تقاس جاذبية أي اختيار بيداغوجي بمدى نجاعته وقدرته على تحويل التعلمات إلى مكتسبات وظيفية تتغيا إكساب المتعلم كفاية حل المشكلات في وضعيات صعبة ومركبة، إذ يصبح قادرا على استنفار تعلماته وتعبئتها من أجل حل وضعية مشكلة تتجاوز السياق المدرسي لتنفتح أكثر على السياق المحلي والكوني. في هذا الإطار، تم خلق بديل بيداغوجي اصطلح على تسميته: “المقاربة بالكفايات”، هذه الأخيرة التي نقلت المنظومة التربوية من إبدال التلقين إلى إبدال التعلم الذاتي، وقد شكل ظهورها طفرة نوعية في مجال الأبحاث البيداغوجية نظرا لبراغماتيتها، ولربطها التعلم بالحياة. إن أجرأة هذه المقاربة واستنباتها في حقل منظومتنا التربوية استدعى التفكير في إطار منهجي يواكبها ودليل تطبيقي يرسم خطواتها وكيفية تنزيلها في الميدان، فاستقر رأي الفاعلين التربويين على الاختيار البيداغوجي المتمثل في “بيداغوجيا الإدماج” التي استحدثت لتحد من غلواء التنظير الذي صاحب المقاربة بالكفايات، فما المقصود بهذه البيداغوجيا؟ وما هي خصائصها المنهجية والديداكتيكية؟ وما سر جاذبيتها؟ وما دورها في تحسين جودة العرض التربوي وإثراء جاذبيته ومردوديته؟ ذلك ما سنحاول مقاربته في هذه المقالة المتواضعة. مرجعيات بيداغوجيا الإدماج (أعمال دوكوتيل وڭزاڤيي) نهلت المقاربة بالكفايات الأساسية من أعمال دوكوتيل Deketele في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين والمعتمدة أساسا على مقولة “هدف الإدماج النهائي” التي تطورت لاحقا تحت اسم “بيداغوجيا الإدماج” لكزافيي روجيرس 2000م. ولم يستعمل مصطلح “إدماج” في مجال التربية إلا في الفترة الأخيرة في بلجيكا وكيبك حيث ثم تبني هذه المقاربة بالتدريج في مختلف البلدان الأوربية والإفريقية وتحديدا في التعليم الأساسي فضلا عن التعليم التقني والمهني. في معنى الإدماج يعرف المجلس الأعلى للتربية في كيبك الإدماج بكونه “السيرورة التي يربط بها التلميذ معارفه السابقة بمعارف جديدة، فيعيد بالتالي بنينة عالمه الداخلي ويطبق المعارف التي اكتسبها في وضعيات جديدة ملموسة”. وحدده كزافيي بكونه “عملية نربط بواسطتها بين العناصر التي كانت منفصلة في البداية من أجل تشغيلها وفق هدف معطى”. نستنتج من خلال هذين التعريفين أن الإدماج هو “تجميع الموارد (المعارف- المهارات- المواقف/ السلوكات) المتفرقة وجعل علاقات منظمة بينها وترتيبها بكيفية ملائمة حيث تصبح ذات معنى ووظيفية، ويمكن استخدامها بطريقة ضمنية لحل وضعية مشكلة أو إنجاز مهمة مركبة”. وهكذا يغدو الإدماج عملية مركبة تستدعي قيام المتعلم “ة”باستنفار كل مكتسباته من أجل حل وضعية مشكلة هي بمثابة هدف الإدماج النهائي. مبررات اعتماد بيداغوجيا الإدماج. أثبتت الدراسات العلمية التي أنجزت حول الذاكرة وعلاقتها بالاحتفاظ والتخزين والنسيان أن حوالي 98% من التعلمات المكتسبة يجري نسيانها بعد أقل من أربعة أسابيع من تعلمها، لذا فكلما كانت التعلمات منظمة ومترابطة تيسر تخزينها في الذاكرة واسترجاعها عند الحاجة. لذلك تم التفكير في وضع سيناريوهات بديلة عبر الاستفادة من إنجازات علم النفس المعرفي بما يساعد على التخزين والاحتفاظ وتحريك آليات التحويل والإدماج. خصائص بيداغوجيا الإدماج. تتميز بيداغوجيا الإدماج بثلاث خصائص هي: - السياقية: ومعناها أن يصبح التعلم في سياق محدد. - التركيب: ومعناه تعبئة الموارد المختلفة قصد حل وضعية مشكلة. - دمج الموارد: يتم ضمن وضعيات إدماجية يستنفر من خلالها المتعلم كل موارده قصد إيجاد حلول للتعليمات المذيلة للوضعيات الإدماجية المركبة. إن التصور المبسط لبيداغوجيا الإدماج يقوم على فكرة مفادها أن المتعلم يتعلم بكيفية أفضل، كما أن إدماج المكتسبات في التعليم يراهن على الآتي: 1- مواجهة التحديات والصعوبات التي تعترض الأنظمة التربوية. 2- مساهمة المقاربة بالكفايات في تقديم أجوبة كفيلة بمواجهة هذه التحديات. 3- وضع قواعد وأسس واضحة لإدماج المكتسبات. 4- جعل انعكاس هذه البيداغوجيا يتبلور حول المناهج. وقد استند إدماج المكتسبات في التعليم إلى تطور نظام المعرفة وكيفية بنائها (من التلقين إلى التعلم الذاتي) وإلى نظريات التعلم الناتجة عن تطور البحث العلمي التربوي مما أفرز مجموعة من المفاهيم المؤسسة لإدماج المكتسبات مثل مفهوم المحتوى أو موضوع المعرفة ومفهوم القدرة ومفهوم الهدف الخاص ومفهوم الكفاية ومفهوم هدف الإدماج النهائي، ولعل القاسم المشترك بين هذه المفاهيم هو تركيزها على جوهر المنهاج المندمج وإدماج التخصصات عبر تمكين المتعلم من نقل تعلماته وتحويلها وإدماجها لحل وضعيات معقدة ومركبة تتجاوز السياق المدرسي إلى السياق المجتمعي (تأهيل المتعلم لممارسة الحياة). أهداف بيداغوجيا الإدماج: تروم بيداغوجيا الإدماج –شأنها في ذلك شأن كل البيداغوجيات- تحقيق مجموعة من الأهداف نختزلها فيما يلي: 1- التركيز على ضبط تحكم المتعلم”ة” في المكتسبات في نهاية سنة دراسية أو في نهاية التعلم الأساسي أكثر من التركيز على ما يجب أن يدرسه المدرس. إن دور هذا الأخير أضحى هو تنظيم التعلمات بأفضل طريقة ممكنة لكي يقود المتعلمين إلى المستوى المنتظر عبر وضع “سيناريو بيداغوجي” -كآلية من آليات التعليم الاستراتيجي- والذي يتضمن المراحل الآتية: -مرحلة التخطيط – مرحلة التدخل في الفصل- مرحلة إجراء الأنشطة. 2- منح معنى للتعلمات من خلال مساعدة المتعلم على موضعة تعلماته باستمرار في إطار علاقة مع وضعيات ذات معنى بالنسبة إليه وإقداره على توظيف مكتسباته لحل هذه الوضعيات. 3- التصديق على مكتسبات المتعلم في اتجاه حل وضعيات مادية ملموسة (التقويم التصديقي أو الاشهادي)، ومن تم فإن بيداغوجيا الإدماج – حسب كزافيي- هي جواب عن مشاكل الأمية الوظيفية. مفاهيم إجرائية مؤطرة لبيداغوجيا الإدماج. تؤثت بيداغوجيا الإدماج فسيفساء مفاهيمية تعتبر دليلا إجرائيا لبلوغ الأهداف المتوخاة من بينها : - الوضعية المشكلة: هي نموذج لتنظيم التدريس من خلال: إيقاظ الدافعية والفضول عبر إثارة التساؤلات. وضع المتعلم في وضعية بناء المعارف. هيكلة المهمات. كما تؤدي الوضعية المشكلة ثلاث وظائف هي: 1- وظيفة تحفيزية تسعى إلى إثارة اللغز الذي يولد الرغبة في المعرفة. 2- وظيفة ديداكتيكية تتيح للمتعلم فرصة تملك اللغز. 3- وظيفة تطورية تتيح لكل متعلم أن يبلور تدريجيا أساليبه الفعالة لحل المشكل - الموارد: هي مجموع المعارف والمهارات والمواقف/ السلوكات التي يجب تعبئتها من قبل المتعلم. - الوضعيات: أنشطة مركبة يتم من خلالها تعبئة موارد المتعلم. - الوضعية المستهدفة: هي وضعية بمثابة انعكاس للكفاية التي يجب ترسيخها لدى المتعلم. - الوضعيات المستهدفة: هي وضعيات إعادة الاستثمار أو وضعيات الإدماج، وهي تتميز عن الوضعيات الديداكتيكية التي تروم تطوير تعلمات مفاهيمية جديدة. - أنشطة الإدماج: هي أنشطة متنوعة تنشد بلوغ هدف الإدماج النهائي. - هدف الإدماج النهائي: هو قطب الرحى في بيداغوجيا الإدماج وهو كفاية تجميعية تراكمية يغطي مجموع الكفايات المراد بلوغها خلال سنتين على الأكثر أو في سلك دراسي معين أو مادة دراسية محددة. مواصفات وضعية الإدماج. 1- الترابط بين العناصر التي نتوخى إدماجها. 2- مفصلة العناصر وتحريكها لإعادة استثمار المكتسبات. 3- الاستقطاب أو التحريك: ويعني تحريك المتعلم لمكتسباته في وضعية دالة أي حل مشكلة قد تكون جديدة عليه. وفي مقابل وضعية الإدماج، حدد دوكوتيل خمسة أنماط لأنشطة الإدماج وهي مختلفة ومتنوعة حسب نوع النشاط والهدف المتوخى منه، فهناك أنشطة الاستكشاف وأنشطة التعلم النسقي وأنشطة البنينة وأنشطة الإدماج وأنشطة التقويم، كما تجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز بين أنشطة التعلم وأنشطة الإدماج. - أنشطة التعلم المكتسبات السابقة والآنية. - أنشطة الإدماج وضعيات مركبة تستدعي تعبئة كل الموارد. انطلاقا مما سبق، فإن المقاربة بالكفايات هي محصلة العناصر الآتية. الموارد أنشطة الإدماج هدف الإدماج النهائي التعلم الذاتي. كيفية انتظام التعلمات في بيداغوجيا الإدماج. تنتظم التعلمات ضمن سيرورة محددة ومضبوطة تروم تحقيق هدف الإدماج النهائي إذ يلاحظ وجود لحظتين في مسار التعلمات. - الأولى: التعلمات المنتظمة للموارد (المعارف- المهارات- المواقف/ السلوكات). - الثانية: أنشطة الإدماج والتقويم التكويني التي تسخر لتعليم المتعلم كيفية تعبئة الموارد في وضعيات معقدة. إن الإدماج يمكن أن يتم بشكلين: 1- إدماج تدريجي خلال فترات معينة. 2- إدماج في نهاية التعلمات، ويكون خلال فترة محددة، ويطبعه التنوع ويكون مذيلا بمجزوءات التقويم التكويني التي تغيا العلاج (التغذية الراجعة) بهدف تهييئ المتعلمين للتقويم الإشهادي أو التصديقي الذي يتم في نهاية السنة الدراسية ويكون موضوعه الوضعيات المعقدة. خلاصات واستنتاجات. نود في ختام هذه الدراسة التأكيد على أهمية بيداغوجيا الإدماج باعتبارها مدخلا إجرائيا وعمليا لتحقق الكفايات، غير أن التطبيق السليم لها يظل رهينا بتوفر مجموعة من الشروط منها: - تهيئ عدة بيداغوجية وديداكتيكية ملائمة لخصوصيات نظامنا التربوي. - تفعيل دعامات التكوين المستمر على المستوى النظري والتجريبي. - الاشتغال على كفايات المدرس لتتلاءم ومستجدات الحقل التربوي على اعتبار “أن المدرس مطالب في ضوء مقاربة بيداغوجيا الإدماج بالتنازل عن دوره التقليدي كبطل في مسلسل المهمة التدريسية لفائدة المتعلم الذي ستتحول وظيفته ويغدو مخرجا وصانعا لسيناريوهات الفعل التعليمي بامتياز”. وذلك في تناغم تام مع باقي مكونات الحقل البيداغوجي لتحقيق الأهداف المنشودة. *الثانوية التأهيلية (القرويين)”