يحلم أهل الفكر بالنهضة والتغيير , وينظرون لشروط الفعل , يحددون أولويات المرحلة بعد توصيفهم لمحددات الواقع الراهن , ولا يجدون من قدرة على أجرأة أفكارهم وطموحاتهم وأحلامهم إلا بالتبشير بضرورة التنظيم , وبفاعلية التنظيم , بل تراهم يخوضون السجالات النظرية والحجاجية لتأكيد أهمية التكتل التنظيمي وجدواه , ولا يعجزهم أن يحشروا عشرات الأدلة والبراهين على صدقية طرحهم وقوة حجتهم , تأصيلا من أرضيتهم المرجعية , ونظرا في الكسب البشري ورصيد التجربة الإنسانية , وتأملا في فاعلية الغرب المنظم المسيطر , وعجز العالم العربي الإسلامي المجزأ الخاضع . حتى إذا خضع الكل لرأيهم , ومال الناس إلى براهينهم المبسوطة , وتأسس التنظيم وبنى هياكله وأجهزته , وجمع قناعاته وآراءه في ورقات تشكل المتفق عليه داخل بنية التنظيم , المتعدد الشرائح, المتنوع المشارب , المختلف المقاربات , انبرى أهل الفكر للتعبير عن ضيقهم بالتنظيم ومقتضياته , بل صار نقدهم اللاذع للقيادات التنظيمية والأطر المرجعية المتفق عليها هو أرضيتهم النظرية الجديدة , ومشروعهم التبشيري الذي يجتهدون للدعوة إليه . لا يطمئن المفكر داخل التنظيم لسير الفعل الحركي , وينظر إلى الورقات التصورية التي اهتدى التنظيم إلى تبنيها - بعد نقاش طويل ومداولات مرهقة - بعين النقد والرفض , ويهمه أن يبحث ما تحت السطور , يقلب النظر في الخلفيات , يبرر القرارات , يفلسف الإجراءات , ليجد نفسه غير راض على طبيعة العمل , ووتيرته و مستقبله . وقد تنظر بعض قيادات التنظيم إلى هذه المواقف بنظرة أمنية داخلية , ولا يكون الهم الحاصل عندها سوى تأمين التنظيم وحمايته , فينشأ بوادر التنافر وأحيانا التنافي بين التنظيم وأهل الفكر , فتنتصر الرؤية الإدارية التنظيمية , ويرتد أهل الفكر إلى مواقعهم التنظيرية التجريدية , بل وقد ينسحبون مطلقا من ساحة الفعل , فيحاصرون أنفسهم , إذ يعتقدون أن التنظيم قد حاصرهم , ويحرمون أنفسهم حتى من حق الحلم بالنهضة والتغيير , وقد كانوا يتصورون أنهم المنظرون لمنهجية التغيير , الراسمون لخريطة المواقف والمبادرات , المحددون للحظة الحسم والقطع التاريخية , لحظة أرخميدس حينما يصيح : " وجدتها " . تأملات أملاها النظر في مسار المفكرين في هذا البلد , ومحنتهم داخل التنظيمات , إذ لا تكاد تجد تنظيما إلا ويضيق ببعض أهل الرأي , ويتقصد في التعامل معه , ثم يؤول الأمر إلى تنزيل آليات التنظيم ومقتضياته , فيخرج المفكر من الرقعة , وتبقى حكرا على أصحاب الكفاءات الإدارية القادرين على الانضباط للمسطرة , المستوعبين لآليات تمرير القناعات والأفكار . في الحقل الحركي الإسلامي , يتدخل الباعث التربوي الدعوي ليخفف من حدة الاصطدام , فلا يبدو التنافي ظاهرا , ولا تستعمل الآلة التأديبية الإقصائية بذات الطريقة التي تعرفها التنظيمات الأخرى , غير أن المشكلة تبقى قائمة بين أهل الفكر والقيادات التنظيمية , مما يدعو إلى وقفة للتأمل والنظر في طبيعة المشكلة , ومحدداتها والعناوين المقترحة كبديل لمعالجتها . أعتقد أن طبيعة المشكلة لن تتحدد بغير النظر في طبيعة كل من المفكر والتنظيم , فمن خلال بحث محددات كل من العنصرين , يمكن أن نجتهد في صياغة رؤية تقريبية تعالج مأساة المفكر داخل التنظيم , كما تعالج مشكلة عدم قدرة التنظيم من الإفادة من رجال الفكر في تطوير الكسب الحركي , وبناء الرؤى التغييرية القادرة على ملامسة المعضلات الحقيقية للمجتمع .
طبيعة المفكر لعلاقته المباشرة بالفكر وتتبعه للكسب البشري في مجال المعارف كان المفكر مفكرا . فالتفكير والتأمل وظيفته الأولى , والبحث عن المعارف , والتنقيب عن المرجعيات , والأساسات المعرفية والتصورية للأفكار والاختيارات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية هي همه الشاغل . ولهذا فالمفكر الحالم بالنهضة والتغيير لا يطمئن حتى يتتبع رصيد التجربة الإنسانية , يدرس عوامل النهوض والسقوط , يبحث مكامن القوة في هذه التجربة وعوامل الضعف في تلك . مهتم هو بالنقد, يقوم المعرفة والممارسة , يقوم حتى منهجية التفكير ويصحح آلته . باحث هو عن التراكم , ذلك المعطى الموضوعي الذي يسمح له بالتنظير وإنتاج التصورات , وبلورة الرؤى والقناعات . وهو في سعيه هذا , يبني ذاته الباحثة الناقدة , ويمارس كل ذلك بفرديته المنشغلة بالفكر والتفكير , المنفعلة بالمحيط , الراصدة لتفاعلاته وتداعياته . تلك الفردية التي تتعمق كلما بنى المفكر آلة النظر عنده , وامتلك النسق الذي كان همه البحث عنه والتفرد به , وبدأ يطرح مفاهيمه وتصوراته المنسجمة مع أدوات تحليله وجهازه المفاهيهمي . حتى إذا ارتقى المفكر إلى هذه المرتبة في القدرة على إنتاج الفكر , والتعبير عنه بلغته العالمة بنى رمزيته ومكانته الاعتبارية في نظر نفسه , وانتظرها في نفوس المتلقين لخطابه .
طبيعة التنظيم هو تجمع لا شك , يضم شرائح من الناس تختلف مواقعهم الاجتماعية , ومستوياتهم الفكرية , ولكن يوحدهم الطموح والرغبة في التغيير , والمرجعية . يوحدهم بهذا الاعتبار المنطلق والاتجاه , الأرضية والهدف , الإيديولوجية والغاية . تجمع يبحث عن وسائل الاشتغال , يطرح سؤال : ما العمل ؟ كيف نعبر عن قناعاتنا المشتركة , كيف ننزلها , ونجسدها في شكل اختيارات عملية تبلغ بنا إلى الهدف الذي اجتمعنا على تحقيقه؟ . أسئلة يجتهد هذا التجمع للإجابة عنها من خلال إفراز الهياكل والأجهزة التشريعية والتقريرية والتنفيذية التي تنزل الرؤية وفق أولويات المرحلة . كيف تختار القيادات ؟ ما شكل التنظيم الداخلي المقترح ؟ كيف تحدد بنية الواقع ؟ كيف يجتهد التنظيم للوصول إلى توصيف حقيقي لطبيعة المرحلة ؟ كيف تتحدد الأولويات ؟ كيف تنزل في شكل برامج واختيارات ؟ كيف تنفذ وكيف يكون الأداء ؟ ما نسبة النجاح والإخفاق ؟ ما العمل لاستثمار ثمرات التوفق في الكسب الحركي ؟ وما العمل لمحاصرة آثار الإخفاق في أدائنا الحركي ؟ كلها أسئلة ينبري التنظيم بأجهزته الفاعلة أو الخاملة للتصدي للإجابة عنها بالطريقة التي تحدد سيره ومستقبله . التنظيم بهذا الاعتبار يسير بوتيرة أبطأ من وتيرة المفكر , ذلك أن الجماعية في التنظيم , والحرص على معالجة كل المشكلات بالنفس الإجماعي أو الأغلبي قد يعثر من الناحية الزمنية حل المشكلات , وقد يكون التصور المطروح للحل يتناسب مع المؤهلات الفكرية للتنظيم في مجموعه , وهو الذي يمثل كل الشرائح باختلاف المواقع والمستويات . العناصر المكونة للتنظيم , النفس الإجماعي فيه , والمساطر المتفق عليها لاتخاذ القرارات وإنتاج التصورات , كل هذه المعطيات تجعل من التنظيم غير مساير للنفس الذي يشتغل به المفكر , وقد يحصل أن تجد في التنظيم من أهل الفكر القادرين على مسايرة النمط الإداري من يصمدون فيطبعون التنظيم بأفكارهم وقناعاتهم , فيجمعون بين نزعاتهم الفردية في التحليق الفكري , ويخضعون لمقتضيات التنظيم , فيعرفون كيف يتفننون في إقناع الأجهزة التنظيمية المسيرة بأفكارهم وقراراتهم واجتهاداتهم . وكثير من هؤلاء لا يسعفهم التعامل الفكري مع أهل الفكر , فيتعاملون معهم مسطريا على الرغم من التوافق في النظرة والمنطلق , وذلك من احتكاكهم المستمر بالأطر التنظيمية , ودأبهم على اعتمادها في بسط أفكارهم . يتحصل من بحث طبيعة التنظيم , أن وتيرته في التفكير وإنتاج التصورات أبطأ من وتيرة المفكر , ولكن صفتها الإجماعية أقوى من الصفة الفردية التي يتمتع بها نظر المفكر واجتهاده, كما أن التقصد في إنضاج التصورات واختيار القرارات التي يتخذها التنظيم تكون أكثر قبولا وإقناعا مما يطرحه المفكر من أفكار , ذلك أن نزعة المفكر النخبوية غالبا ما تحاصره , وتمنعه من إيصال خطابه , اللهم إن استطاع أن يكسب الرمزية الاعتبارية , والموقع الشرعي داخل الصفوف الجماهيرية للتنظيم , فلا شك أن موقعه سيتدعم لصالح تطوير الكسب الحركي للتنظيم .
من أجل صياغة تقريبية لمعالجة مشكلة المفكر داخل التنظيم لا يشك أحد أن التنظيم يفتخر بكل أبنائه , ويجتهد في استيعاب كل شرائح المجتمع , ويكون استيعابه قاصدا ومؤثرا لو جلب إلى صفوفه أهل الفكر والنظر , ذلك لأنه يتصور أن هذه الفئة ستسهم لا محالة في الرفع من قيمة التنظيم , وفي تطوير الرؤية والأداء الحركيين . إن هذه القناعة توحي من البدء أن الخصومة بين أهل الفكر والتنظيم لا تكون مطروحة ولا متصورة , وإنما تطرأ في سياق الاشتغال , حينما يعمل المفكر بطبيعته , ويشتغل التنظيم بطبيعته أيضا . والمفكر حينما يختار التنظيم , لا يقصد التخندق لقتل إبداعه والتضييق عليه , ولا ينشد أن يسترشد التنظيم بكل تصوراته وأفكاره الفردية , وإنما هي قناعة يحتمها الحلم بالنهضة والتغيير , ذلك الحلم الذي من شرط تحقيقه العمل الجماعي المنظم , مع الصبر على سلبياته وآفاته . وإذا كانت القناعة المبدئية التي تحدد العلاقة بين الطرفين تسمح بالحديث عن التعايش بينهما , فلا بد من تحديد الصيغة التي تحقق مقصد الفريقين بحيث لا يتنازل أحدهما عن طبيعته , ولا يحصل ذلك التنافي الذي يقصي أهل الفكر , كما يصيب التنظيم بالترهل نتيجة التنحي القسري أو الاختياري لأهل الفكر عن التنظيم . أعتقد أن الصيغة الممكنة لمعالجة المشكلة أن يغير المفكر من نظرته إلى التنظيم , وأن يعيد بناء منهجيته في إيصال خطابه والتبشير به , وأن يتوقف عن حصر مشروعه الفكري في النقد الموجه إلى الكسب الحركي وأطره التنظيمية والتصورية , كما أن حل المشكلة تكمن في أن يعيد التنظيم النظر في كيفية توظيف المفكر, وذلك لخلق الحركية الفكرية داخل التنظيم , تلك الحركية القادرة على بعث روح الفعالية التي بدأت تخبو في الجسم الحركي . ومن شرط ذلك أن يتوقف المفكر عن لمز القواعد , ووسم التصورات الراهنة بالضحالة , وأن يسهم في عملية الترشيد عبر الرفع من مستوى الفاعلية الثقافية داخل الجسم الحركي والصبر على آفات الطريق . إن ذلك حتما سيولد تدريجيا الرمزية الاعتبارية للمفكر داخل التنظيم أو قل الشرعية التي بها يستطيع أن يباشر التغيير القاصد بالحوار , والقطع مع النزعة النخبوية , والانخراط الفعلي في الرفع من رشد القواعد . إن الرمزية الاعتبارية للمفكر ضرورية وشرط لازم يمهد الطريق لبعث الأفكار وإنضاج القناعات والتبشير بها في أفق إقناع الجماهير بمقتضاها وجدواها. ومن الخطأ أن نتصور أن الانغماس في الخطاب النقدي هو الذي يبني فردية المفكر وموقعه الرمزي داخل التنظيم خاصة إذا كان التنظيم نفسه يعيش تحولات متسارعة لا تسمح بتفعيل آلية النقد أكثر مما تتطلب الانخراط في الفعل والإنجاز . وللتنظيم أن يكف عن النظر بالعقلية الأمنية التي تغتال الكفاءات , وتفعل مساطر التجميد , ومسلكيات الإقصاء بدعوى حماية التنظيم . وكم تكون المقاربة موفقة لو سعى التنظيم لتجنيد كل الطاقات الفكرية التي تنحت أوالتي في إطار التنحي بفعل التنافي بين الطبيعتين , لبعث الحركية الثقافية داخل التنظيم والمشهد الثقافي عموما .
وبعد هذه قناعة ترمي لمعالجة مشكل قائم , أو متوقع أن يقوم , أبسطها للناظر والقارئ كمساهمة لتجميع كل طاقات الفعل , وهي لا تعبر عن معالجة ظاهرة بعينها داخل تنظيم أرقبه وأتتبع مساره , ولكنها نظرة حرية بالالتفات من ذوي الاهتمام المشترك لتفعيل الساحة الحركية , والانخراط الكلي في عملية الترشيد للقواعد داخل التنظيمات الحركية الإسلامية للرفع من مستوى التصور والممارسة الفكريين والسياسيين للفاعل الحركي الإسلامي . بلال التليدي