بعد رحلة فرار استمرت في الزمن لأزيد من خمسة أشهر، نجحت زوال أول أمس عناصر أمن مطار المنارة بمراكش في توقيف مواطن تركي متهم بالتورط ضمن شبكة دولية متخصصة في تزوير البطائق البنكية والاستيلاء على أرصدة زبناء هذه المؤسسات. كان المسافرون على متن الرحلة المتوجهة لمدينة برشلونة الإسبانية، منهمكين في القيام بالإجراءات الروتينية قبل ولوج مدرج الطيران حين انتبه أحد العناصر الأمنية المكلفة بمراقبة جوازات السفر إلى مسافر يحمل جواز سفر تركي. الاسم المتضمن بالجواز وتقاسيم الوجه والملامح أيقظت حواس الأمني المتوثبة، وجعلته ينتبه إلى أن هذا الوجه الماثل أمامه ليس غريبا ، وقد سبق أن مر عليه في ظروف مازالت الذاكرة تحتفظ بنتف منها، تعجزه شروط اللحظة عن تذكر كل تفاصيلها. مشاعر وأحاسيس دفعت برجل الأمن إلى وضع التركي تحت مجهر التمحيص والتدقيق، والوقوف كثيرا عند كل معلومة كبيرة وصغيرة يتضمنها جواز سفره، حين برزت أمامه حقيقة مثيرة تتجلى في كون تاريخ دخوله التراب الوطني لا يتعدى ال24 ساعة، حيث قدم إلى مراكش زوال اليوم السابق فقط قادما إليها من نفس المدينة الإسبانية، ليقرر المغادرة في اليوم الموالي. أمام هذا المعطى تقرر الرجوع للناظم الآلي الخاص بالمصالح الأمنية، والبحث ضمن قوائم المبحوث عنهم، حين برزت الحقيقة ساطعة بكون التركي موضوع مذكرة بحث دولية،على خلفية تورطه ضمن شبكة أجانب متخصصة في تزوير البطائق البنكية والتلاعب من خلالها بحسابات الزبناء. تم ربط الاتصال بمصالح الشرطة القضائية التي عملت عناصرها على اقتياد المتهم للتحقيق معه، ووضعه تحت مجهر التحريات والاستنطاق، وكل الجهود منصبة على تحديد أماكن وجود بعض العناصر التي حلت رفقته بالمدينة في اليوم الفارط،ومدى ارتباطاتها بهذا النشاط الإجرامي الذي طال العشرات من زبناء الأبناك. المتهم كان قد نجح في مغادرة التراب الوطني نهاية السنة المنصرمة ،مباشرة بعد تمكن المصالح الأمنية بمراكش، من تفكيك شبكة دولية واعتقال بعض عناصرها الذين رشقوا العديد من دول المعمور بسهام هذه الاقترافات. من روسيا إلى مصر مرورا بأوكرانيا، تركيا وتونس، ظلت آلة الشبكة الإجرامية تشن حربا شعواء وقودها الأرصدة المالية المودعة بالمؤسسات البنكية، وضحاياها من زبناء هذه المؤسسات الذين تتم الإغارة على حساباتهم لسحب ما تتضمنه من مبالغ، ومعتمدة في ذلك على آخر صيحات التكنولوجيا المعلوماتية. بدأت فصول الواقعة، حين بدأت بعض المؤسسات البنكية بالمدينة الحمراء، تتوصل بوابل من الشكايات التي تقدم بها زبناؤها، يؤكدون من خلالها على اختفاء مبالغ مالية من أرصدتهم البنكية، لتؤكد عمليات الجرد بعدها بأن المبالغ قد تم سحبها من الشبابيك الأوتوماتيكية عبر البطائق الممغنطة، والتي يبقى الزبون وحده من يملك شفرة قنها السري. تأكيد المتضررين بعدم قيامهم بأية عملية سحب أو ضياع بطائقهم في أية لحظة من اللحظات، بالإضافة إلى تواتر وابل الشكايات،أدخل إدارات المؤسسات البنكية المعنية خانة الإحراج، وفرض عليها اعتماد مسطرة التعويض حفاظا على سمعتها مع المتعاملين والزبناء. استمرار نزيف عمليات السحب المذكورة، والتي امتدت لتشمل العديد من مدن المملكة ابتداء من مراكش وأكادير وصولا إلى الدارالبيضاء وطنجة، أثار انتباه المصالح الأمنية التي سارعت بدق ناقوس الخطر،ودخلت في حالة استنفار، في محاولة لتتبع خيوط هذه العمليات، بعد أن تأكد لديها وجود نشاط إجرامي خطير يقف خلف هذه العمليات. أمن مراكش بدوره كان في الموعد، وشرعت عناصره في تجنيد كافة خبراتها، لإلقاء حجر في بركة المياه الراكدة لهذه الظاهرة المثيرة، خصوصا بعد أن تجاوز حجم المبالغ المسحوبة 745,516.00 درهم من مؤسسة بنكية، ومبلغ 500.000 درهم من مؤسسة أخرى بشكل متزامن وفي ظرف وجيز. أمام هذه الوقائع الصادمة، انطلق مسار التحريات بالاستماع لإفادة الممثلين القانونيين لهذه المؤسسات، في محاولة لوضع تصور دقيق يشكل منطلق البحث والتحري، مع التزود بالصور الفوتوغرافية وأشرطة الفيديو التي تم التقاطها بواسطة كاميرات المراقبة التي دأبت ابناك على تثبيتها بالشبابيك الأوتوماتيكية. كان واضحا من خلال المعلومات المتوفرة،وجود أشخاص أجانب يقومون بعمليات سحب متواصلة، استهدفت عشرات الشبابيك التابعة لمختلف المؤسسات البنكية، ما رسخ القناعة بوجود شبكة أجنبية منظمة، تعمل عناصرها على غزو الحسابات البنكية لزبناء هذه المؤسسات، باعتماد تقنية جد متطورة في مجال المعلوميات والإلكترونيك. بالموازاة مع تحقيقات العناصر الأمنية، بادرت المصالح المركزية للمؤسسات البنكية المتضررة إلى تسخير نظام استشعار، يمكن من رصد أي استعمال لبطائق مزيفة في سحب مبالغ مالية من شبابيكها الأوتوماتيكية. مجهودات أثمرت رصد محاولتين مشبوهتين تجريان في نفس التوقيت على مستوى منطقة تانسيفت وشارع عبد الكريم الخطابي،ستكونان بداية نهاية نشاط الشبكة المذكورة، حين تم تعقب الجناة الذين كانوا يتحركون على متن سيارة من نوع داسيا، تابعة لإحدى وكالات الكراء، تم تحديد رقم لوحتها المعدنية، وقادت إلى شقة مفروشة بشارع يعقوب المريني. بداخل الشقة تم توقيف مواطنين تركيين، مع حجز مجموعة من التجهيزات والمعدات التقنية والإلكترونية،بالإضافة إلى العديد من البطائق البنكية المزيفة. عملية التوقيف ستكشف عن مجموعة من الحقائق المثيرة،التي بينت في بعض تفاصيلها عن طبيعة الشبكة العنكبوتية التي تمتد أضلاعها من روسيا إلى أوكرانيا وصولا إلى تركيا. أكد أحد المتهمين في معرض تصريحاتهما،أنه قد تعرف على الرأس المدبر الذي يتحرك تحت اسم "أندريو" وهو روسي الجنسية، بواسطة أحد أعوانه من جنسية تركية ، ويتحرك بدوره باسم حركي "أوسمان" على شبكة الأنترنت بواسطة تقنية السكايب،وعرض عليه العمل لحساب "معلمه" في مجال تزوير البطائق البنكية وسحب مبالغ مالية بواسطتها. بعد قبوله المهمة، توصل بتعليمات من الروسي تقضي بضرورة انتقاله للمغرب في إطار توسيع نشاط الشبكة، حيث أخبره بتوفره على عملاء بالمغرب، سيعملون على تسهيل مهمته، وتلقينه كيفية استعمال التقنيات والمعدات اللازمة وتزويده إياها، مقابل عمولة تصل إلى نسبة الربع مما سيتم تحصيله من المبالغ المختلسة. كانت التعليمات تقضي كذلك، بالبحث عن مساعدين تتوفر فيهم شروط الجرأة والكتمان، للنهوض بالمهمة المطلوبة، ماجعل المعني يبادر بربط الاتصال ببعض أصدقائه لعرض الأمر عليهم،وحثهم على المشاركة ضمن عناصر الشبكة، تحت إغراء سهولة المهمة ووفرة المكسب المادي. انتقل بطلب من الروسي رفقة شركائه صوب الديار المغربية، حيث كانت التعليمات تقضي بالانتقال من الدارالبيضاء صوب مدينة البوغاز،والتوقف بمحطة القطار في انتظار مواطن روسي، لتلقينهم عمليات السحب وطرق استخدام الأجهزة التي سيمدهم بها. بعد إنجاز المهمة، عاد الأظناء للعاصمة الاقتصادية ودائما تحت تعليمات الرأس المدبر بروسيا، حيث ضرب لهم موعدا مع عميل روسي آخر قرب أحد الفنادق المشهورة، قام بتسليمهم مجموعة من البطائق البنكية المزيفة، مع تحديد خارطة المدن المستهدفة والوكالات البنكية التي ستتم الإغارة عليها. كان الجناة يتنقلون تحت تعليمات الرأس المدبر، في رحلات مكوكية قادتهم إلى روسياوأوكرانيا، ليعودوا بعدها صوب التراب الوطني، في إطار تحركات تؤكد على الطبيعة المافيوزية للتنظيم، فيما المحرك للعبة كان يقوم بتحريك المتورطين وفق تعليمات مضبوطة، ودون أن يتمكنوا من ملاقاته وتحديد هويته،بالرغم من تحديده لمواعيد بمختلف الدول المذكورة، حيث كان يتذرع في آخر لحظة بوجود طارىء يمنعه من ملاقاتهم،وبالتالي استمراره في تحريك خيوط القضية من خلف ستار الشبكة العنكبوتية. تحركات الجناة بمختلف ربوع مدن وأقاليم المملكة، وملاقاتهم لعملاء روس للتزود بآخر التعليمات والمعدات اللازمة،،كانت تسهل عليهم مأمورية سحب مبالغ مالية بطرق دقيقة،مع اختيار الشبابيك المناسبة،وبالتالي تحصيل غنائم"معتبرة". عمليات السحب تنطلق بالحصول على جهازبلاستيكي يسمى "سكيمر"، مطابق لقارىء بطاقات يتم تثبيته بالشبابيك المستهدفة، ويكون ملتصقا بجهاز إلكتروني تقوم مهمته باستنساخ المعلومات ببطائق الزبناء، مع جهاز آخر مزود بكاميرا صغيرة تنحصر مهمته في تحديد القن السري للبطاقات البنكية. يوصل الجهاز بالفتحة المخصصة للبطائق بالشباك الأوتوماتيكي ويترك طيلة ساعات، يكون خلالها الزبناء قد قاموا بعمليات سحب عادية،دون أن ينتبهوا لوجود الجهاز الدخيل الذي يتلقف معلومات دقيقة وسرية عن بطائقهم الخاصة. بعد استرجاع المعدات المزروعة،يغادر الجناة صوب مقر إقامتهم للقيام بعمليات القراءة للمعلومات التي تم تجميعها والخاصة بالبطائق البنكية بما فيها الأرقام السرية بواسطة أجهزة خاصة بهذه الغاية، ومن ثمة نسخها على بطائق مزيفة تصبح صالحة للاستخدام ومعدة لسحب مبالغ مالية . انطلاق عمليات السحب غالبا ما يختار لها أوقات متأخرة من الليل، تفاديا لأي طارىء أو مفاجأة من شأنها كشف المستور ومايجري ويدور على أيدي أفراد الشبكة. التحقيق مع الأظناء الموقوفين، كشف عن وجود مجموعة من الشركاء متوزعين على مختلف مدن وأقاليم المملكة، ضمنهم أتراك وروسيون، تم تحديد هوية بعضهم، وسيجوا بمذكرات بحث وطنية، ما مكن من اصطياد أحدهم وهو يحاول مغادرة التراب الوطني عبر بوابة مطار محمد الخامس اتجاه التراب التونسي،فيما ظلت يد العدالة تطارد باقي المتورطين، إلى أن تم تصيد المسافر التركي المومأ إليه.