ما هي الحاجة المفتقدة لنا اليوم غير الرغبة في أن نساهم من داخل المدينة في جميع مجالاتها الحيوية والأساسية والوظيفية، كالمجتمع والقيم والثقافة والتنمية والسلوك الحضاري والفن والعلم والأدب والعمران والبيئة والمواطنة.. بمنظور مفعم بالحوار والاختلاف والتعدد والفعل والمشاركة..؟ ما هي الحاجة نحو الانخراط في الفعل الجمعوي اليوم إذا لم يكن مؤسسا على نظرة واعية ومتكاملة، لا تشوبها قيم الكليانية والإطلاقية، بقدر ما تكون موسومة بثقافة الاختصاص والتفعيل والمبادرة الحرة والجادة والخصبة والمتجددة؟ هل الحاجة نحو تأسيس فعل جمعوي متميز كفيل بخلق القطيعة مع النمط التهريبي الذي صار أحد عناوينه الرئيسية، وأشكاله المختطفة، وآلياته الارتزاقية والتبخيسية، وغاياته الموسمية والظرفية والمصلحية والمظهرية؟ هل هي أولويات تحافظ على بعض معالم التراكم الجمعوي بأبعاده المختلفة، ومرجعياته المتنوعة، لكي تلحق السابق باللاحق، وتربط الخيط الناظم الذي تم قطعه وبتره، وترجع المشهد الجمعوي إلى أشكاله وأبعاده القائمة على التصورات بدل النزوات والتهيؤات وكلام الغرف المغلقة والنوادي الصماء، وهواتف آخر الليل؟ تميز المشهد الجمعوي بمدينة وزان، مثله مثل باقي المدن المغربية المنشغلة بالهم المدني والجمعوي، بما يمكن تسميته بجدلية الفصل والوصل، القطيعة والاستمرارية.. إلا أن السمة الطاغية عليه كانت في عمومها لا تخلو من طابع القطيعة التي مست تراكم التجارب وتطويرها وتحديدها وتنويعها وتشغيلها وحدودها، في الوقت الذي لا تخلو فيه، بين الفينة والأخرى، من طابع الاستمرارية والوصل الذي لم يكن يمس في الغالب إلا بعض الفاعلين ممن راكموا تجارب مهمة، وطوروها حتى أصبحوا سفراء مميزين لها في مدن أخرى، بل في تجارب وطنية ودولية راقية وعالية الإيقاع والدرجة.. وإذا كان لنا أن نتحدث عن الطابع المتقطع في التجربة الجمعوية بالمدينة، فإن استحضارها كتراكم في المحاولات والتجريب على مستوى التعاقب الزمني قد كان السمة اللازمة والمتكررة لها. إذ في اللحظة التي بدأ فيه الوعي الجنيني بالعمل الجمعوي بالمدينة، فترة السبعينيات وأوائل الثمانينيات، كان التأسيس للمشهد لا يخرج عن خصوصية الوضع العام بالمغرب، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بما عرفه هذا الوضع من احتقان من جهة، وحركية معطوبة من جهة أخرى، بحيث سيتأسس على إثر هذه المعادلة، منطق المفارقة المشحونة بالصراعات البينية (بين الدولة والأحزاب والجمعيات باعتبارها لسان حال أيديولوجية معينة تقوم على الرفض وعدم الاعتراف). ففي اللحظة التي نهجت الدولة، خلال هذه الفترة، موقفا رافضا يقوم على الحذر الفعلي، لا القانوني، اتجاه الجمعيات التي تتوجس منها، والتي تعتبرها مصنفة في خانة "أيديولوجيا" اليسار المتطرفة والمتشددة والغير مرغوب فيها، كانت الدولة تنهج تدبيرا آخر للمشهد الجمعوي من خلال خلق وتفريخ "كيانات" جمعوية موالية لها، بل ومتحدثة باسمها، بل كانت تدفع ببعض الجمعيات نحو افتعال وتبني الصراع بغرض التطاحن والنبذ والإقصاء فيما بينها، بل إن البعض من هذه الأخيرة كانت تجازف في نوع من " الحروب" أقل ما يمكن أن نقول عنها بأنها كانت مجانية ومختلقة ومزيفة، لا تعبر عن عمق الأسئلة التي كان المشهد المجتمعي ينتظر الأجوبة عنها.. نعم، لقد راكمت تجربة الثمانينيات بوزان عملا مهما، رغم جنينيتها، لأنها كانت محمية بولاءات الأيديولوجية، بل والمؤطرة بحساسية سياسية مفرطة في السياسة أحيانا، لم يكن بالإمكان البتة مجاوزتها ما دامت تشكل تعبيرا حقيقيا عن أيديولوجيا "المقاومة"، والوجود المواجه لأيديولوجيا مركزية "سلطة الدولة" الفولاذي المسلحة بكل أجهزتها ووسائلها ومنطقها آنذاك، بحيث لم تنفك عن الدخول، بوعي أو بدونه، في صراعات هامشية ولا متكافئة، قزمت فعلها وجعلته لا يصل ذروة المشروع المجتمعي، فبقيت عند عتبة التطاحنات الضيقة. ففي الوقت الذي كانت فيه السلطة السياسية المركزية معتكفة عمليا على تفتيت كل أشكال التناقضات معها من خلال العمل الجمعوي، عمل فيه هذا الأخير على تفتيت وتشتيت بعضه البعض، من الداخل، بالتطاحنات والتوجسات والاتهامات والإقصاءات، التي لم تطل الآخر المتهم وحسب، بل طالت الذات كذلك، ذات المشهد الجمعوي في العموم، ليؤول المطاف به إلى الانحصار والتقوقع، والهروب إلى ساحات أخرى "للحرب" الأيديولوجية كانت أهمها الجامعات، لطبيعة وخصوصية المدينة الديموغرافي والمؤسساتي والبنيوي بعلاقتها الاضطرارية بمؤسسات جامعية خارج دائرتها الذي ساهم هو الآخر في تغذية هذا الحصار الموصل للقوقعة، ما حذا به نحو وقف صراعاته، ومن تم وفق آليات اشتغاله، ومغادرته الساحة الجمعوية بالمدينة دون تراكم فكري وثقافي ونموذجي حقيقي، إن على مستوى التصور،أو على مستوى أسلوب الاشتغال، أو على مستوى الفاعلين ( الهم قلة منهم)ممن تعرض الكثير منهم للتضييق والحصار والوقف والإقبار.. لقد كانت السمة البارزة لهذه المرحلة بالذات هي التقاطبات والتقابلات الأيديولوجية، سواء بالمجال الرسمي للأجهزة الأمنية للدولية، أو بمجال المجتمع المدني في بداياته الأولى والجنينية، ما أجل الجواب الطبيعي والمتراكم والواضح عن أسئلة المشهد السوسيوثقافي بالمدينة وللمدينة، ليبقى أرضا خلاء وبوارا تنتظر الحرث والزرع والتخصيب.. أما مع أواخر الثمانينيات فالذي حصل لا يكشف إلا على مساحات البياض والفراغ، رغم أن الطبيعة لا تحتمل الفراغ، حيث تم إيقاف وتجميد الحركة الجمعوية حتى أوائل التسعينيات من القرن العشرين مقابل خلق نوادي تخضع للوصاية المباشرة والعلنية، حيث بدأت بأسئلة محتشمة ، وبأشكال منكمشة، وبقضايا مبهمة ومكرورة ومشوهة، وغير جريئة وتائهة أحيانا أخرى، وبفاعلين مبتدئين ومنبهرين ومتوجسين بأسئلة المرحلة السابقة بصيغة مستنسخة عن أصلها الطبيعي والأول، و بفاعلين مشبعين وخاضعين لخطاب السلطة الرقابية، وكذا بدعم محصور كان يصل ذروته عبر الهبات والعطايا والتسول والأتاوات.. بل إن المشهد، رغم كونه بدأ يجنح نحو التخصص والدقة، إلا أنه لم يسلم من أن يتحول في بعض نماذجه إلى كائنات جمعوية ورقية و"طرقية" وجعجعة خطابية لم تسلم هي الأخرى من ثقافة الصراع على المواقع، سيما الجمعيات التي سمت نفسها تنموية، وتحديدا في الصراع على وحول كيفية اقتسام الكعكة، وتسرب القناعة لدى بعض فاعليها بأن الخلاص يكمن في الارتماء في أحضان السلطة الحديدية التي لم تستطع نفسيا رفع اليد عن المشهد الجمعوي والمدني، هذا دون أن ننسى أن بعض الفاعلين حولوا إطاراتهم الجمعوية إلى موروث عائلي، وإقطاعية خاصة لتحقيق الامتياز والغنيمة.. إنه الطابع العام لمشهد لم يؤسس نفسه على التراكم، بل لم يجد إلا شظايا تراكم أيديولوجي عسير الهضم بأسئلته التي لم تعرف التحيين والملاءمة. مشهد أسس لنفسه تجربة جنينية، لكنها لم تكتمل، بل لم تكن كافية، لسقوطها في الفورية والحلقية والظاهرة الورقية، بل وظاهرة صوتية مغرقة في الانتفاعية الضيقة. هكذا أرسى المشهد الجمعوي سدوله خلال العقد الأخير من القرن العشرين، صحيح أنه كان متنوعا وحيويا وجادا في بعض حلقاته وتسلسلاته، لكنه لم يكن سمة أو ظاهرة تمثيلية مميزة تطبع وضعه العام، ما حذا به نحو التوقف أحيانا، والظهور الومضي والمغادرة الطوعية أحيانا أخرى، بل والاشتغال في بعض الأحيان بعقلية "الدون كيخوت" الوهمية، مغرمة بشكل قاتل ومرضي بالذات المصابة "بفوبيا" الانقراض.. فهل استمر هذا الوضع الجمعوي بالمدينة على هذا النحو، أم أنه بقي عند حدود شذرات مشتتة تقتات على الموسمي والظرفي، وتتخبط في برامج قد تنجز وقد لا تنجز، بتصورات ينقصها النضج والتروي، ومصابة بالارتجالية وغياب البوصلة؟ هل استطاع هذا المشهد في هذه الحقبة بالذات أن يطور من جلدته وآلياته وتراكماته، أم أنه سينكمش هو الآخر ليترك الساحة تعيش على الفراغ والتسيب والانتظارية؟ لقد دخل المشهد الجمعوي بالمدينة خلال القرن 21 مثقلا بهذه الأسئلة، ومفككا منفصلا ومقطوعا عن تراكماته السابقة رغم تذبذباتها وتقطعاتها، وغير موجه ببوصلة ولا ذاكرة، فكان أن أصيب بالانهيار والإفلاس شبه التام، إن من حيث كينونته، أو من حيث الفعل والممارسة ،لدرجة أننا لم نجد فيه إلا انشغالا محتشما وحلقيا هنا وهناك، لا ينم عن تراكم حقيقي، ولا عن عمق تجربة، بل عن مبادرات مهووسة بالحساسية النفسية الذاتوية، في الوقت الذي عرفت فيه المدينة تحولات اجتماعية وقيمية وثقافية ومجالية ..كبرى ومتسارعة مست كيانه من الخارج الظاهر، بدل الداخل العميق في الأغلب الأعم، ما جعل أسئلة المجتمع الوزاني وحركيته وتفاعلاته وإيقاعه أوسع وأقوى وأسرع من أسئلة المجتمع المدني الذي تخلى عن المواكبة والملاءمة والتجديد.. إلا أنها تركت لنفسها قيمة مضافة تجلت في التراكم الجمعوي الذي جمعه أصحابه، كأفراد ماديين، والذي اتسم في أغلبه بنوع من العصامية، هذه التي لم تجد لنفسها ما يدعمها كتجربة وكتراكم في المرحلة السابقة، بل لم تجد لنفسها ما يقويها ويساندها في اللحظة التي وجدت نفسها على هامشه، وهو الأمر الذي جعل فاعليها هؤلاء يحرصون بالأساس على تحصين هذه التجربة رغم ما آلت إليه من توقف وتعثر ومتاهة وتهميش، ومن تم الارتماء بشكل مرغوب فيه نذفي أحضان قطيعة ثانية للمشهد الجمعوي، لكن هذه المرة، من داخل خصوصية المدينة.. وهو الأمر الذي جعل المرحلة تتميز بحضور مبتسر ومتقطع ومتناثر لبعض مظاهر المشهد التسعيني بأسئلة متجاوزة وغير مقنعة، وبآليات متقادمة ومترهلة ومتذبذبة، تركت في المنظومة الجمعوية فجوات وممرات فارغة، ومساحات بيضاء سمحت بظهور كيانات هجينة وغريبة نزلت وأنزلت من فضاءات مجهولة ومبهمة بأسئلة مزيفة ومهربة ومتباعدة عن تصورات المشهد الجمعوي ككل، حاملة أجندة مستترة، وتعاقدا، مهيأ سلفا على المقاس، تورطت فيه بعض الفعاليات المحلية على أساس ضمانات خاصة من شخصيات تنتمي لزمن غابر مودعة بعقلية منغلقة في نظرتها للزمن الوزاني بكل خصائصه ودواعيه وضوابطه وتجلياته.. لقد نزلت التجربة المهربة بقصد اختطاف بعض عناصر التراكم في هذا المشهد، ولو على مستوى ما تحقق في البنية الذهنية والنفسية لدى فاعليه الحقيقيين.