عرف المغرب انتخابات على مر العقود التي تلت نيله استقلاله الحقيقي كما تعتبره فئات، واستقلاله المزيف كما هو عند أخرى، وكانت الانتخابات كلها تجري بتخطيط من الداخلية ورضا القصر، وحين ولي الملك محمد السادس حكم المغرب اختلف الأمر قليلا، ولكنه ظل في جوهره من عزوف المغاربة ومشاركتهم في الاستحقاقات هو هو لم يطرأ عليه تغيير. فالانتخابات التشريعية لسنة 2007 عرفت عزوف المغاربة عن المشاركة، فكانت النتائج بلا مصداقية، ومع ذلك انبثقت عنها هيئة تشريعية وتشكل على ضوئها مجلس النواب الشيء الذي كان يجب ألا يكون، والشاهد هنا هو موضوع المشاركة، فكيف يعزف الشعب عن المشاركة في انتخابات 2007 ويتم تشكيل مجلس النواب وفق تلك النتائج؟ واليوم في انتخابات 2009 واقتراع 12 يونيو من نفس السنة عرفت عزوفا أيضا، صحيح أنه قد ارتفعت نسبة المشاركة عن التي سبقتها في الانتخابات التشريعية، ولكن يجب ألا يفهم منها أن الشعب المغربي قد غير رأيه، أو تراجع عن عزوفه، كلا، فالأمر لكل ذي لُبّ لا يعدو كونه عملا يرتبط بعلاقات مصلحية وعائلية أتى بصداقات وأفرز تعاطفات مثل سابقه، ولكن سابقه يظل محصورا في نسبة قليلة من المشاركين، فعدد الذين تقدموا للبرلمان أقل بكثير من الذين تقدموا للانتخابات الجماعية والقروية، وهذا كاف لإدراك عنصر الزيادة في المشاركة، وعليه فالتفاؤل بها تفاؤل غير سياسي ليس لأن التفاؤل والتشاؤم لا يدخلان مضمار التحليل السياسي وقراءة الأحداث وتلمس مستقبلها، بل لأن الواقع المعاش يجعل فيها تداخلا، وبالتالي تفاعلا في علاقات الناس، فليس منطقيا أن يعزف مواطن عن الإدلاء بصوته لأحد أقربائه أو جيرانه، ولا أقول حزبه، لأن الأحزاب المغربية باتت في ردهات التاريخ المظلمة، وما تحصد من نتائج يأتي من حرث عشوائي وزرع ببذور معدلة من جينات سياسية فاسدة، بل إن التسجيل الذي ظهر؛ على حيائه، كان يصب في هذا الموضوع، فمن تسجّل من الناس من جديد لم تدفعه الرغبة السياسية في المشاركة، بل دفعته رغبة الصداقة والعائلة ومحاكاة أقرانه ليدلي بصوته لمن تقدم من أبناء حيه أو عائلته أو جيرانه.. ثم إن الحركة التي جاء بها كثير من الشباب المغربي في هذه الانتخابات لم تكن حركة سياسية، وليس فيها أدنى وعي، فهي مجرد حركة مُسْتَنْفَر كرستها الأحزاب السياسية التي نقلت العمل السياسي إلى فلكلور شعبي لا متعة فيه يتفرج عليه الأجانب ونحن فيه بهاليل. واللافت في الانتخابات الجماعية والقروية لسنة 2009 ليس هو زيادة مستوى المشاركة عن الانتخابات التشريعية الماضية مع تجاوز المقارنة بين هذه الانتخابات الجماعية والانتخابات الجماعية التي سبقتها والتي نزلت هذه عنها بنقطتين، بل هو في الإبقاء على عدم مصداقية الانتخابات كلها، وكيف تكون للانتخابات مصداقية والناس عنها عازفون؟ كيف يستقيم الأمر سياسيا والأغلبية تظل دائما مفقودة؟ كيف يسجل 13 مليون و 600 ألف ناخب وتستخرج من عددهم نتائج للانتخابات بصرف النظر عن الذين قاطعوها والكثرة الكثيرة والأغلبية الساحقة التي تفوق الثلثين ممن وصلوا سن التصويت من المقاطعين المسجلين وغير المسجلين تظل غائبة؟ إن 13 مليون و 600 ألف ناخب الذين تم تسجيلهم لم يساهموا جميعا في الانتخابات، بل فيهم العازفون وقد وصل عددهم إلى 6 ملايين مقاطع للانتخابات باعتراف وزارة الداخلية المغربية، ولكن 7 مليون مواطن آخر لم يسجلوا أنفسهم وهم يشكلون الأكثرية بزيادة مليون ناخب، وكلهم عازفون عن المشاركة ومقاطعون لها، فهل نحكم على الانتخابات من خلال الذين أدلوا بأصواتهم، أم نحكم عليها من خلال الذين قاطعوها؟ لو ركبنا فكرة العصر الخبيثة؛ الديمقراطية، فإن هذه الأخيرة تقضي بإلغاء الانتخابات وإعادتها حتى يحصل النصاب بالمشاركة الفعلية، وهي الذهاب إلى مراكز الاقتراع والإدلاء بصوت الناخب ولو بالتصويت للاشيء، والاقتراع للفراغ.. وإذن فالمشهد السياسي، والخريطة السياسية للجماعات الحضرية والقروية يظلان خارج الذهن المغربي، ولا يقال العكس حتى لا نسوق ردا يفضح المنتفعين والوصوليين وأصحاب المصالح.. وعليه يجب المصالحة مع الشعب وذلك بإلغاء الأحزاب الإسمية كلها والسماح للناس بالتكتل على أفكارهم ومفاهيمهم دون إكراه، ثم فسح المجال للمنافسة الشريفة لمخاطبة الذهن المغربي الذي يسخرون منه بتمثيليات الانتخابات كلما حل أجلها، ف 7 مليون عازف غير مسجل مع 6 مليون مسجل لم يشاركوا في الانتخابات تُظهِر الهوة الشاسعة بين الشعب وبين الأحزاب من جهة، وبينه وبين الدولة التي تسعى إلى مكيجة وجهها وإظهاره للدول الأخرى من جهة أخرى.. وأنا هنا لا أسوق واقع الجماعات المحلية والقروية لأحاكمها بالقانون المغربي والدستور المغربي، فالمعروف أن وزارة الداخلية وصِيَّة على الجماعات المحلية والقروية، والموصى به يحمل صفة القصور وعدم النضج والسفاهة، فهل مجالسنا الجماعية والقروية بناء على القانون المغربي والدستور المغربي قاصرة سفيهة غير ناضجة؟ لا أسوق هذا لمحاكمة الجماعات المحلية والقروية. ولا أسوقه للحديث عن حزب جديد هو حزب الأصالة والمعاصرة الذي ظهر منذ بضعة أشهر وأخذ الأغلبية المطبوخة سلفا مثله مثل حزب الاتحاد الدستوري عند نشأته سابقا. لا أسوقه لصلاة الجنازة على الأحزاب التقليدية التي تتحرك حركة المذبوح ويتوهمها البليد سياسيا حية فاعلة، بل أسوقه لإثارة الذهن بغية طلب العلم والمعرفة ودرء الغفلة والاستغفال الذي تمارسه الأحزاب المغربية الاسمية وتساهم فيه الدولة المغربية بحصة الأسد؛ وإلا لماذا لا تسمح للناس بالتكتل على أساس ما يريدون؟ لماذا تضيق عليهم بمنعهم مما ذكر فتحملهم على الانخراط في العمل السياسي وكأنهم خضروات يلقى بها في طنجرة الأحزاب؟ لماذا لا تسمح الدولة للناس أن يتكتلوا على أفكارهم ومفاهيمهم وتترك المنافسة حرة تحميها هي، ثم تستجيب لنتائجها؟ لماذا لا تطلق الدولة يديها ولو قليلا حتى يتحرر الناس من سخف العمل الحزبي الاسمي المدجن؟ * كاتب صحفي من مدينة طنجة