الفوضى و العشوائية والعبثية هي العلامات المميزة لمدننا و لأذهان وأنماط تفكير أولئك الذين يقطنون هذه المدن، فلقد تغيرت وظائف الكثير من الأشياء و المعالم و الرموز في حياتنا المدينية، و كنا في كل مرة نستطيع أن نتعود على ما هو قبيح بمثل السلاسة و السهولة التي نتعود بها على ما هو حسن، حتى صار بإمكاننا أن نتعود على الغثيان و ما يشبهه!..و إذا أخذنا المساجد نموذجا، فإنها لم تعد، في مدننا، أمكنة للعبادة و العلم و التفقه في الدين، بل أصبحت تتحول شيئا فشيئا إلى مراكز تجارية يقصدها المصلون للصلاة و أيضا للتزود باحتياجاتهم الغذائية اليومية المختلفة..لقد أصبح ينظر إليها باعتبارها فضاءات يجتمع فيها العشرات و المئات من المستهلكين الذين يصعب تجميعهم بهذا القدر اللهم إلا في الأسواق الأسبوعية.. صوت المؤذن وهو يتردد في تلك المكبرات المهترئة، أصبح يحدث نفيرا و بلبلة في نفوس " الفراشين" و أصحاب العربات التي تجرها البغال و الحمير و قليل من الناس، حيث يهرعون ليأخذوا أماكنهم المفضلة على أعتاب المساجد وهم ينتظرون بفارغ الصبر أن يتلفظ إمام الصلاة ب" السلام عليكم" ليطلقوا العنان لحناجرهم القوية تستعرض عضلاتها في الصياح و "الغوات" لجدب الخارجين من المسجد إلى بضائعهم التي لا يتوقفون لحظة عن ترغيب الناس فيها و في جودتها و أثمانها..و إذا كان في جيبك بعض الدريهمات، فلك أن تختار من المعروضات ما تشاء.." ها الخضرة، ها الفاكية، ها التمر، ها الزيتون والزيت، ها الأدوية ديال مختلف الأمراض دقة بطلة، ها اللبن..." لتعود إلى بيتك سعيدا فتسعد عيالك. لكنك عندما تكون مسبوقا في الصلاة، فإنك لن تستطيع التركيز لا في ترتيلك لأم الكتاب و بعض آياته و لا في عدك للركيعات المتبقية، فتشعر بالدوار و يختلط عليك "القبلي و البعدي"!..و ذلك لأن الأصوات المجلجلة لأولئك الباعة و هي تختلط بنهيق حمرهم و بأصوات أبواق السيارات و الشاحنات التي تفقد صوابها و هي تحاول شق طريقها وسط الزحام الشديد، كل ذلك يخلق في ذهنك بلبلة و إرباكا يجعلك تتخيل انك تقيم الصلاة في قلب سوق أسبوعي "كأمحيريش"!..و مع ذلك، فالناس تتعود و تتطبع مع هذه الأشياء و تستحسنها و لله في خلقه شؤون. و في المقابل، نجد أصحاب مهن أخرى، مهن الفنون و المهارات، قد اختارت هي الأخرى المسجد مكانا مفضلا للكسب و الاسترزاق، ونقصد جماعة النصابين و المحتالين الذين ابتدعوا طرقا جديدة تتمثل في تجرئهم و دخولهم إلى قلب المسجد " ليوجهوا العار إلى المصلين" بعد أن يستثيروا عواطفهم و يدغدغوا مشاعرهم الرقيقة بقصص و حكايات درامية مختلقة ما أنزل الله بها من سلطان..و المشكلة أن و وجوها معروفة من هؤلاء الفنيين، أصبحت لا تجد حرجا في التردد باستمرار و انتهاك حرمة عدد من المساجد واضعة في حسبانها أن" الجامع بحال الكار، المصلين كيتبدلو في كل حين بحال المسافرين!"، دون أن تجد من يردعها عن هذا السلوك المشين والمنكر المبين و لا من يمنعها عن ذلك باسم القانون، مع العلم أن المساجد في بلداننا هي مقرات عمل دائمة للعيون و المخبرين..إذن كل هذا التسيب و هذه الفوضى، لا تعتبرها وزارة التوفيق " تشويشا" و لا مسا بحرمة بيوت الله، كما لا تنظر إليها وزارة الداخلية على أنها منافية للقانون!.." المهم ماتكلمو فالسياسة، ما سال الدم..الأمور بيخير"!، لكن المستغرب هو أن تستيقظ وزارة الأوقاف فجأة من سباتها، و تضع تعريفا اصطلاحيا خاصا بها لمفهوم" التشويش" الذي اقترن هذه المرة، فقط بالأجانب، و خصوصا بأولئك اللاجئين السوريين الذين وجدوا أنفسهم يتسولون على أعتاب مساجد دولة مسلمة «شقيقة»، مهددة إياهم بالطرد كما تطرد الكلاب من خيمة العرس!..المعروف أن بلدنا لم يقدم أي معروف يذكر لهذه الفئة المنكوبة التي عانت ويلات الحرب و الجوع و الخوف و التشرد، سوى أنه سمح لها بدخول أراضيه، فما الذي ينتظره منها غير أن تمد أيديها للمحسنين من الناس بالقرب من المساجد؟! و إذا علمنا أن عدد هؤلاء اللاجئين هو عدد قليل، يكون السؤال هو لماذا لم تقدم دولتنا نموذجا لدولة مسلمة، تمد يد العون و المساعدة لثلة من مواطني دولة مسلمة صديقة في وقت المحنة، فتستقبلهم بما يليق بكرامتهم و إنسانيتهم فتؤويهم وتطعمهم من جوع وتؤمنهم من خوف؟..أم أن الإحسان إلى شرذمة قليلين كهؤلاء لا يعود على الدولة بعائد سياسي مقبول كما الشأن بالنسبة لمجموعة من الدويلات الإفريقية؟!...نسأل الله عز وجل أن يحفظنا من شر الفتن و الحروب و أن يغنينا بفضله عن سؤال من لا يخافه فينا ولا يرحمنا، إنه سميع مجيب.