نشرت جريدة الصباح سلسلة حلقات عن بحث مميز للصحافي إبراهيم أكنفار (رئيس نادي الصحافة تيزنيت) حول الأسطورة الأمازيغية الرايس الحاج بلعيد، الحلقة الثالثة بعنوان ( أثر الثقافة الإسلامية والأمازيغية في أشعار الحاج بلعيد ) ( بانوراما الصيف: رائد الأغنية الأمازيغية 3) في العدد 3508 ليوم الجمعة 22 يوليوز 2011: "يعتبر الفنان الرايس الحاج بلعيد من شعراء ورواد الأغنية الأمازيغية دون منازع، وينسب إليه تأسيسها، واعتبره البعض أباها الروحي وقيدومها، فهو شاعر ومبدع... وموسيقي كبير وأحد الرموز التاريخية للمشهد الثقافي والغنائي والفني الأمازيغي عامة، والسوسي خاصة. كما اعتبره البعض الآخر فلتة من فلتات التاريخ، ربما لن يجود الزمان بمثلها ثانية، فهو فريد وغير قابل للتقليد، ما زالت مقطوعاته تتداول من جيل إلى آخر داخل الوطن وخارجه، خاصة بأوربا، إذ ما زلنا نرى في كثير من منازل أهل سوس صورة الحاج بلعيد بجانب صورة محمد الخامس تزين جدران بيوتهم. إن المتفحص لأشعار “تُقصدين” الفنان الحاج بلعيد ليلحظ مدى تأثره بالأجواء الثقافية السائدة في محيطه، إذ تعتبر الفترة التاريخية الممتدة بين نهاية القرن الثالث عشر وبداية الرابع عشر الهجريين من بين الفترات التي شهدت فيها مناطق سوس حركة ثقافية متميزة، رغم العواصف السياسية التي ميزت تلك الفترة. وسنسعى إلى سبر أغوار تأثر شعر الحاج بلعيد من خلال رافدين ثقافيين رئيسيين: الثقافة الإسلامية العربية والثقافة الأمازيغية الضاربة في القدم. لعب المسجد دورا رئيسيا في صياغة شخصية المواطن المغربي السوسي، حيث لم يقتصر دوره فقط في أداء العبادات وتعلم الكتابة والقراءة، بل تعداه إلى التوعية الدينية ومناقشة جميع النوازل الطارئة على المجتمع السوسي، بما فيها شحذ الهمم لمواجهة مكائد المستعمر الذي ظل يتربص بقبائل سوس التي استعصت عليه من أجل احتوائها. وبفضل الرعاية التي حظوا بها من قبل أهل سوس من جهة وقواد المخزن من جهة أخرى، أصبح للعلماء دور محوري في توجيه الناس وإرشادهم وأصبح المسجد يخرج العشرات منهم، وتمثل “المدرسة العلمية العتيقة لأكلو” أول مدرسة عرفها المغرب، كانت تُدرس فيها جميع أنواع العلوم، بما فيها علوم المنطق والرياضيات والفلك، بعدها تناسلت العشرات من المدارس العتيقة في كل مناطق سوس وتنافس سكانها في دعمها ورعايتها ولا دخل للمخزن في تسييرها. وكان لمسقط رأس الفنان الحاج بلعيد “بلدة وجان” التي تنتمي إلى قبيلة “إداوبعقيل” نصيب وافر من هذه العلوم، هذه القبيلة التي أنجبت العشرات من العلماء الأفذاذ الذين ذاع صيتهم بسوس وخارجه. وقال عنها العلامة المختار السوسي لما وصل إليها “وقد يجول في بالي ما كان مضى في ذلك البسيط من حوادث تاريخية، لأن وجان مفتاح جزولة من قديم ولِ “ِوجان” في نشأة أدبء وفقهاء وقضاة...”، وتعاقب على وجان مجموعة من الأسر العلمية السوسية، منها الأمزوغارية نسبة إلى القاضي احمد الأمزوغاري، الدغوغية وهي أحفاد الشيخ أبو إبراهيم بن إبراهيم الدغوغي والأمسكدادية. وذكر الباحث الحسين إحيا في رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في الآداب، ثلة من العلماء والفقهاء الِوجانيين المعاصرين والمعاشرين للفنان الحاج بلعيد، وفي مقدمتهم التدارتيين وآل أولعوفي، والعدل سيدي الحسين بن لحْسن والأديب المحفوظ والفقيه سيدي عبد الرحمان بن مومو الأدوزي وسيدي مبارك بن احمد من أيت موسى، وبُولْهَم سيدي محمد بن أحمد وغيرهم كثير الذين جمعوا بين الفقه والأدب والمنطق وعلا كعبهم في التمكن من علوم اللغة العربية وآدابها، كما تفننوا في تعلم وتدريس علوم القرآن باللغة الأمازيغية “تشلحيت”، إلى حد أن عالما من علماء سوس في العصر السعدي، النحوي والفيلسوف سيدي احمد بن محمد بن يعزى بن عبد السميح التاغاتيني الرسموكي، زاوج في قصيدة شعرية جميلة بين اللغة العربية وتشلحيت عُرفت بأرجوزة الرسموكي، هذه بعض أبياتها: اسم الإله في الكلام “ئِِزْوارْ” *** وهو على عون العبيد “ئِزضار” وهو الذي له جميع “تولْغيتينْ” *** وهو المجير عبده من “تُومْرِتينْ” وكان لهذه الظاهرة اللغوية آثار بليغة على أصدقاء الفنان الحاج بلعيد بمدينة مراكش، فتأثر بها الشاعر محمد بن إبراهيم المراكشي، وقد تعدت الظاهرة أهدافها الشعرية إلى ما هو تعليمي للغة الفرنسية من قبيل: الرأس “طِّيطْ” والأنف “نِّي” والعنق “كُّو” وللتعبير عن كثير قُل “بُوكُو”. والحاج بلعيد أبدع العديد من القصائد الدينية مثل “تاقصت ن يان اؤمحضار” أي قصة أحد الطلبة وهو يقصد طلبة المدارس العتيقة الذين يتعلمون القران الكريم والسنة النبوية. التعلم والتأليف ب”تشلحيت” استعمل علماء وفقهاء أهل سوس اللغة الأمازيغية “تشلحيت” لفهم ما استعصى عليهم وعلى الطلاب من اللغة العربية، وفهموا وشرحوا بواسطتها القرآن الكريم والسنة النبوية، بل كتبوا بها ما علموه وتعلموه وترجموا بها عدة كتب قيمة في عدة مجالات، كالأربعين النووية ورياض الصالحين. كما عاصر الحاج بلعيد مجموعة من الشعراء الأمازيغ من أمثال بيهي بن بوعزة واحمد بن سعيد وعبد النبي التناني ومبارك أُبولحْسن التازروالتي ومحمد بودراع التازروالتي والعربي بن عبد الله الجراري الويجاني ومحمد بن العربي البعمراني ومبارك كوويجان، غير أن الحاج بلعيد تفوق عليهم وتجاوزهم لانفراده بخصائص لم يشاركه فيها أحد منهم إلا قليلا سواء تعلق الأمر ببراعة العزف والصوت الجميل وحسن الأداء وحذف التلوين اللحني. وبدون شك، كان لهذا التراث الفقهي والأدبي والشعري المكتوب باللغة الأمازيغية تأثيره الكبير على شخصية الحاج بلعيد، وهذا ما تشخصه أشعاره المتعددة." إبراهيم أكنفار – جريدة الصباح