إن المشكلات الخطيرة التي ابتلي بها العمل الإسلامي المعاصر ، تخلف العقلية التنظيمية عن المستوى الذي يفرضه الشرع ويتطلبه العصر ، وكثير ممن ابتلوا بهذا المرض الخطير يحاولون تلمس مبررات شرعية لارتكاسهم التنظيمي هذا . والمقصود بتخلف ( العقلية التنظيمية ) عدم استيعابها للأصول والقواعد التنظيمية ، وبالتالي خروجها على هذه القواعد والأصول . والمقصود بتخلف ( العقلية التنظيمية ) كذلك ، خروجها على ( منطق الأولويات ) فيما هو كائن وفيما ينبغي أن يكون ، وبالتالي قيامها بالممارسات الكيفية التي قد تكون متصادمة مع أبسط ( أبجديات ) التنظيم . والمقصود بتخلف العقلية التنظيمية أيضًا ، عدم قدرتها على تصنيف وتوزيع التراكمات الحركية والمقولات الفكرية ضمن أطرها وحدودها ، سواء في التصور والتفكير ، أو في التخطيط والتنفيذ ، مما يجعلها متداخلة مهتزة ، وغير واضحة أو مفهومة . والمقصود بتخلف العقلية التنظيمية ، عدم تمكنها من تحديد الكيف والكم ، والتوفيق بين الكيف والكم ، سواء في مجال العمل أو مجال القول ، مما يحدث بالنتيجة خللاً بالغًا وضررًا أكيدًا . والمقصود بتخلف العقلية الحركية فوق هذا وذاك عدم تقديرها للوقت ، وبالتالي عدم استفادتها منه الاستفادة الصحية ، مما يجعل الوقت والزمن يمشي لغير مصلحة الإسلام ، ويصب في غير مصلحة الإسلام ، إذ إن أعداء الإسلام لا يفترون لحظة عن الإعداد وتنمية القدرات وتصيد السوانح والمناسبات للإيقاع بالإسلام وأهله . كل ذلك يعني أن ارتكاس العقلية التنظيمية معناه ارتكاس العمل الإسلامي ، وبالتالي ارتكاس الحركة الإسلامية ، ذلك أن العمل الإسلامي لا يمكن أن يبلغ المستوى المطلوب ويحقق الهدف المنشود ما لم يقم على قواعد تنظيمية محكمة في شتى ميادينه التربوية والحركية والسياسية والجهادية ، وما لم تتعهده وترعاه ذهنيات منظمة قادرة على وضع الأمور في مواضعها ، مكلوءة فوق ذلك بتوفيق الله وهداه . إن المستقرئ لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، لكل خطرة من خطراته ، ولكل خطوة من خطواته ، تتبين له معالم التنظيم في أسمى وأدق صورة ، فمثالاً على ذلك أنه في هجرته عليه السلام مع أبي بكر تبدو طائفة من اللفتات التنظيمية الجديرة بالدراسة والتأمل والتأسي ، من ذلك : 1 طلبه إلى علي بن أبي طالب المبيت في سريره لتضليل المشركين ريثما يكون قد غادر مكة وبلغ غار ثور . 2 اختياره غار ثور الذي يقع في اتجاه معاكس لطريق المدينة ، زيادة وإمعانًا في تضليل المشركين الذين كانوا يدركون أنه نهاجر إلى المدينة لا محالة . 3 تكليفه عبد الله بن أبي بكر بنقل ما يجري في مكة من أخبار . 4 تكليفه أسماء بنت أبي بكر بتأمين الطعام . 5 تكليفه عامر بن فهيرة ، أن يرعى غنمه نهارًا ، ويريحها عليهما ليلاً ليأخذا حظهما من اللبن ، ولتُطمس بحوافر الأغنام آثار الأقدام التي تتردد على الغار . 6 استئجاره رجلاً من المشركين ليكون دليلاً لهما على طريق المدينة . فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد بالوحي ، المسدد بهدي العليم الخبير ، قد اتخذ جملة ترتيبات ومجموعة إجراءات في واحدة من عشرات الحوادث ، فما بال العاملين للإسلام اليوم وقد انقطع الوحي وأشكلت الأمور ، وادلهمت الأجواء بكيد الأعداء لا يستنيرون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقتفون أثره ، فتكون لهم أعين يبصرون بها ، وآذان يسمعون بها !! بل ما بالهم لا يتعلمون من عدوهم دقة التنظيم وحسن التنظيم والقدرة على التنظيم !!! . إن الإسلام يريدنا أن نكون قمة في كل شيء ، في أمور ديننا وفي أمور دنيانا ، فالدنيا مطية الآخرة ، إن لم نحسن امتطاءها وتسخيرها في مصلحة الإسلام ، سخرها أعداؤنا ضدنا ونالوا بها منا ومن إسلامنا ، كما هو حاصل اليوم . إن الأخذ بأسباب القوة الحسية والتنظيم أهم هذه الأسباب فريضة شرعية ، لا يجوز تعطيلها أو إهمالها بدليل قول الله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } ثم بدليل نص نبوي لا مجال لتأويله ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب من أحدكم إذا عمل العمل أن يتقنه ) ، والحقيقة أنه لا إتقان من غير تنظيم ، بالغ ما بلغت الطاقات والإمكانات ، إذ العبرة بالكيف لا بالكم ، والتنظيم جوهر الكيف ومادته الأولى والأهم . إن العاملين في الحقل الإسلامي مطالبون بتنمية قدراتهم التنظيمية مثلما هم مطالبون بتنمية قدراتهم الإيمانية والفكرية ، ومطالبون بالاستفادة من كل ما تفتقت عنه العقول من وسائل ونظريات وتقنيات في فن التنظيم والإدارة والبرمجة والأرشيف امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم : ( الحكمة ضالة المؤمن ، أنى وجدها فهو أحق بها ) ، وقوله : ( خذوا الحكمة من أي وعاء خرجت ( .