فالناجحون كانت تقام لهم الحفلات والولائم، فتدق الطبول وتزغرد النسوة وتذبح الأضاحي وتقدم القرابين للأضرحة. كان نيل الشهادة آنذاك يعادل وظيفة محترمة اليوم، لذا لم يكن من السهل أن تجتاز الامتحان النهائي إلا وأنت متمكن من المقرر الدراسي كاملا...لن يكون باستطاعتك النجاح إن لم تقض السنة الدراسية كلها في كد وجهد وسهر إلى مطلع الفجر.. كانت الأسر تفتخر بأبنائها في كبرياء لا يخفى في جميع المناسبات. الآباء يقتنون الصحف الوطنية التي تنشر أسماء الناجحين يتباهون بها في المقاهي والتجمعات . الأمهات لا حديث لهن في حفلات العقيقة والزفاف وجلسات النميمة سوى عن فلان نجح وفلان رسب وآخر صار مشروع دكتور أو أستاذ. هكذا كانت تمر الأيام التي تعلن فيها نتائج الباكالوريا.سرور وحبور يقابله حزن وانكسار. في ظل هذه المظاهر الممتعة ظفرت بشهادة الباكالوريا آداب عصرية بميزة مقبول. لقد كنت محظوظا. عرفت قيمة ذلك بعد سنوات. أتذكر يوم تحلقت حول سبورة إعلان نتائج الباكالوريا. كنت أتدافع وأصدقائي كتفا بكتف في سبيل الوصول إلى لائحة الأسماء . الهلع سيد الموقف ، فرائصي ترتعد ، وقلبي يدق في عنف ، والخوف من الفشل يطاردني. التلميذات كن يعانين بسببنا.لم يكن باستطاعتهن الوصول إلى اللائحة. كان ضربا من الجنون أن تصل إحداهن إلى الصفوف الأولى.فقط انسحابنا من ساحة الوغى يعطي الضوء الأخضر لهن. ناداني صديقي إسماعيل من الجهة الأخرى: نورالدين نورالدين أبشر إن اسمك من بين الناجحين. في ظل همهمات التلاميذ وضجيجهم لم تلتقط أذني سوى كلمة" الناجحين" بصعوبة بالغة. لذلك اقتحمت الصفوف متقدما في اندفاع وبلا ترو إلى الأمام . أفضل طريقة لمواجهة الصعاب اقتحامها. هكذا تعلمت من أستاذ اللغة العربية , وكان هناك ، هناك كان شامخا في كبرياء ، مدون بمداد الفخر والاعتزاز ، إنه اسمي ، الذي ناضلت من أجله لاثنتي عشرة سنة خلت ، كي أكون اليوم مرفوع الهامة أمام أقراني . حينها اغرورقت عيناي بالدموع بشكل لا إرادي . لا يمكن أن اصف فرحتي وابتهاجي بالنجاح ، في تلك اللحظات اللسان يعجز عن التعبير ، فرحتي بالنجاح لا تعادلها سوى فرحة أمي ، أمي ، المسكينة التي تكابد وتقاسي ، المعين لا ينضب، والعطاء الذي لا يجف ، إنها تنتظرني الآن على أحر من من الجمر ، اليوم بإمكانها أن تفرح ، اليوم سترى نتيجة كدها وتعبها ، اليوم ستحتفل ستزغرد ،سترقص ، اليوم ستقف بشموخ وكبرياء أمام ساكنة الحي ، كنت أسرع الخطى كي أصل في اقرب وقت ممكن إلى المنزل. لم أكبد نفسي عناء طرق الباب ، فقد كانت هناك بانتظاري ، إحساس الأم بفلذة كبدها ، الإحساس الذي لا يخطئ أبدا . كانت واقفة مشرعة الباب على مصراعيها. لم أكن بحاجة لأن أقول شيئا. فتعابير وجهي اختصرت كل شيء. لذا فقد احتضنتني بعفوية وحنان جارف. درفت المسكينة الدموع مدرارا ، حتى تخيلت بأن فصل الشتاء حل قبل موعده. ما أغلى دموع الأم ، كنوز الدنيا لا تضاهيها . من يزرع يحصد، هذا ما كانت تقوله لي دوما. قال لي جارنا بعد أسبوع من ذلك:إن أمي ظلت رابضة أمام الباب لم تتزحزح طوال اليوم في انتظار مجيئي. كم تعذبت بسببي، سأعوضها عما فات. لن تشقى بعد اليوم. هكذا قطعت أول وعد على نفسي بعد الباكالوريا. لكن ................... لكن فرحتي لم تكتمل فأبي لم بتمكن من رؤيتي وأنا أنال شهادة الباكالوريا ، لم يشهد فرحتي العارمة ، لم يتباه بي أمام خلانه ، كان أبي معتل الصحة بمرض عقلي خطير تعرض له لما كنت أدرس في السنة الخامسة من التعليم الثانوى. لذلك فهو لم يكن يعرفني ، بل لم يكن يتعرف على أحد بالمرة . ألفيته منزويا في ركن من أركان المنزل. ذهبت لأقبل رأسه ويديه. فنظر إلي في شرود وعينين ذابلتين خاليتين من حنان الأبوة. أحسست حينها بحزن عميق . حزن الابن الذي افتقد أباه . بكيت بحرقة ليال متصلة ببعضها بعد نيل الشهادة . لم تلاحظ أمي شيئا طرأ علي . سوى عيني اللتين ضمرتا واكتستا زرقة داكنة . قلت لأمي فيما بعد :إن ذلك نتيجة الجهد الذي بذلته طوال الموسم الدراسي . كنت أحاول ألا أزيد من أقراحها . تصنعت الابتسامة أمامها مرارا . كانت في الحقيقة ابتسامة بلا معنى ، كانت ابتسامة بلهاء . أبي كان تحفة زمانه ، لا تفارقه الابتسامة ، بشوش ،مقبل على الحياة ،لا بيخل علينا بشيء . كان صديقا وأخا لي قبل أن يكون أبا . أما أصدقاؤه فقد كانوا يخالونني أخا له فعلا . لم يصدقوا ذات يوم لما رأوني ألثم يديه الكريمتين. بفضله كنت أحصل على المرتبة الأولى في اللغة العربية. بفضله أصبحت خطاطا أتقن جميع الخطوط العربية خط ديواني ، خط رقعي ، خط نسخي...... بفضله أصبحت موظفا محترما. كان يملك مكتبة في تلك الفترة.عودني على القراءة منذ نعومة أظافري في كل مساء كان يناولني قصة أو رواية. قرأت لمشاهير الكتاب وأنا في عمر الزهور. قرأت لنجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وحافظ إبراهيم ..... و لجرجي زيدان وشكيب ارسلان وجبران خليل جبران.......و ليفكتور هوجو واميل زولا ولامارتين وجان جاك روسو....... ونعوم تموتسكي واجاتا كريستي وغسان كنفاني وكريم غلاب............... كنت أنهل واقطف من مكتبة والدي من هنا وهناك. مازلت مدمنا على القراءة لحد الآن. لا يمكنني أن أنام دون أن أتناول كتابا . يقولون "من شب عل شيء شاب عليه" . لقد كانوا على حق. توفي أبي يعذ ذلك أبي بسنة ونيف رحمه الله واسكنه فسيح جناته. مات وهو في سن السادسة والأربعين. مات في مقتبل العمر، فتركني لمعترك الحياة ، يتيما ، أواجه الصعاب والعقبات ، وحيدا ، بلا سند ولا معين ، سوى ربي ووالدتي ، والدتي التي تضاعف دورها ، فقد أصبحت تلعب دور الأم والأب معا. يتبع