بعد توقف دام أزيد من سنة تعطى الانطلاقة مؤخرا لاستئناف أشغال إقامة مشروع سياحي على هضبة المريصات المطلة على البحر من الجهة الشرقية لطنجة على مساحة تقارب 60 هكتارا، وذلك في الوقت الذي أشرف مشروع الغندوري على نهايته، بالموازاة مع الشروع في إنجاز مشروع ضخم أطلق عليه (المنتجع الملكي) بهضبة المنار ومنطقة الجبيل على مساحة 120 هكتارا ممتدة من المنار إلى شاطئ البلايا ابلانكا، وهو المشروع الذي تطلب ترحيل أزيد من 100 أسرة كانت تقيم لعدة عقود فوق الأراضي السلالية التي تم تفويتها لأصحاب المشروع مقابل منح تعويضات مالية للمرحلين، وإيوائهم داخل تجزئة أنشئت لهذه الغاية من طرف مؤسسة العمران بمنطقة النوينويش، وكذلك ضخ المستثمرين لمبلغ 15 مليار سنت في صندوق الأراضي السلالية. نفس الإجراء يعاد تطبيقه على الأراضي السلالية المطلة على البحر ابتداء من دوار طالع القراع في سلسلة ممتدة إلى حدود سبتة السليبة، من أجل إقامة مشاريع استثمارية من هذا النوع الذي يتغطى بيافطة المصلحة العامة، علما أن معظم هذه الأراضي مستغلة من طرف ذوي الحقوق في الفلاحة والرعي أو السكن منذ عدة عقود دون أن يشفع لهم ذلك، ويضمن لهم حق الاستقرار النهائي، أو منحهم حق إقامة مشاريع محترمة وفق المعايير المطلوبة . وعلى الواجهة الغربية لطنجة المطلة على المحيط الأطلسي ابتداء من كاب سبارطيل فأشقار، ثم الغابة الديبلوماسية، وهوارة، والبريش إلى مدينة أصيلة ثم العرائش، تنبت مشاريع طفيلية مماثلة لتشكل كانطونات مغلقة في وجه عموم المواطنين، و تخدم بالدرجة الأولى الجهات الراقية التي استغلت النفوذ والرأسمال الآبق والسلطة في اغتصاب هذه الثروة تحت غطاء الاستثمار المفترى عليه، علما أن معظم المشاريع التي تنجز على أرض الواقع تفتقر إلى المعايير القانونية والأخلاقية التي تستند إلى مبدأ حفظ الملك العام، وحدود الملك البحري، والشريط الساحلي كتراث عالمي جدير بالحماية، كما أنها لا تنسجم مع التصاميم الأولية الممنوحة ودفاتر التحملات التي تنص على إعداد الدراسات الخاصة بالتأثير على البيئة وتحديد نوعية المرافق ذات الطابع السياحي العمومي والخاص، والمساحات الخضراء والطرق والفضاءات المفتوحة... فمعظم المنجزات تسير في الاتجاه المعاكس الذي يركز على هاجس الربح، واستغلال أكبر نسبة من المساحات الممكنة، والإثراء الغير المشروع عن طريق تبييض الأموال وتشييد المباني المخصصة للمضاربات العقارية وللسكن الخاص. فمن طنجة إلى العرائش جنوبا وإلى السعيدية شرقا يتم تنفيذ نفس المخطط الذي يضرب سدا على البحر من أجل أن يتحول الوطن على سجن كبير لا يتحرك فيه المواطن إلا خلف الأسوار والأبواب المغلقة، والمثير أن الأمر ينصب على أراضي الجموع التي حماها السكان على مدى القرون التي مرت وتحولت بقدرة قادر إلى أملاك تابعة للمصالح الإدارية للدولة، من مياه وغابات، واملاك مخزنية، وتيمسا..) وكان الحظ الأوفر من نصيب إدارة الأملاك المخزنية التي تولت مهمة التحفيظ والبيع بعد أن وضعت يدها على الأراضي المسترجعة والملك الغابوي وأراضي الجموع والأراضي المخزنية ضدا على تعرضات السكان وذوي الحقوق لتقوم في نهاية المطاف ببيعها بأبخس الأثمان التي نزلت في بعض الحالات إلى 10 دراهم للمتر مربع لفائدة أصحاب المشاريع الأخطبوطية التي فتح لها المجال لتقوم بالإنزال فوق الأراضي المغطاة بالغابات والمواقع الأثرية، والشواطئ، والمجال الأخضر، والمناطق الغير الصالحة للبناء كالتلال، والوديان، والمنحدرات المطلة على الشريط الساحلي، مما فتح المجال أمام مشاريع البناء الثقيل الذي من المقرر أن يحتل كل الواجهة الشاطئية من طنجة إلى سبتة ثم إلى السعيدية شرقا ومن طنجة إلى العرائش غربا ، لتتشكل عن ذلك محميات خاصة بالمجتمع المخملي، لا يلجها عموم المواطنين المحكوم عليهم بأن يكفوا بصرهم ما داموا غير قادرين على تحمل ثقل تكلفتها الخيالية ولا عاداتها الفريدة في الحياة والسلوكات اللاأخلاقية التي لا تمت بصلة لقيم المجتمع المغربي المهددة بالافتراس. والأخطر هو أن هذه المشاريع قد منح أصحابها شيكا أبيضا لتعيث في المجال البيئي فسادا دون وجود أي رادع او مسؤولية أخلاقية او جنائية، فليس هناك مشروع واحد مما هو معروض أمام الأنظار يستحق الاحترام والثقة، ابتداء من المشاريع المشار إليها سابقا، إلى مشاريع الدمار في منطقة هوارة، والغابة الديبلوماسية وسيدي قاسم التي يتم تثبيتها على حساب جمالية الشاطئ، وكذلك الغطاء الغابوي، والفرشة المائية، والبحيرات الطبيعية المصنفة، وكذلك في شواطئ تطوان ابتداء من مدينة الفنيدق التي يتم بها طمر واد يخترق المدينة على مساحة 25 هكتارا كلها تحولت إلى منطقة للبناء المخصص للسكن لفائدة إحدى المؤسسات الوطنية التي لم تترك مجالا للاستثمار إلا دخلته بدون (صباط) ومن غير استحياء، ونفس الأمر ينسحب على المشاريع المرخص بها على الشريط الساحلي الممتد من الفنيدق إلى وادلاو. وكم كان الرأي العام يحس بالسعادة والأمل حينما كان يتلقف أخبار إشاعات تتعلق بتدخل قوة نافذة من أجل وقف مشروع هنا وهناك بأمر من السلطات العليا بسبب وجود تجاوزات واختلالات بنوية وقانونية تمس الجانب البيئي والعمراني ، والكل يتذكر التوقف المفاجئ لمشروع استارهيل بالجبل الكبير بطنجة الذي أتى على 35 هكتارا من الغطاء الغابوي، والذي استمر لعدة شهور في غياب أي توضيح من الجهات المسؤولة التي لاذت بالصمت في الوقت الذي كان مئات المواطنين يمرون بحالة القلق والخوف على أموالهم التي أنفقوها من أجل اقتناء مبيعات دور السكن المعدة من طرف الشركة صاحبة المشروع. كل هذه الجرائم تتم في وقت أطلق فيه العنان للحديث عن الميثاق الوطني لحماية البيئة، وفي الوقت الذي صدرت التعليمات الداعية إلى مراعاة الجوانب البيئية في كل المشاريع المعروضة، وهو ما يدل على المفارقة القائمة بين مستوى الخطاب الفضفاض وبين الممارسة التي تستند إلى سياسة الأرض المحروقة . وعليه فإننا نطالب بالتدخل الفوري لإعادة النظر في هذه السياسة العمياء التي سترهن مستقبل الوطن الذي ستحرم فيه الأجيال اللاحقة من حقها في الهواء والشمس والرؤية نحو البحر وإلى كل ماهو جميل من مظاهر الخلق والإبداع الإلهي في الطبيعة والكون، كما ننبه إلى المظاهر الخادعة والمكتسبات الآنية التي لا يجب أن تعمي الأبصار عن إدراك الحقيقة المرة، ذلك أن الحصيلة والتكلفة ستكون غالية وحارقة ليكتوي بها الجميع حاضرا ومستقبلا حينما تضيق الأرض بما رحبت، وتسد الأبواب ومنافذ الآفاف، فيجد المواطن نفسه غير قادرعلى الحركة خلف الجدران الممتدة في كل مكان، لتحجب عنه الرؤية وتمارس عليه التعذيب النفسي والجسدي داخل سجن كبير اسمه الوطن، والصورة ماثلة الآن بكيفية مصغرة في شاطئ أشقار الذي يجسد المثال الحي للاعتداء على حق المواطن في الحرية والتنقل والنظر داخل مرفق عام وملك مشاع (شاطء جميل ، مغاور، مواقع أثرية ) بعد أن أصبح بقدرة قادر داخل قفص مغلق لا يمسه إلا "المطهرون" إن الأمر يتطلب تدخلا فوريا وحازما من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه لتفادي تكرار الخطأ الذي وقعت فيه بعض البلدان التي كانت تفتقد لبعد الرؤية في تعاطيها مع البعد البيئي، فاضطرت بعد انكشاف الخطأ إلى تدمير ما بني بهذه الطريقة العبثية كما جرى في شواطئ الجنوب الإسباني في الثمانينات، إذ توفرت الجرأة لدى جيراننا ليكفروا عن خطئهم، وليعدوا العدة للاعتذار للأجيال اللاحقة دون أن تطاردهم لعنة الخطيئة، والمؤسف أننا لا نستفيد من الدرس ، ولا ننجذب إلى قوة المنطق والعقل في التعاطي مع هذا الملف، إذ يظل التسويف والانتظار وترديد الشعارات الخادعة هو الموقف الثابت ، وإلا ما هو المانع الذي حال دون تطبيق الترسانة القانونية الخاصة بالبيئة الصادرة منذ سنة 2000 حيث ظلت تلك القوانين مجمدة علما أنها استهلكت الكثير من القيل والقال، وأنشئت بشأنها مؤسسات وهياكل وصيغت بسببها برامج ومخططات أطلقها المسؤولون في عدة مناسبات؟. وللعلم فإن ساكنة طنجة التي كانت تتوفر إلى حدود التسعينات على أزيد من 25 ألف هكتار خاصة بالغطاء الغابوي، وعلى عدد من المنتزهات الطبيعية والشواطئ الجميلة، ستصبح الآن لا تتوفر ولو على شبر واحد من هذه الفضاءات التي فتحت أمام التعمير والبناء والاحتلال لكل ما يمت بصلة إلى الملك العام، فلقد احتلت غابة الجبل الكبير بالكامل لكونها تمثل نسيجا للملك الخاص بنسبة تزيد عن 70% ويظل الباقي في كف عفريت ما دامت الأملاك المخزنية هي المتحكمة في بورصة العقار الخاص بأراضي الدولة، كما احتلت الغابة الديبلوماسية على امتداد ألفي هكتار ولم يتبقى منها إلا بعض المساحات المحكومة بالسراح المؤقت، وقضي على غابة السانية، والغندوري، والمنار، وغابة الفرنساوي، والمناطق المشجرة بحي المرس أشناد ، وغابة مخيم طامجيس، ومئات الهكتارات الغابوية داخل إقليم أنجرة ، والمناطق الرطبة (المصنفة دوليا ) كبحيرة تاهدارت المكونة من 14 ألف هكتار، وضاية سيدي قاسم .. والشواطئ أيضا التي كانت تعد مفخرة لطنجة ومتنفسا طبيعيا لكل مقيم أو زائر ، فقد قضي عليها بالتمام والكمال بسبب الخوصصة، ولن يتبقى إلا الشاطئ البلدي الذي ضربته جائحة التلوث وحكم عليه بالإعدام رغم كل المساحيق التي توضع حوله لتغليف الحقيقة المرة، ونفس المصير ينتظر فضاء ملعب الكولف بطنجة، وكذلك نادي الفروسية اللذان تعد العدة الآن وفي الأشواط النهائية للانقضاض عليهما وتحويلهما إلى منطقة للبناء . والخلاصة هي أنه لم يعد لساكنة طنجة موطئ قدم واحد يمكن اللجوء إليه من أجل الترويح عن النفس واستنشاق الهواء النقي، والهروب من الاختناق والتلوث الذي لا يطاق، بل حتى الفضاءات الخضراء الموجودة بالمدينة لا تتجاوز أن تكون إلا مقابر أو أراضي عارية تنتظر البناء، أو عقارات تابعة للبعثات الأجنبية، أو الدوائر الضيقة لمفترقات الطرق، أما غير ذلك من المناطق الخضراء فهي تكتسي طابعا مؤقتا على صعيد عدد من المواقع بسبب عدم قيام المجالس المنتخبة باقتناء تلك الأراضي وتعويض ملاكيها رغم مرور عدة عقود من التظلم. مما يعنى أن توظيف تلك الفضاءات غير قانوني بالكامل بل هو استغلال للنفوذ والسلطة لا أقل ولا أكثر، ما دامت الجهات المسؤولة متراخية عن القيام بواجب الاقتناء القانوني وإنصاف ذوي الحقوق، والمؤسف أن هذا المنطق لا يتم التعامل به مع كل المواطنين من ملاكي الأراضي المستغلة، حيث أن هناك صنفا من الناس رفع عنهم القلم، ولا يمسهم أي سوء، ولا تطالهم سيادة القانون ومبدأ المصلحة العامة، بل تسخر توابع المصلحة العامة والملك العام من أجلهم بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، فإن لم تكن تلك هي الحقيقة ، فلماذا يتم تعويض البعض دون الأخرين؟ ولماذا يتم تهجير السكان الأبرياء والعزل من أراضيهم وممتلكاتهم في إقليمالفحص أنجرة، تحت دواعي وتبريرات غير واضحة؟ ولماذا أيضا لا يتم إلزام الملاكين الخواص من علية القوم بالتخلي عن عقاراتهم المغطات بالغابة، وبالمواقع الأثرية ؟ إن طنجة التي تأوي المليون نسمة، وهو العدد الذي يتضاعف مرتين خلال موسم العبور، قد تلقت ضربة قاتلة حينما سمح بهذا المخطط المعادي للبيئة وللحياة والإنسان، ما دام يتجه بشكل أعمى نحو تدمير أهم المعالم والمؤهلات الطبيعية التي كانت تتوفر عليها هذه المدينة التي تتماهى مع البحر، فكيف تتم التضحية بهذا المقوم الطبيعي الضامن لوجودها وخصائصها المميزة على الصعيد العالمي؟ إنه الخطا القاتل الذي سيحتاج إلى أجيال وأجيال من أجل إصلاحه، ولن يتولد ذلك الحلم إلا بظهور جيل مقتنع بقيم التغيير الحقيقي نحو الأصلح ونحو ما ينفع الناس جميعا، إن هذا الجيل سيتوجه إلينا بالإدانة والشجب لما اقترفته أيدي أصحاب هذا الزمن الذي غاب فيه الحس الإنساني والمسؤولية، ولنا اليقين أنه ستتم العودة إلى أرشيف طنجة الذي تم إتلافه وتدميره ، وسيتم التذكير بأسماء المسؤولين الذين تعاقبوا على إدارة المنطقة وعاثوا فيها فسادا بدءا من الولاة والعمال ورؤساء الجماعات، وستذكر أسماء وشخصيات وعائلات (محترمة، وغير محترمة ) ضالعة في المضاربة وتحويل التراب إلى ذهب. سيتأسف أبناء الغد القريب على ما صدر عن أسلافهم من زلات لا تغتفر، وسيسعون بكل قوة إلى محاولة رأب الصدع ووقف أثر الزلزال القوي الذي ضرب طنجة، وليعلم أصحاب القرار أن الذي يحدثونه اليوم بعناية وأصرار لا يمكن أن يسهم فيه أي زلزال طبيعي مدمر ولو كان على شكل زلزال هايتي الأخير، ونظل نحن نلتمس العذر لأنفسنا ولذوي الضمائر الحية الذين ما فتئوا يدقون ناقوس الخطر، بعد ثبوت عجز الجميع عن صد العدوان، ومع ذلك سنظل نقول : كفوا أيديكم عن فضاءات الملك العام، كفوا أيديكم عن المغرب الطبيعي الجميل فلا تدمروه بجهالة، ولا نريد منكم إلاحب هذا الوطن بإخلاص ومصداقية، مع التعبير عن ذلك بالقول والفعل والأحاسيس والمتنميات، والسلام على من اتبع الهدى.