كتبت مقالات سابقة عن جماعة تكليت القروية، وَضَّحْتُ فيها حجم التطور الذي عرفته هذه الجماعة على امتداد 22 سنة منذ إحداثها كجماعة ترابية مستقلة سنة 1992، وحجم الخسائر التي تكبدتها خلال نفس الفترة بالنظر إلى عدة عوامل منها: كنت ولازلت أرجعها بالدرجة الأولى إلى الافتقار إلى نخب محلية مثقفة على دراية وخبرة عالية في مجال تدبير الشأن العام المحلي، بالإضافة إلى هيمنة الوازع العشائري والفخذي (الأثلاث) على المصلحة العامة لدى الغالبية العظمى من المستشارين المحليين. الأمر الذي يساهم في استمرارية التهميش الناتج عن غياب سياسات عمومية محلية قادرة على رفع عجلة التنمية. وإذا كان المنطق يفرض أن تكون تكليت قد استفادت من تعاقب 4 مجالس منتخبة منبثقة عن انتخابات جماعية، فتكون الآن في مقدمة جماعات عمالة إقليمكلميم من حيث البنيات التحتية الأساسية والتنمية البشرية والتطور السكاني والعمراني، نظرا للتجربة السياسية والتدبيرية التي راكمتها مختلف المجالس المنتخبة، فإن المتتبع عن كثب للتسيير الإداري للجماعة سيجدها لا تزال تعيش حالة من الفوضى في تسيير وتدبير الموارد والإمكانيات البشرية والمادية المتاحة. إن تدبير المجلس الجماعي المنتخب خلال الانتخابات الجماعية لسنة 2009 وعلى مدى 5 سنوات، لم يعط سوى استمرارية لأنماط الاستبداد في اتخاذ القرارات والاستئثار والفردانية في التسيير وتبذير للمال العام لقضاء المصالح الشخصية، دون وعي وإحساس بالمسؤولية، ودون إدراك لنص وروح النصوص القانونية المتعلقة بالجماعات الترابية فما الواقع الذي تعيشه جماعة تكليت في مجال التنمية البشرية؟ وما أهم النتائج التي تم تحقيقها؟ وما الأسباب الكامنة وراء ضعفها؟ لقد أدت المقاربة الأمنية الذي تم تبنيها منذ الحصول على الاستقلال منتصف خمسينيات القرن الماضي، إلى تكريس المزيد من التحكم والهيمنة من قبل ممثلي سلطات الوصاية على الجماعات الترابية، وهو ما ساهم في إفشال النموذج التنموي للمجال الترابي المغربي، الأمر الذي جعل المغرب يطلق سنة 2005 مشروع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية الهادفة إلى إعادة تنظيم علاقة الدولة بالمجال الترابي من خلال الاعتماد على المقاربة التنموية إدراكا منه بأهمية التنمية البشرية باعتبارها المدخل الأساسي للنمو الاقتصادي الشامل، حيث سعت الدولة إلى النهوض بأوضاع الفئات المعوزة وفي وضعية الهشاشة وإعطاء الأولوية لفك العزلة عن العالم القروي، حتى يصبح سكانه أفرادا فاعلين في المجتمع والدولة على حد سواء، أفرادا يعتمدون على المبادرة الحرة والابتكار بدل انتظار إعانات ومساعدات الدولة. وعلى امتداد 9 سنوات تضاعفت الميزانية المخصصة لهذه المبادرة من ميزانية الدولة، وذلك بهدف تقوية أهدافها من خلال تشجيع إنجاز المشاريع وتقوية البنيات التحية الضرورية، ودعم المشاريع المدرة للدخل للأفراد، فتم إعطاء انطلاقة آلاف المشاريع في عموم التراب الوطني من شمال المغرب إلى جنوبه، ومن أعماق الشرق إلى أقصى الغرب، مشاريع كانت غايتها الأسمى إشراك المجتمع المدني في بلورة مشاريع القرب تساهم الدولة في تمويلها بشكل مباشر، الأمر الذي أدى إلى انفجار في عدد الجمعيات التي تم تأسيسها على الصعيد الوطني بغية الاستفادة من الدعم المباشر الذي تقدمه الدولة على مقترحات المشاريع، فتم الانتقال من 30 ألف جمعية سنة 2005 إلى حوالي 120 ألف جمعية سنة 2014. وفي هذا الخضم عرفت أيضا جماعة تكليت انفجارا من حيث عدد الجمعيات حيث تم تسجيل سنة 2012 حوالي 40 جمعية تعمل في مختلف المجالات، رغم التشابه الكبير في توجهاتها وأهدافها وحتى أنظمتها الداخلية، إذ يتم في غالب الأحيان استنساخ الأنظمة الداخلية مع الحرص على تغيير أسمائها فقط، كما أن أغلب الجمعيات ظلت محكومة بالطابع العائلي، فتجد المكتب مكون من 4 أو 5 أفراد ينتمون إلى نفس العائلة، ويرجع السبب في ذلك إلى الأمية التي تحكم سكان الجماعة، والترويج للإشاعات من قبل بعض الأفراد الذين ظلوا يوهمون الساكنة أن الدولة تدعم العمل الجمعوي والمشاريع المقدمة بنسبة 100%، كما هو الأمر مع رئيس المجلس الجماعي لتكليت الذي ظل يردد دوما مقولة " الروبيني ديما مفتوح"، بمعنى الدعم المادي للجمعيات سيكون شاملا. لكن الأمر لم يكن كذلك حيث تبين خلال سنة 2012 أن المشاريع التي استفادت من الدعم ظلت معدودة على رؤوس الأصابع، وتشوبها رائحة الانتقائية والانتهازية والفساد، وسنقدم بعض النماذج فقط منها: الجمعية مبلغ الاستفادة بمليون سنتيم نوع الاستفادة ملاحظة تاكديرت 07 20 نعجة وكبشين 3000 درهم للرأس الواحد تالمرست 07 20 نعجة وكبشين 3000 درهم للرأس الواحد للا تبيوط 07 20 شاة وتيسين 3000 درهم للرأس الواحد تعاونية أيت بوهو 07 20 نعجة وكبشين 3000 درهم للرأس الواحد
من خلال ملاحظة هذا الجدول، يظهر أن الجمعيات التي ستستفيد من دعم الدولة معدودة على رؤوس الأصابع، فقد تقدمت أكثر من 20 جمعية بمبادرات مشاريع، إلا أن الاختيار رسى على 3 جمعيات وتعاونيتين اثنتين فقط دون أية معايير واضحة تبين الأسس المعتمدة في اختيار مشاريع دون غيرها، وهو ما يبين العشوائية والانتقائية والزبونية في الاختيار، فاختيار هذه الجمعيات من قبل أعضاء المجلس الجماعي لتكليت يتم وفق الأهواء والانتماء العائلي والقرب من الأعضاء، كما أن العشوائية في تقدير الأثمنة ظلت واضحة في الاختيار، ففي الوقت الذي كان بالإمكان مثلا اختيار أنواع من الأغنام تقل ثمنا عن هذا النوع، وبالتالي زيادة الأعداد التي يمكن الحصول عليها وكذا أعداد المستفيدين، تم الاقتصار على انتقاء أنواع جيدة ومرتفعة الثمن ولا تتعايش مع المناخ الصحراوي الجاف الذي يميز تراب الجماعة، وهو ما سيؤدي إلى فشل هذه المشاريع لا محالة. لقد تم استحداث لجنة التنمية البشرية في المجالس الجماعية من خلال الإصلاح الذي عرفه الميثاق الجماعي لسنة 2009، وتختص هذه اللجنة التي يرأسها رئيس المجلس، بدراسة المشاريع التي تقدمها جمعيات المجتمع المدني والتي تستجيب لمعايير المخطط التنموي الجماعي، وتقدم اقتراحاتها بخصوص العديد من القضايا التي تهم مجال التنمية المحلية، إلا أن هذه اللجنة بالمجلس الجماعي لتكليت لم تستطع القيام بدورها الأساسي في مجال التنمية المحلية، فقد ظلت حبيسة الاعتبارات الشخصية والإثنية والقبلية لأعضائها، بعيدا عن المصلحة العامة والعليا للسكان والفئات المهمشة، ولم تستطع التحرر من الانتماء الفخدي والرأسمال الرمزي للانتماء لأحد الأثلاث الأساسية للقبيلة، وهو الأمر الذي لا يزال يعيق تنمية شاملة للرأسمال البشري للجماعة. إذا كان من المفروض أن يتسم العمل الجمعوي باعتباره ركيزة أساسية للتنمية المحلية، بالتطوع الذاتي الإرادي والمبادرة الشخصية الحرة والعقلانية، والتشبع بالقناعة والإيمان الهادفين لتحقيق المصالح عامة بعيدا عن الربح المادي والمصالح الشخصية، بالإضافة إلى التحلي بروح التعاون والتكافل والتضامن ونكران الذات والتضحية المادية والمعنوية، والتفاهم وقبول المواقف المختلفة والمعارضة، وتقديرها في إطار قبول الآخر والاحترام المتبادل والتعاون المثمر، وكذا التحلي بالصفات الحميدة والقيم الأخلاقية السامية، من إخلاص وأمانة وصدق وغيرها، فإن واقع الحال بجماعة تكليت يظهر عكس الأمر حيث يتم النظر إلى الموارد المالية العمومية المخصصة للتنمية البشرية، كونها وسيلة للاستغناء والاسترزاق من طرف مكتب المجلس الجماعي والمحيطين به والمقربين من الرئيس ونوابه. إن نجاح المجلس الجماعي لتكليت في تحقيق الأهداف الأساسية للتنمية المحلية يبقى اليوم، رهين بالتوفر على نخب أساسية لها من المؤهلات العلمية والتجربة السياسية والحنكة العملية، والحب والانتماء الروحي والإيمان بالمصلحة العامة ونكران الذات في الاشتغال، ما يؤهلها للعب دور ريادي، أما الإبقاء على النخب التقليدية والضعيفة تكوينيا وتدبيريا واستقلالا فلن يؤدي سوى إلى مزيد من التهميش والفساد في الصفقات العمومية والرغبة في مراكمة الثروات والمصالح الشخصية، وبالتالي ضياع مصالح السكان وحقوقهم الأساسية في التنمية والعيش الكريم.