في صغري، أحببتُ الحمام كثيرا، وكنت لأجله أجوبُ الأماكن التي تُعتبر مواطنه بالقرية، أنصبُ الفخاخ وأبتكر آليات غريبة، امتزجت فيها البراءة برغبة الاكتشاف وحُبّ المُغامرة، فتأتّى لي أن أضع يدي بين الفينة والأخرى على حمامة، أتفحّصها، وأستكشف حالتها، وبعدها، أضعها في غرفة مملوءة بالحبّ والماء لأجل أن تصير لي أنا وحدي، أو هكذا توهّمتُ وقتئذ.. ومع مُرور الزّمن، تكوّنت عندي علاقة وطيدة بالحمام، وصرتُ أعرف عنه الكثير من الجُزئيات التي جهلها آخرون، بل واستطعتُ فيما بعدُ، أن تكون علاقتي به، علاقة وُدّ واحترام، أمُرّ عليه في الحقول كسرب، فلا أحاول إزعاجه، وأنظر إليه عن قُرب، أتأمّله فلا أنتهك خصُوصيته التي جعلها لبني جنسه. فرسمتُه في المدرسة حاملا غُصن زيتون تارة، وحاملا رسالة تفوح منها رائحة الحبّ والغُربة والحنين إلى الوطن تارات أخرى. وحين كبرتُ قليلا، وافتقدته بالقرب منّي، صرتُ أسترجع الذّكرى بقصيدة "محمود درويش": "يطير الحمام.. يحطّ الحمام..، أعدّي لي الأرض كي أستريح..، فإني أحبّك حتى التعب…". بادلني الشّعور نفسه، فجعل بيني وبينه مساحة من الوُدّ في التّخاطب، فلا أُنغّص عليه هدوءه، ولا أكثرت لخطاياه، وإن تعدّدت. هذا الحمامُ نفسُه، سيصير له شأن كبير في الحقول، فهو الذي يُثير الانتباه حين يحطّ أسرابا في مواقع الكلإ، يسيرُ بمشيته المعهودة، وينقر الحبّ، ويُطلق هديلة، ليُسمع للقريب والبعيد، فتهبّ حمامات أخرى لم تلتحق، لتلتحق، طمعا في الحبّ، والتّجوال. تربّى في كنف حقول "أدرار"، وألفها، وعرف منابت الكلإ، واستجمع أسرارها، فتأتّى له أن هزم الصّخور النّاتئة، ووعورة الشّعاب والفجاج العميقة، فتكوّنت لديه رؤية نافذة لا يُمكن أن ينكرها كلّ ذي بصيرة. إنّ حمامنا حمام فريد، يتجمّع حول الحبّ أينما حلّ، ويميل إلى التّجمّعات التي ينتظم فيها، ككرنفال احتفالي، يُنادي من خلالها الزّعيم بهديله، فتأتيه الحمامات طائعة وإن من أعشاشها، تُناصره القول دونما تردّد، وتتبعه في الحقول، تُخلّف وراءها آثارا سريعة المحو، وتُثير بزرقتها بقيّة الطّيور، من البلابل المُقلّدة، والقُبّرات التي ترعى الحبّ زوالا، حتّى تدعم مشهدها فتزيدُه ضخامة، ومنها من يلتحق بها للحقل وقت الدّرس والحصاد، مُصطنعا صفات الحمام، وهو ليس من صنفه، ولا خُلق لكي يكونه، لكنّ الوضع والمصلحة يقتضيان ذلك. سألني سائل مرّة: أرأيت، لو اختار زعيم الحمام يوما طريق الورد والياسمين، أيتبعه كُلّ من شايعه اليوم ورحل لأجله في مواسم الهجرة فيما مضى؟ "أمّ كلثوم" غنّت فيما سبق حول ذات الموضوع بكلمات "أحمد رامي": "الفلّ والياسمين والورد"، ورغم ذلك، لم تتعرّض لهذه الوضعية الشّائكة، لأنّها مصرية، وحمامُها الذي يرعى ب"الصّعيد"، غير الحمام الذي اقتحم "أدرار" وخبره اليوم أكثر من غيره. ولا أظنّ أنّ "صاغرو باند" تعرّضوا للأمر بعد الرّاحل "امبارك اولعربي" في رائعته: "yan otbir ikkan ignwan"، ولا أفصح رباب "عبد الهادي" عن الواقع رغم بقاء الحنكة والرّوح الشّعرية الفيّاضة لدى "محمد الحنفي"، ولا انطلقت حنجرة "مولاي علي شوهاد" لتُفكّك البنية الذّهنية ل"حمام أدرار" في طيّات التّوجيهات التي ضمّنها رسالته لشباب إحدى الأزمنة الذين استهوتهم تسريحة شعر "بوب مارلي": "Nkni a chbab trbiyt orawnt nmmal"، وإن كان هؤلاء جميعا خبروا موضوح الحقول والكائنات التي تردُ عليه. في الحقيقة، كُلّ الطّيور والعصافير والكائنات الأخرى التي ولّت وجهها اليوم نحو بيادر الحمام، وفعلت ذلك طمعا في الحبّ الذي تُخلّفه آلات الحرث والدّرس، أنا جدّ متأكد أنّها على استعداد تامّ لتولّي وجهها نحو أيّ حقل آخر غدا شريطة أن يُوجّهها الزّعيم لذلك، ويشير عليها بهديله المصطنع أن حان وقتُ الرّحيل!!..(يُتبع)