توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس    الإدارة السورية الجديدة تُعلن أحمد الشرع رئيساً للبلاد    مجلة الشرطة تسلط الضوء في عددها الجديد على الشرطة السينوتقنية (فيديو)    بسبب سوء الأحوال الجوية.. وزارة التجهيز تهيب بمستعملي الطرق توخي الحيطة والحذر    جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام 2025 تكرّم جهود بارزة في نشر المعرفة الإسلامية    رسمياً..أحمد الشرع رئيسًا لسوريا    وزارة التجهيز تحذر مستعملي الطرق من سوء الأحوال الجوية على خلفية نزول أمطار رعدية قوية    طنجة: تساقطات مطرية غزيرة وسيول جارفة تغرق عددا من الأحياء الشعبية (فيديو)    المغرب التطواني يتعاقد مع مدير رياضي تداركا لشبح السقوط    محكمة الاستئناف بطنجة: البت في 328.704 قضية خلال سنة 2024    وفاة الكاتب الصحفي والروائي المصري محمد جبريل    نادي "غلطة سراي" يودع زياش    الحموشي يجري سلسلة اجتماعات بمدريد لتوسيع مجالات التعاون الأمني مع إسبانيا وألمانيا    أخنوش يذكر بالولوج العادل للأدوية    بلجيكا تؤكد دعمها لمبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي لقضية الصحراء.. توجه أوروبي متزايد لدعم السيادة المغربية    أونسا يؤكد إخضاع مشروبات "كوكا كولا" لمراقبة صارمة    الشبكة الكهربائية.. استثمار يفوق 27 مليار درهم خلال السنوات الخمس المقبلة    قيادة حزب الاستقلال تدعم سعي نزار بركة إلى رئاسة الحكومة المقبلة    جهة طنجة-تطوان-الحسيمة تستفيد من استثمارات استراتيجية ضمن 17,3 مليار درهم صادقت عليها اللجنة الوطنية للاستثمارات    معهد التاريخ يبرز عالمية المغرب    حصيلة أداء اليوم ببورصة البيضاء    رسميا.. الوداد يعزز صفوفه بضم مالسا    جائزة عبد الله كنون تكرّم الإبداع الفكري في دورتها الثانية عشرة حول "اللغة العربية وتحديات العولمة"    مركز الإصلاح يواجه الحصبة بالتلقيح    انهيار الطريق بين الحسيمة والجبهة..اتخاذ عدة إجراءات لضمان استمرار حركة السير    6 أفلام مغربية ضمن 47 مشروعا فازت بمنح مؤسسة الدوحة للأفلام    حزب "النهج" يستنكر التعسف في هدم المنازل بالأحياء المهمشة    إفران تطمح إلى الحصول على العلامة الدولية لمدينة نظيفة 100 في المائة    طقس المغرب: رياح قوية وأمطار رعدية وتساقطات ثلجية بهذه المناطق    الفنان المغربي علي أبو علي في ذمة الله    مجلس جهة طنجة تطوان الحسيمة يطلق منصة رقمية لتعزيز الشفافية في دعم الجمعيات والتعاونيات    ساعة نهاية العالم تقترب أكثر من منتصف الليل.. 89 ثانية تفصلنا عن الكارثة    الريان يعلن إنهاء التعاقد مع المغربي أشرف بن شرقي    تقرير: 66% من أسئلة النواب دون جواب حكومي والبرلمانيات أكثر نشاطا من زملائهن    ترامب يأمر بتقييد إجراءات عمليات التحول الجنسي للقاصرين    الطيب حمضي ل"رسالة 24″: تفشي الحصبة لن يؤدي إلى حجر صحي أو إغلاق المدارس    أمراض معدية تستنفر التعليم والصحة    المؤسسة الوطنية للمتاحف وصندوق الإيداع والتدبير يوقعان اتفاقيتين استراتيجيتين لتعزيز المشهد الثقافي بالدار البيضاء    ليفاندوفسكي:" أرغب في إثبات أن العمر مجرد رقم"    دلالات ‬الموقف ‬المغربي ‬المتزن ‬و ‬المتفرد ‬من ‬رؤية ‬الرئيس ‬ترامب    توقيف مروج للبوفا مبحوث عنه بموجب مذكرات بحث وطنية    توقيف شخص بتهمة التخطيط لقتل وزير في الولايات المتحدة    المَطْرْقة.. وباء بوحمرون / الحوز / المراحيض العمومية (فيديو)    نجم كرة القدم الإسباني المعجزة لامين يامال إشترى لجدته وأمه وأبيه ثلاثة منازل في عمره 16 سنة    إجلاء 176 شخصًا بعد اندلاع النيران في طائرة بكوريا الجنوبية    التعاونيات كقوة دافعة للتنمية: نحو نظم زراعية وغذائية أكثر استدامة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا    "كاف" يقرر رفع عدد المنتخبات المشاركة في "كان" تحت 17 سنة المقرر في المغرب إلى 16 منتخبا    الرجاء الرياضي يفك ارتباطه رسميا بالمدافع ياسر بالدي خلال فترة الإنتقالات الشتوية الحالية.    المغرب يتصدر قائمة الوجهات السياحية الموصى بها لعام 2025 من قبل كبار منظمي الرحلات البرازيليين    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون متعلق بنظام الضمان الاجتماعي    الذهب يصل إلى هذا المستوى    علاج غريب وغير متوقع لمرض "ألزهايمر"    عائلة الشاب حسني والشاب عقيل تمنع حفلهما بالمغرب    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التّدَيُّنُ وَالتَّعْلِيمُ وَظَاهِرَةُ التّطَرُّفِ الدِّينِيِّ
نشر في تيزبريس يوم 20 - 01 - 2019

بِسمِ الله الرّحمنِ الرحيمِ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على رَسولِ الله.
يشْهد العالمُ في العقودِ الأخيرةِ تناميّاً حادّاً للفِكر المُتَطرِّف، الذي يميل إلى الإقصاء وكُرهِ الآخر، والعملِ على مصادرةِ الحقِّ في الرّأيِ وعدمِ قبولِ الاختلافِ. إلّا أنّ ظاهرةَ التّطرفِ ليْستْ دِينية دَائماً -كما يظُنّ البعضُ- إذْ في الوقتِ الذِي نَجدُ فيه متديّناً متَطرِّفا نجدُ أيْضا عَلمانيّا متطرِّفاً ومُلحداً متطرِّفا، فالتّطرفُ صفةٌ قبيحةٌ وناشزةٌ تَعتَري مُختلفَ التّوجهاتِ الدّينيةِ أو الفِكريّة، لكنْ هدفَنا في هذه المقالةِ بيانُ مردِّ التّطرف الدينيّ ومنشئهِ.
أولا: فطريةُ التّدينِ.
يقول ابنُ منظور في لسانِ العَرب: ” والفِطرةُ مَا فطرَ اللهُ عليهِ الخلقَ، من المَعرفةِ بهِ، وقد فَطرَهُ يفطُرهُ (بالضَّم) فَطْراً أيْ خَلقَهُ” ]1 [ فَالفِطرةُ هِي الخِلقةُ التي خُلق عَليهَا الإنسانُ، والسّجيّةُ التي جُبلَ عليهَا المرءُ منذُ ولادتِه، وتَتَمثَّل في المُيُول إلى التّديُّنِ والنُّزوع الغَريزِيِّ إلى السُّلوكِ الدِّينيّ. ولوْ دَقّقْنا أكثَر لقُلنَا إنّ الفِطرةَ التي خُلقَ عليْها الإنسانُ فِي جَانبِها الدِّينيِّ هِي التّوحيدُ، وإِنّ اعتناقَ غَيرِها اِنحرافٌ عنْها. ومِصدَاقُ ذلك في الذّكر الحَكيم قوله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) ]الأعراف/172 [ ، يقول العلامةُ المكّي الناصِري رحمهُ اللهُ: “أقْدَمُ وأَوَّلُ ميثاقٍ أخَذَه اللهُ عَلى كافَّةِ العِبَادِ وهُم لا يَزالونَ فِي أصْلابِ آبَائِهم سرّاً مِكنوناً فِي عَالم الغَيبِ، وهذا المِيثاقُ هُو ميثاقُ فِطرةِ اللهِ التي فَطرَ النَّاس عليها، وهُو يتضمّن في جَوهرهِ الإقرارَ بِربوبيّة اللهِ وبِعبوديةِ الإنسانِ، على أساسٍ من التّوحيدِ والإيمانِ. فما مِن إنسانٍ إنسانٍ وُكِلَ إلى فطرتِهِ الأولى، ولم تتعرَّض فطرتُه لعواملِ التَّشويهِ والإفسادِ، إلَّا وَهو مُقِرٌّ بألوهية اللهِ ورُبوبيّتِهِ للعبادِ، ومُعترِفٌ منْ أعمَاقِ قلبِهِ بِهذا المِيثَاقِ” ]2 [ فَانطِلاقاً من هذا الكلامِ نَعِي أنَّ التَّدينَ سُلوكٌ فطريٌّ لازمٌ لِلإنسانِ منْذ نَشأتِه على هذه الأرضِ. وقَد أقَرَّ الفيلسوفُ الفَرنسيّ هِنْري بِرغْسون بِهذهِ المُلازَمةِ الضَّاربَة في المَاضي السَّحيقِ فيَقولُ: (فَلقَد نَرَى في السَّابِق أوْ في الحَاضِر مُجتمعاتٍ إنسانيةً لا حَظَّ لَها مِن علمٍ أو فَنٍّ أو فَلسَفةٍ، ولكنّا لا نَعرِفُ مُجتَمعاً لا دِينَ لهُ) ]3 [، ويُحاولُ الدّكتور عبد الله الخَريجي أنْ يُقدِّم تفسيراً نفسيّاً واجتماعيّاً لهذه المُلازمةِ المطَّرِدَةِ بيْن الإنسانِ والتّدَيّن فيَقولُ: (إنّ الإنسانَ بفِطرتِه لا يُمكنُ أنْ يَستَقِرَّ في هَذا الكوْنِ الهائلِ ذّرةً تائهةً معلَّقةً ضائعةً، إذْ لابدَّ لهُ من رِبَاطٍ مُعيَّنٍ في هذا الكونِ يضْمنُ له الاستقرارَ ومعرفةَ مكانِهِ في هذا الكونِ الذي يعيشُ فيهِ، ولذَلك لابُدَّ له منْ عقيدةٍ تُفسِّر له ما يُحيطُ به وتُفسِّر له مكانَه فيما حولهُ، فالدِّين ضَرورةٌ فطريَّةٌ شعوريَّةٌ لا علاقةَ لهُ بمُلابَساتِ العصْرِ والبِيئةِ، وكمْ كانَ شقاءُ الإنسانِ وحيرتُه وضلالُه حينَ اخْطأ في فَهمِ حقِيقةِ هذا الارتِباطِ وهذَا التَّفسيرُ، أيْ أنَّ حاجةَ الإنسانِ إلى الدِّين حاجةٌ فطريّةٌ مُركَّزةٌ في طبيعتِه النّفسيّةِ ومغروسَةٌ في شعورِهِ) ]4 [
إنَّ فِطريَّةَ التَّديُّن حقيقةٌ يُقرُّها القُرآنُ الكريمُ، وتُؤكدُها مختَلفُ العلومِ، ويُصدِّقهَا الوَاقعُ، فلا سَبِيلَ لاعتِقادِ أَنّ التّديّنَ أمرٌ عَارضٌ أو سُلوكٌ مكْتَسَبٌ يُمكنُ الاسْتِغْناءُ عنه بسُهولةٍ، كَلَّا إنَّهُ شعورٌ فطريٌّ راسخٌ، يستحيلُ تَبديلُه، قال اللهُ تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ]الروم/30 [
ثانيا: تَدبِيرُ الشَّأنِ الدِّينيّ، نَماذجُ ونتائجُ.
عطْفاً على مَا تَقدَّمَ ذِكْرُه في المِحورِ السّابقِ من قَاعدةِ فِطريّةِ الشُّعورِ الدِّينيِّ والنُّزوعِ الجِبِلِّيِّ إلى التَّديُّن الرّاسِخِ فِي الكَائنِ البَشريِّ، فإنّه لنْ يَبْقى أمَامَنا سِوى التّعامُلِ الإيجَابيِّ معَ الدِّينِ في حُدودٍ معيّنَةٍ تُراعي منهجَ الوسطيّةِ. إِلا أنَّنَا في هَذا المَقامِ آثَرنَا أنْ نَدرسَ نَموذجيْن في التَّعاملِ مع الدِّين، أحدُهما سلَك مسْلكَ الإفْراطِ والتَّشدُّد فيهِ وهُو النَّموذجُ الدِّينيُّ السّعوديُّ، أمّا ثانيهما فقَد سَلكَ مسلكَ التّفريطِ فيهِ ومُواجهتهِ وهو النّموذجُ التّونسيّ. وسَيَتَبَيَّنُ لكَ أيّها القارِئُ الكريمُ كمَ سَاهَم هذان النّموذجانِ في إنتاجِ المُتَطَرِّفين والمُتَشَدِّدينَ، إما بطريقةٍ مُباشرةٍ أو غيرِ مُباشرةٍ.
1 – النّمُوذَجُ الدِّينيُّ السّعودِيُّ.
إنّ النَّموذَجَ الدِّينيَّ السَّعوديَّ يقومُ عَلى الإفراطِ في كُل مِن التَّبْدِيعِ والتَّحريمِ والتَّكفيرِ، وهيَ أحْكَامٌ تَتَرتَّبُ عليها نتائجُ ثقيلةٌ كَوجُوبِ المُحاربَةِ واستِحْلالِ الدَّمِ وغيرِها، وَهو أسْلوبٌ أبْعدُ ما يَكونُ عنِ الحكمةِ والوسطيَّة والاعتِدالِ التي دَعَتْ إليها الشّريعةُ السَّمْحةُ. وبسبَبِ الإفراطِ فيمَا ذكرنَاهُ، نَهج مُحمدُ بنُ سعودٍ -المُؤسِّسُ الأولُ للدولةِ السّعوديةِ – وأتباعَه مِمَّن تَأثّروا بالشيخِ محمّد بنِ عبدِ الوهاب مَنهجَ العُنْفِ والقتالِ بالسّيفِ ضدَّ المُخالفينَ بدعوى كَونِهم أَهلَ بِدعٍ ومحدثاتٍ، ويُبَيِّنُ الدّكتور أبُو زُهرة -رحمه الله- أنماطَ تَشَدُّدِهم، وذَكرَ منْ بينِها أنَّهم: (لمْ يكتَفُوا بِجعلِ العبَادَةِ كمَا قرَّرهَا الإسلامُ في القُرآن والسُّنَّة وكَما ذَكرَ ابنُ تيْميةَ، بل وأرادُوا أنْ تَكونَ العباداتُ أيضاً غيرَ خارجَةٍ عن نطاقِ الإسلامِ، فيلتزم المسلمون ما لتزمَ، ولِذا حرّمُوا الدُّخانَ، وشَدَّدوا في التَّحريمِ، حتّى أنّ العامّة منهم يعتَبِرونَ المُدَخِّنَ كالمُشركِ، فكانوا يُشبِهونَ الخَوارجَ الذينَ كَانوا يُكفِّرونَ مُرْتَكبَ الذَّنْبِ) ] 5 [. فهذِه أهمُّ سِماتِ النَّموذجِ الدِّينيِّ المُتَشدِّدِ الذِي تَتَبَنَّاهُ السّعوديّة، وقد فَصَّل في المَوضوعِ أكثرَ الدّكتور أحمد الرّيسُونِي في مَقالٍ لَه بِعنوان “الإسلامُ السّعودي، من الازْدهارِ إلى الاندِحارِ” وقد نُشِرَ في مَواقعَ إلكترونيةٍ كثيرةٍ.
2 – النّموذجُ التّونسيُّ في التَّعامُل مَع الدّينِ.
لم نُسَمِّه نَموذجاٌ دِينيّاً، بسببِ أنَّ الدّولةَ التّونسيّةَ في زمنِ حكمِ كلٍّ منْ بُورقيبَة وبْنعلي، وَقَفتْ في مواجهةِ الدّينِ وتَحدِّيهِ، ومُحاربَة مظاهرِ التّديُّن في البِلادِ، وحَاولتْ بالقوَّةِ طمسَ المَعالمِ الظاهرةِ للإسلامِ في المُجتمعِ التّونسيِّ المُحافِظِ، وعليهِ فإنّ تُونُس آنذاكَ لمْ تَتَبنَّ علمانِيةَ (محايِدةً) تُعطي الحرّيّة للأفرادِ والجَماعاتِ، بلْ تَبَنَّتْ علمانيةً متَطَرِّفةً ومتَشدِّدَةً، نَصَبَتْ العدَاءَ للدِّين فأغلقتْ المُؤسّساتِ المُهتمَّة بالتّعليمِ الدِّينيّ من بينِها جَامع الزيتونة، وفَرضَت الرَّقابَةَ على المساجدِ والخُطَب واضْطَهَدتْ الأحزابَ والحركاتِ الإسلاميةَ ومنَعتْ المُحَجّباتِ من وُلوجِ الجَامعاتِ والمُؤسسّاتِ العموميةِ … فعمِلت على استبدال الهُوية الغَربيةِ بالهويةِ التّونسيَّةِ، دُون تفويضٍ من الشّعبِ المُسلمِ.
3 – حَصِيلةُ النّموذجَينِ.
إذَا تأمّلنا النّموذجينِ السّابقينِ في التّعاملِ معَ الدّينِ فإنّنا سنُلاحظُ أنّ النّموذَجَ السّعوديَّ يَطْبَعُهُ الإفرَاطُ والتّشدّدُ في الخِطابِ وفي المُمَارسَةِ، وأنّ النّموذَجَ التّونُسيّ يطْبَعُهُ التّفريطُ في الدّينِ بلْ مُحارَبتُه. فكِلاهُما مُنحرِفٌ وزَائغٌ عن المنهجِ الوَسَطيِّ المَطلوبِ، وكِلاهُما مُتَطَرّفٌ. أمّا على مستوى النّتائجِ والحَصيلةِ فقدْ كانتْ ثَقيلةً للغايةِ، فلنْ نَستغربَ إذا عَلِمنا أنّ السّعوديّة هِي المُصدِّر الأول للمُقاتلينَ في التّنظيمات المُتطرِّفةِ (على المُستوى العَربِي) كتنظيمِ القاعدَة وتنظيمِ الدَّولة الإسْلامية (داعش) وغيرِهما، وهذا أمرٌ متَوَقَّع خاصّةً إذا أخَذنا بِعينِ الاعتبارِ سِمة الخِطابِ الدِّينيّ السّعوديّ في تَعليمِها وإِعلامِها، ومَكانَتها المَركزيةِ في العالمِ الإسلامي، وكثافتها السُّكانيةِ غيرِ القليلةِ. لكن من المُثيرِ للاستغرابِ حقّاً هو احتلال دولةِ تونُس المرتبةَ الثّانيةَ عَربيّا بعد السّعوديةِ مباشرةً في تصديرِ المًقاتلينَ إلى التّنظيماتِ القِتاليةِ في سورية والعِراق وغَيرها، رغم قِلّة كثافتِها السُّكانيّة، وصِغَر مِساحتِها الجغرافيةِ، ونَموذَجها العَلمانِي المُتَطَرِّف، الذي جعل شبابَها لم يتلقّوْا تعليماً دِينيّاً كافِيّا ! وقد ذَكرتْ العديدُ من المواقعِ الإلكترونيةِ إحصائياتٍ تؤكدُ ما قُلناهُ، ولإثبات ذلك أكثرَ أنقلُ فقرةً من كتابِ “الدولة الإسلامية” -يقصِد داعش- للإعلامي الدّكتور عبد الباري عَطوان جاءَ فيها: (ويُشكِّل المقاتلونَ الأجَانِبُ جانباً مُهمّا من تركيبةِ “الدّولةِ الإسلاميّة” وهيئاتِها الإداريةِ والقِتاليّةِ … ويحتَل السّعوديّون النِّسبةَ الأكبَرَ بين العربِ والمسلمين، حيث يزيدُ عددهم عن سبعةِ آلافِ مقاتلٍ، يليهم التّونسيّون، وعددهم خمسةَ آلاف مقاتلٍ) ]6 [
ثالثا: النِّظامُ التّعليميُّ الجَيِّدُ في مُواجَهةِ التَّطرُّفِ.
إذَا تأمّلنا النّموذجين السّابقين في التّعامل مع الدِّينِ، فإنه لا يخلو الأمرُ من توظيفِ المَنظومةِ التّعليميةِ لإذكاء خِطاب التّطرف الدّيني في النَّموذج السّعودي، أو التّطرف العلماني المُؤدي بطريقةٍ غير مُباشرة إلى تَطرف دينيٍّ في النّموذج التّونسي. فالتّعليم يُعَدُّ من بَينِ القَنَاطِر الكُبرى لتَمريرِ الأفكارِ، سواءٌ كانت إيجابيةً أو سلبيةً، ولتَرسيخِ القِيم سواءٌ كانت مُعْتدِلةً أو متَطَرِّفةً.
وإنّنا هُنا لا نُقلِّل من شأنِ المُقاربَاتِ والإجراءاتِ الأمنِيَّةِ التي تَنهَجُها الدّولةُ غالباً لمواجهةِ هذه الظّاهرةَ، إلّا أنّها ليستْ كافيةً. فالتّطرّف فكرٌ، والفِكرُ لا يُهزَمُ إلّا بفكرٍ أقوى وأثْبَتَ منه. وعليه يَتَعيَّن على الدّولة والمُجتمعِ تَوفيرَ نَموذجٍ تعليميٍّ مَبنيٍّ على قِيم الوَسطيَّةِ والاعتدالِ، وأقصِد هُنا بالتَّحديدِ الجَانبَ الدِّيني والقِيميّ من المَنظومةِ التّعليميّة، كالتّربيةِ الإسلاميةِ والفَلسَفةِ والتّاريخ …وغَيرها.
وقَد أخْطأ كثيرٌ من النّاس حينَما زَعَموا أنّ مَحو التّعليمِ الدّينيّ وإزالةَ مادّة التّربيةِ الإسلاميةِ من البرامجِ الدّراسيةِ هو السّبيلُ للتّخلصِ من ظَاهرةِ التّطرفِ ! ومحلُّ خطئِهم هُنا يَكْمُنُ في جهْلِهم بِفطريّةِ التّدَيُّن في الإنسانِ، وبأن العَالمَ أضحى كغُرفةٍ صغيرةٍ يَتِمُّ تداولُ الأفكارِ فيها بسُهولةٍ ودُون أدنى تَكلُّفٍ. فإنْ منَعتَ إنساناً من تَعلُّمِ دِينِهِ في مؤسّسةٍ تعليميةٍ عُموميةٍ، ترعاها الدّولةُ وتَحرُسُها، فإنّه لا شكَّ سيبْحثُ عن أماكنَ أخرى غيرِ آمنةٍ، لتلقِّى التّعاليمِ الدّينيةِ قصْدَ إشباعِ حاجاتِه الرُّوحية والفِطريّةِ، وفي هذه الحالةِ سيسْقطُ ضَحيّةَ الخِطابِ المُتَطَرِّف، ورُبَّما سينْخرِط في تَنظيمٍ عنيفٍ للقتالِ. وعليهِ فالسبيلُ الصَّائبُ، بل الأصْوبُ هو تقويَّةُ مكانةِ التَّعليمِ الدّينيِّ، مع تجْويدِ مناهجهِ، وملاءمتها مع الواقعِ المُعاصِرِ. وذلك هُو أقوى مناعةٍ يُمْكنُ أنْ نُزودَ بها الشَّبابَ ضدَّ خِطابِ الغُلوِّ والتّطرُّفِ.
الأستاذ: عبد الله كوعلي
الهوامش:
1 – “لسان العرب” ابن منظور، ج:5، مادة “فطر”.
2 – “التيسير في أحاديث التفسير” العلامة المكي الناصري، ج:2/ص:290.
3- “منبعا الأخلاق والدين” برغسون، ص:113.
4 – “علم الاجتماع الديني” عبد الله الخريجي، ص:37.
5 – “تاريخ المذاهب الإسلامية” أبو زُهرة، ص:199.
6 – “الدولة الإسلامية، الجذور، التوحش، المستقبل” عبدالباري عطوان، ص:18.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.