طنجة .. مناظرة تناقش التدبير الحكماتي للممتلكات الجماعية كمدخل للتنمية    جمعية المحامين ترحب بالوساطة للحوار‬    حموشي يخاطب مجتمع "أنتربول" بالعربية    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    النصيري يزور شباك ألكمار الهولندي    المدير العام لإدارة السجون يلوح بالاستقالة بعد "إهانته" في اجتماع بالبرلمان    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    الموقف العقلاني والعدمي لطلبة الطب    المغرب يمنح الضوء الأخضر للبرازيل لتصدير زيت الزيتون في ظل أزمة إنتاج محلية    المنصوري تكشف عن برنامج خماسي جديد للقضاء على السكن الصفيحي وتحسين ظروف آلاف الأسر    مجلس الجالية يشيد بقرار الملك إحداث تحول جديد في تدبير شؤون الجالية    حموشي يترأس وفد المغرب في الجمعية العامة للأنتربول بغلاسكو    إحصاء سكان إقليم الجديدة حسب كل جماعة.. اليكم اللائحة الكاملة ل27 جماعة    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"        هذه حقيقة الربط الجوي للداخلة بمدريد    المغرب يعتمد إصلاحات شاملة في أنظمة التأمين الصحي الإجباري    1000 صيدلية تفتح أبوابها للكشف المبكر والمجاني عن مرض السكري    الأسباب الحقيقية وراء إبعاد حكيم زياش المنتخب المغربي … !    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    اعتقال رئيس الاتحاد البيروفي لكرة القدم للاشتباه في ارتباطه بمنظمة إجرامية    توقيف 08 منظمين مغاربة للهجرة السرية و175 مرشحا من جنسيات مختلفة بطانطان وسيدي إفني    بايدن يتعهد بانتقال "سلمي" مع ترامب    ‬‮«‬بسيكوجغرافيا‮»‬ ‬المنفذ ‬إلى ‬الأطلسي‮:‬ ‬بين ‬الجغرافيا ‬السياسية ‬والتحليل ‬النفسي‮!‬    الخطاب الملكي: خارطة طريق لتعزيز دور الجالية في التنمية الاقتصادية    2024 يتفوق على 2023 ليصبح العام الأكثر سخونة في التاريخ    الجماهير تتساءل عن سبب غياب زياش    "أجيال" يحتفي بالعام المغربي القطري    ياسين بونو يجاور كبار متحف أساطير كرة القدم في مدريد    المنصوري تكشف حصيلة برنامج "دعم السكن" ومحاربة دور الصفيح بالمغرب    مجلس جهة كلميم واد نون يطلق مشاريع تنموية كبرى بالجهة    ليلى كيلاني رئيسة للجنة تحكيم مهرجان تطوان الدولي لمعاهد السينما في تطوان    انطلاق الدورة الرابعة من أيام الفنيدق المسرحية    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    صَخرَة سيزيف الجَاثِمَة على كوَاهِلَنا !    ما هي انعكاسات عودة ترامب للبيت الأبيض على قضية الصحراء؟    انتخاب السيدة نزهة بدوان بالإجماع نائبة أولى لرئيسة الكونفدرالية الإفريقية للرياضة للجميع …    ندوة وطنية بمدينة الصويرة حول الصحراء المغربية    مورو يدشن مشاريع تنموية ويتفقد أوراشا أخرى بإقليم العرائش    بنسعيد يزور مواقع ثقافية بإقليمي العيون وطرفاية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    ضبط عملية احتيال بنكي بقيمة تتجاوز 131 مليون دولار بالسعودية    سفير أستراليا في واشنطن يحذف منشورات منتقدة لترامب    قانون إسرائيلي يتيح طرد فلسطينيين        خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    أولمبيك مارسيليا يحدد سعر بيع أمين حارث في الميركاتو الشتوي    محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بتهمة "التجاهر بالفاحشة"    بعد رفعه لدعوى قضائية.. القضاء يمنح ميندي معظم مستحقاته لدى مانشستر سيتي    مزور: المغرب منصة اقتصادية موثوقة وتنافسية ومبتكرة لألمانيا    إعطاء انطلاقة خدمات مركز جديد لتصفية الدم بالدار البيضاء    إحصاء 2024 يكشف عن عدد السكان الحقيقي ويعكس الديناميكيات الديموغرافية في المملكة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التّدَيُّنُ وَالتَّعْلِيمُ وَظَاهِرَةُ التّطَرُّفِ الدِّينِيِّ مقال رأي
نشر في العمق المغربي يوم 18 - 01 - 2019

بِسمِ الله الرّحمنِ الرحيمِ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على رَسولِ الله.
يشْهد العالمُ في العقودِ الأخيرةِ تناميّاً حادّاً للفِكر المُتَطرِّف، الذي يميل إلى الإقصاء وكُرهِ الآخر، والعملِ على مصادرةِ الحقِّ في الرّأيِ وعدمِ قبولِ الاختلافِ. إلّا أنّ ظاهرةَ التّطرفِ ليْستْ دِينية دَائماً -كما يظُنّ البعضُ- إذْ في الوقتِ الذِي نَجدُ فيه متديّناً متَطرِّفا نجدُ أيْضا عَلمانيّا متطرِّفاً ومُلحداً متطرِّفا، فالتّطرفُ صفةٌ قبيحةٌ وناشزةٌ تَعتَري مُختلفَ التّوجهاتِ الدّينيةِ أو الفِكريّة، لكنْ هدفَنا في هذه المقالةِ بيانُ مردِّ التّطرف الدينيّ ومنشئهِ.
أولا: فطريةُ التّدينِ.
يقول ابنُ منظور في لسانِ العَرب: ” والفِطرةُ مَا فطرَ اللهُ عليهِ الخلقَ، من المَعرفةِ بهِ، وقد فَطرَهُ يفطُرهُ (بالضَّم) فَطْراً أيْ خَلقَهُ” ]1[فَالفِطرةُهِي الخِلقةُ التي خُلق عَليهَا الإنسانُ، والسّجيّةُ التي جُبلَ عليهَا المرءُ منذُ ولادتِه، وتَتَمثَّل في المُيُول إلى التّديُّنِ والنُّزوع الغَريزِيِّ إلى السُّلوكِ الدِّينيّ. ولوْ دَقّقْنا أكثَر لقُلنَا إنّ الفِطرةَ التي خُلقَ عليْها الإنسانُ فِي جَانبِها الدِّينيِّ هِي التّوحيدُ، وإِنّ اعتناقَ غَيرِها اِنحرافٌ عنْها. ومِصدَاقُ ذلك في الذّكر الحَكيم قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين]الأعراف/172[، يقول العلامةُ المكّي الناصِري رحمهُ اللهُ: “أقْدَمُ وأَوَّلُ ميثاقٍ أخَذَه اللهُ عَلى كافَّةِ العِبَادِوهُم لا يَزالونَ فِي أصْلابِ آبَائِهم سرّاً مِكنوناً فِي عَالم الغَيبِ، وهذا المِيثاقُ هُو ميثاقُ فِطرةِ اللهِ التي فَطرَ النَّاس عليها، وهُو يتضمّن في جَوهرهِ الإقرارَ بِربوبيّة اللهِ وبِعبوديةِ الإنسانِ، على أساسٍ من التّوحيدِ والإيمانِ. فما مِن إنسانٍإنسانٍ وُكِلَ إلى فطرتِهِ الأولى، ولم تتعرَّض فطرتُه لعواملِ التَّشويهِ والإفسادِ، إلَّا وَهو مُقِرٌّ بألوهية اللهِ ورُبوبيّتِهِ للعبادِ، ومُعترِفٌ منْ أعمَاقِ قلبِهِ بِهذا المِيثَاقِ” ]2[ فَانطِلاقاً من هذا الكلامِ نَعِي أنَّ التَّدينَ سُلوكٌ فطريٌّ لازمٌ لِلإنسانِ منْذ نَشأتِه على هذه الأرضِ. وقَد أقَرَّ الفيلسوفُ الفَرنسيّ هِنْري بِرغْسون بِهذهِ المُلازَمةِ الضَّاربَة في المَاضي السَّحيقِ فيَقولُ: (فَلقَد نَرَى في السَّابِق أوْ في الحَاضِر مُجتمعاتٍ إنسانيةً لا حَظَّ لَها مِن علمٍ أو فَنٍّ أو فَلسَفةٍ، ولكنّا لا نَعرِفُ مُجتَمعاً لا دِينَ لهُ)]3[، ويُحاولُ الدّكتور عبدالله الخَريجي أنْ يُقدِّم تفسيراً نفسيّاً واجتماعيّاً لهذه المُلازمةِالمطَّرِدَةِ بيْن الإنسانِ والتّدَيّن فيَقولُ: (إنّ الإنسانَ بفِطرتِه لايُمكنُ أنْ يَستَقِرَّ في هَذا الكوْنِ الهائلِ ذّرةً تائهةً معلَّقةً ضائعةً،إذْ لابدَّ لهُ من رِبَاطٍ مُعيَّنٍ في هذا الكونِ يضْمنُ له الاستقرارَ ومعرفةَ مكانِهِ في هذا الكونِ الذي يعيشُ فيهِ، ولذَلك لابُدَّ له منْ عقيدةٍ تُفسِّر له ما يُحيطُ به وتُفسِّر له مكانَه فيما حولهُ، فالدِّين ضَرورةٌ فطريَّةٌ شعوريَّةٌ لا علاقةَ لهُ بمُلابَساتِ العصْرِ والبِيئةِ، وكمْ كانَ شقاءُ الإنسانِ وحيرتُه وضلالُه حينَ اخْطأ في فَهمِ حقِيقةِ هذا الارتِباطِ وهذَا التَّفسيرُ، أيْ أنَّ حاجةَ الإنسانِ إلى الدِّين حاجةٌ فطريّةٌ مُركَّزةٌ في طبيعتِه النّفسيّةِ ومغروسَةٌ في شعورِهِ)]4[
إنَّ فِطريَّةَ التَّديُّن حقيقةٌ يُقرُّها القُرآنُ الكريمُ، وتُؤكدُها مختَلفُ العلومِ، ويُصدِّقهَا الوَاقعُ، فلا سَبِيلَ لاعتِقادِ أَنّ التّديّنَ أمرٌ عَارضٌ أو سُلوكٌ مكْتَسَبٌ يُمكنُ الاسْتِغْناءُ عنه بسُهولةٍ، كَلَّا إنَّهُ شعورٌ فطريٌّ راسخٌ، يستحيلُ تَبديلُه، قال اللهُ تعالى:(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )]الروم/30[
ثانيا: تَدبِيرُ الشَّأنِ الدِّينيّ، نَماذجُ ونتائجُ.
عطْفاً على مَا تَقدَّمَ ذِكْرُه في المِحورِ السّابقِ من قَاعدةِ فِطريّةِ الشُّعورِ الدِّينيِّ والنُّزوعِ الجِبِلِّيِّ إلى التَّديُّن الرّاسِخِ فِي الكَائنِ البَشريِّ، فإنّه لنْ يَبْقى أمَامَنا سِوى التّعامُلِ الإيجَابيِّ معَ الدِّينِ في حُدودٍ معيّنَةٍتُراعي منهجَ الوسطيّةِ. إِلا أنَّنَا في هَذا المَقامِ آثَرنَا أنْ نَدرسَ نَموذجيْن في التَّعاملِ مع الدِّين، أحدُهما سلَك مسْلكَ الإفْراطِ والتَّشدُّد فيهِ وهُو النَّموذجُ الدِّينيُّ السّعوديُّ، أمّا ثانيهما فقَد سَلكَ مسلكَ التّفريطِ فيهِ ومُواجهتهِ وهو النّموذجُ التّونسيّ. وسَيَتَبَيَّنُ لكَ أيّها القارِئُ الكريمُ كمَ سَاهَم هذان النّموذجانِ في إنتاجِ المُتَطَرِّفين والمُتَشَدِّدينَ، إما بطريقةٍ مُباشرةٍ أو غيرِ مُباشرةٍ.
1 – النّمُوذَجُ الدِّينيُّ السّعودِيُّ.
إنّالنَّموذَجَ الدِّينيَّ السَّعوديَّ يقومُ عَلى الإفراطِ في كُل مِن التَّبْدِيعِ والتَّحريمِ والتَّكفيرِ، وهيَ أحْكَامٌ تَتَرتَّبُ عليها نتائجُ ثقيلةٌ كَوجُوبِ المُحاربَةِ واستِحْلالِ الدَّمِ وغيرِها، وَهو أسْلوبٌ أبْعدُ ما يَكونُ عنِالحكمةِ والوسطيَّة والاعتِدالِ التي دَعَتْ إليها الشّريعةُ السَّمْحةُ. وبسبَبِ الإفراطِ فيمَا ذكرنَاهُ، نَهج مُحمدُ بنُ سعودٍ-المُؤسِّسُ الأولُ للدولةِ السّعوديةِ – وأتباعَه مِمَّن تَأثّروا بالشيخِ محمّد بنِ عبدِ الوهاب مَنهجَ العُنْفِ والقتالِ بالسّيفِ ضدَّ المُخالفينَ بدعوى كَونِهم أَهلَ بِدعٍ ومحدثاتٍ، ويُبَيِّنُ الدّكتور أبُو زُهرة -رحمه الله- أنماطَ تَشَدُّدِهم، وذَكرَ منْ بينِها أنَّهم: (لمْ يكتَفُوا بِجعلِ العبَادَةِ كمَا قرَّرهَا الإسلامُ في القُرآن والسُّنَّة وكَما ذَكرَ ابنُ تيْميةَ، بل وأرادُوا أنْ تَكونَ العباداتُ أيضاًغيرَ خارجَةٍ عن نطاقِ الإسلامِ، فيلتزم المسلمون ما لتزمَ، ولِذا حرّمُوا الدُّخانَ، وشَدَّدوا في التَّحريمِ، حتّى أنّ العامّة منهم يعتَبِرونَ المُدَخِّنَ كالمُشركِ، فكانوا يُشبِهونَ الخَوارجَ الذينَ كَانوا يُكفِّرونَ مُرْتَكبَ الذَّنْبِ)] 5[. فهذِه أهمُّ سِماتِ النَّموذجِ الدِّينيِّ المُتَشدِّدِ الذِي تَتَبَنَّاهُ السّعوديّة، وقد فَصَّل في المَوضوعِ أكثرَ الدّكتور أحمد الرّيسُونِي في مَقالٍ لَه بِعنوان “الإسلامُ السّعودي، من الازْدهارِ إلى الاندِحارِ” وقد نُشِرَ في مَواقعَ إلكترونيةٍ كثيرةٍ.
2 – النّموذجُ التّونسيُّ في التَّعامُل مَع الدّينِ.
لم نُسَمِّه نَموذجاٌ دِينيّاً، بسببِ أنَّ الدّولةَ التّونسيّةَ في زمنِ حكمِ كلٍّ منْ بُورقيبَة وبْنعلي، وَقَفتْ في مواجهةِ الدّينِ وتَحدِّيهِ، ومُحاربَة مظاهرِ التّديُّن في البِلادِ، وحَاولتْ بالقوَّةِ طمسَ المَعالمِ الظاهرةِللإسلامِ في المُجتمعِ التّونسيِّ المُحافِظِ، وعليهِ فإنّ تُونُس آنذاكَ لمْ تَتَبنَّ علمانِيةَ (محايِدةً) تُعطي الحرّيّة للأفرادِ والجَماعاتِ، بلْ تَبَنَّتْ علمانيةً متَطَرِّفةً ومتَشدِّدَةً، نَصَبَتْ العدَاءَ للدِّين فأغلقتْ المُؤسّساتِ المُهتمَّة بالتّعليمِ الدِّينيّ من بينِها جَامع الزيتونة، وفَرضَت الرَّقابَةَ على المساجدِ والخُطَب واضْطَهَدتْ الأحزابَ والحركاتِ الإسلاميةَ ومنَعتْ المُحَجّباتِ من وُلوجِ الجَامعاتِ والمُؤسسّاتِ العموميةِ … فعمِلت على استبدال الهُوية الغَربيةِ بالهويةِ التّونسيَّةِ، دُون تفويضٍ من الشّعبِ المُسلمِ.
3 – حَصِيلةُ النّموذجَينِ.
إذَا تأمّلنا النّموذجينِ السّابقينِ في التّعاملِ معَ الدّينِ فإنّنا سنُلاحظُ أنّ النّموذَجَ السّعوديَّيَطْبَعُهُ الإفرَاطُ والتّشدّدُ في الخِطابِ وفي المُمَارسَةِ، وأنّ النّموذَجَ التّونُسيّيطْبَعُهُ التّفريطُ في الدّينِبلْ مُحارَبتُه. فكِلاهُما مُنحرِفٌ وزَائغٌ عن المنهجِ الوَسَطيِّ المَطلوبِ، وكِلاهُما مُتَطَرّفٌ. أمّا على مستوى النّتائجِ والحَصيلةِ فقدْ كانتْ ثَقيلةً للغايةِ، فلنْ نَستغربَإذا عَلِمنا أنّ السّعوديّة هِي المُصدِّرالأول للمُقاتلينَ في التّنظيمات المُتطرِّفةِ (على المُستوى العَربِي) كتنظيمِ القاعدَة وتنظيمِ الدَّولة الإسْلامية (داعش) وغيرِهما، وهذا أمرٌ متَوَقَّع خاصّةً إذا أخَذنا بِعينِ الاعتبارِ سِمة الخِطابِ الدِّينيّ السّعوديّ في تَعليمِها وإِعلامِها، ومَكانَتها المَركزيةِ في العالمِ الإسلامي، وكثافتها السُّكانيةِ غيرِ القليلةِ. لكن من المُثيرِ للاستغرابِ حقّاً هو احتلال دولةِ تونُس المرتبةَ الثّانيةَ عَربيّا بعد السّعوديةِ مباشرةً في تصديرِ المًقاتلينَ إلى التّنظيماتِ القِتاليةِ في سورية والعِراق وغَيرها، رغم قِلّة كثافتِها السُّكانيّة، وصِغَر مِساحتِها الجغرافيةِ، ونَموذَجها العَلمانِي المُتَطَرِّف، الذي جعل شبابَها لم يتلقّوْا تعليماً دِينيّاًكافِيّا! وقد ذَكرتْ العديدُ من المواقعِ الإلكترونيةِ إحصائياتٍ تؤكدُ ما قُلناهُ، ولإثبات ذلك أكثرَ أنقلُ فقرةً من كتابِ “الدولة الإسلامية” -يقصِد داعش- للإعلامي الدّكتور عبد الباري عَطوان جاءَ فيها: (ويُشكِّل المقاتلونَ الأجَانِبُ جانباً مُهمّا من تركيبةِ “الدّولةِ الإسلاميّة” وهيئاتِها الإداريةِ والقِتاليّةِ … ويحتَل السّعوديّون النِّسبةَ الأكبَرَ بين العربِ والمسلمين، حيث يزيدُ عددهم عن سبعةِ آلافِ مقاتلٍ، يليهم التّونسيّون، وعددهم خمسةَ آلاف مقاتلٍ)]6[
ثالثا: النِّظامُ التّعليميُّ الجَيِّدُ في مُواجَهةِ التَّطرُّفِ.
إذَا تأمّلنا النّموذجين السّابقين في التّعامل مع الدِّينِ، فإنه لا يخلو الأمرُ من توظيفِ المَنظومةِ التّعليميةِ لإذكاء خِطاب التّطرف الدّيني في النَّموذج السّعودي، أو التّطرف العلماني المُؤدي بطريقةٍ غير مُباشرة إلى تَطرف دينيٍّ في النّموذج التّونسي. فالتّعليم يُعَدُّ من بَينِ القَنَاطِر الكُبرى لتَمريرِ الأفكارِ، سواءٌ كانت إيجابيةً أو سلبيةً، ولتَرسيخِ القِيم سواءٌ كانت مُعْتدِلةً أو متَطَرِّفةً.
وإنّنا هُنا لا نُقلِّل من شأنِ المُقاربَاتِ والإجراءاتِ الأمنِيَّةِ التي تَنهَجُها الدّولةُ غالباً لمواجهةِ هذه الظّاهرةَ، إلّا أنّها ليستْ كافيةً. فالتّطرّف فكرٌ، والفِكرُ لا يُهزَمُ إلّا بفكرٍ أقوى وأثْبَتَ منه. وعليه يَتَعيَّن على الدّولة والمُجتمعِ تَوفيرَ نَموذجٍ تعليميٍّ مَبنيٍّ على قِيم الوَسطيَّةِوالاعتدالِ، وأقصِد هُنا بالتَّحديدِ الجَانبَ الدِّيني والقِيميّ من المَنظومةِ التّعليميّة، كالتّربيةِ الإسلاميةِ والفَلسَفةِ والتّاريخ …وغَيرها.
وقَد أخْطأ كثيرٌ من النّاس حينَما زَعَموا أنّ مَحو التّعليمِ الدّينيّ وإزالةَ مادّة التّربيةِ الإسلاميةِ من البرامجِ الدّراسيةِ هو السّبيلُ للتّخلصِ من ظَاهرةِالتّطرفِ ! ومحلُّ خطئِهم هُنا يَكْمُنُ في جهْلِهم بِفطريّةِ التّدَيُّن في الإنسانِ، وبأن العَالمَ أضحى كغُرفةٍ صغيرةٍ يَتِمُّ تداولُ الأفكارِ فيها بسُهولةٍ ودُون أدنى تَكلُّفٍ. فإنْ منَعتَ إنساناً من تَعلُّمِ دِينِهِ في مؤسّسةٍ تعليميةٍ عُموميةٍ، ترعاها الدّولةُ وتَحرُسُها، فإنّه لا شكَّ سيبْحثُ عن أماكنَ أخرى غيرِ آمنةٍ، لتلقِّى التّعاليمِ الدّينيةِ قصْدَ إشباعِ حاجاتِه الرُّوحية والفِطريّةِ، وفي هذه الحالةِ سيسْقطُ ضَحيّةَ الخِطابِالمُتَطَرِّف، ورُبَّما سينْخرِط في تَنظيمٍ عنيفٍ للقتالِ. وعليهِ فالسبيلُ الصَّائبُ، بل الأصْوبُ هو تقويَّةُ مكانةِ التَّعليمِ الدّينيِّ، مع تجْويدِ مناهجهِ، وملاءمتها مع الواقعِ المُعاصِرِ. وذلك هُو أقوى مناعةٍ يُمْكنُ أنْ نُزودَ بها الشَّبابَ ضدَّ خِطابِ الغُلوِّ والتّطرُّفِ.
الهوامش:
1 – “لسان العرب” ابن منظور، ج:5، مادة “فطر”.
2 – “التيسير في أحاديث التفسير” العلامة المكي الناصري، ج:2/ص:290.
3- “منبعا الأخلاق والدين” برغسون، ص:113.
4 – “علم الاجتماع الديني” عبدالله الخريجي، ص:37.
5 – “تاريخ المذاهب الإسلامية” أبو زُهرة، ص:199.
6 – “الدولة الإسلامية،الجذور،التوحش،المستقبل” عبدالباري عطوان، ص:18.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.