لا علاقة لهم بالتربية والتعليم من الذين حشروا أنوفهم في تدبير شأن المنظومة تدبيرا منحرفا عن جادة الصواب ، ومرورا بالذين أسلسوا لهم القياد وتابعوا ضلالهم على اختلاف مستوياتهم ، وانتهاء بالضحايا من المتعلمين . فمعضلة المنظومة التربوية تكمن في هذه الذهنيات الخربة والمخربة . وأول ما يجب إصلاحه هو تغيير هذه الذهنيات بدءا بإبعاد الفضوليين عن مجال التربية والتعليم ، ومرورا بالذين لهم علاقة بالمنظومة على اختلاف تخصصاتهم ، وانتهاء بضحايا المنظومة القاصرين . ولا بد من إقناع الجميع بالمسؤولية عن خراب المنظومة ، ولا بد من إقناعهم بأن الوصفات المستوردة أو إلغاءها ، لا يمثل العلاج الأمثل لمعضلة المنظومة . علينا أولا أن نصلح الذهنيات ثم ننتقل بعد ذلك إلى البحث عن الوصفات المناسبة للعلاج . فمعالجة معضلة الذهنيات لدى الجميع بمثابة التحليلات الطبية السابقة لتشخيص الداء ، والسابقة لوصف الدواء . فهل سيفكر الجميع في عملية إصلاح حقيقية للمنظومة التربوية ؟ وهل الجميع مستعد لتغيير ذهنيته وبنكران للذات من أجل الصالح العام ؟ وهل الجميع مستعد للاعتراف بدوره ، مسؤوليته في أزمة المنظومة التربوية ؟ وهل الجميع مستعد للمحاسبة ، ودفع ثمن تقصيره ؟