جهنم قوم عند قومٍ .. جنّةُ "الجهنم" الرابعة التي سأتطرق إليها في هذه المقالة ليست هي ذاك المكان الذي أعده الله لتعذيب من عصاه من الكافرين ، وليست تلك التي قال عنها عمر بن العاص: لو يعلم احدكم حقيقة جهنم لصرخ منها حتى ينقطع صوته ولصلى حتى ينكسر صلبه : عمر بن العاص ، وليست تلك التي أسهب في موضوعها المفكرون والفلاسفة وعلماء الكلام ورجال الدين والدجاجلة وعامة الناس منذ القدم .. كما أنها ليست هي تلك "الجهنم" التي خرج علينا البابا مع مطلع السنة الميلادية الجديد 2014 ، بتصريح خطير زعزع الثوابت الدينية المتعلقة باعتقاد الناس ب"الجهنمات" ، وخلق رجة ونقاشا لدى كل من اطلع عليها أو سمع به ، مدعيا فيه : "بأن الكنيسة لم تعد تعتقد في الجهنم/الجحيم حيث يعاني الناس" .. بل إنها واحدة من تلك " الجهنمات " الموجودة على الأرض وليس في السماء ، والتي حفرت في ذاكرة الكثيرين تجاعيد وأخاديد عميقة ، وخلفت في النفوس عقدا معقدة ومتنوعة ، ينبغي تجميعها ووضعها في قالبها الذي ربما لم يلق عليه ضوء كاف أو لم يلق عليه أي ضوء على الإطلاق ، لصعوبة موضوعها الذي لا يمكن يفهم بنجرد خوض غماره بسهولة ويسر بطرحه في مقالة أو حديث مقتظب ، ويحتاج إلى نقاشات موسعة وندوات مطولة وكتب أو أطروحات ، ومع ذلك فإنه لا مانع من التطرق إليها ، قدر الامكان ، ولو بعجالة من باب الفائدة والإطلاع ، ومحاولة تجنيب ويلاتها على أخلاق أولادنا خاصة في مراحل الصبى . إنها ال"جهنم " التي قال عنها الفيلسوف الفرنسي "سارتر" مقولته الشهيرة "الجحيم هم الآخرون " ، العبارة التي فيها الكثير من الصدق ، بل هي الصدق كله ، لمطابقتها مع ايقاع ما نحياه في هذا العصر وطبيعته المادية ، التي جعلت من التعامل مع الكثير ممن حولنا "الآخرون" حيثما وُجدوا - في السوق ، في الشارع ، وحتى في المسجد ، مع الأسف الشديد - جحيما لا يطاق من طقوس الكطب والادعاء والتزييف والشك والتوجس والغش والخديعة والنفاق والخيانة ، وغيرها من الأوصاف الشائنة ، والخصال الشرسة المتأصلة بشدة في طباع الغالبية العظمى تقريبا ، والمحفورة في وجدانهم ومشاعرهم التي تشكل مصدر كل تصرفاتهم وأقوالهم وأفعالهم وخصالهم المنكرة والقبيحة .. فما صدمني في من حولي من الناس وآلمني أشد الألم ، وجعلني – وأنا على يقين أننى لست وحدي ولن أكون الوحيد في هذا الوضع – أقف مشغولا مرتبكا وحائرا لحد الضيق والإختناق ، وأنا طفل صغير أحيا طفولتي الأولى مغموسة بفطرية وعفوية بسيطة بينهم , لا أعرف الكذب مطلقاً , ولا أمارس طقوس الغش والخديعة , ولم تكن لي أسرار ، ظاهري لا يختلف عن باطني ، وجوهري كمظهري ، هو تحول الكثير ممن يعيشون بين ظهرانينا إلى صور من تلك ال"جهنمات" التي حفرت ذكرياتها المرة على جدران وجداني النقي , وعلى سقف مشاعري السجية , وعلى أرض أحاسيسي الصادقة , بتصريفهم ما امتلأت به قلوبهم من الكذب والنفاق والخديعة ، وتشبعت به نفوسهم من الزيف والغش والخيانة والاستئثار والأنانية ، وشاغلت عقولهم ، وأعمت أبصارهم وبصائرهم ، وجعلت منهم مخلوقات منحدرة اجتماعيا ، لا تبالي بما يرى عقلها ، وتخالف ضميرها ، ولا تتوانى عن الاستحمام في وحل الخطيئة ، والغوص في مستنقعات الرذيلة ، مقابل إشباع أهوائها ومطامعها وتحقيق حاجاتها اولا وأخيرا ، متكيّفة مع كل الاوضاع مهما كانت حدة تقلباتها ، متقافزة من وضع الى وضع ، ببراعة البهلوان الحاذق المتمرس .. ورغم تعاظم مساحة تلك "الجهنم " ، وانتشارها في المجتمعات المنافق والمخادع بعض أهلها ، والتي إينما نظرت حولك ، إلا ووجدتها (جهنم) ماثلة أمامك في انفصامية الناس النكدة بين التحضر كمظاهر والتحضر كذوق وسلوك , ورأيتها قابعة قدامك في ازدواجيتهم المقيتة المتجلية في تظاهر الكثير منهم بالتخلق وإدعائهم التحضر والتمدن ، وإظهار غالبيتهم غير ما يبطنون , ويخالف ما يتخيلون ويضمرون .. فإني أحمد الله ، على أن فطرتي العصية على الإستيلاب والتدجين والمراوغة وسوء الظن , حمتني من ويلات الحربائية المتفشية ، وجعلتني أمقت السلوكيات الشاذة ، وأنفر من قيم التخلف الكامنة في النفوس المريضة ، وعززت إصراري وتمسكي بمنهجي في تحمل مسؤولياتي الأخلاقية والعقلية , تجاه من أحب وأحترم , ومن أختلف معه , أو من تضاد أفكاري ورؤاي وتصوراتي مع أفكاره ورؤاه وتصوراته . لعمري إن الأمر لشاق جدا ، أن يشعر المرء بأنه أصبح وحيدا غريبا في وطنه ، بل وأنه أصبح عنصراً شاذاً وسط جيش من ناس متشابهي الأفكار والتصرفات ، يشعر أن لا أحد يفهمه ، وكأنه من كوكب آخر ، يتحدث بلغة غريبة ، تصرخ بأعلى صوته ، فلا أحد يسمعه ، وكأن صوته أخرس ، أو كأنه بلا صوت بالمرة! . أليست هذه جهنم نكابد عذاباتها يوميا ولكنها تهون رغم قساوتها أمام هدف العيش بسلام مع النفس ومع من نحب ونصادق من الأهل والأحباب والأقرباء والمعارف .. [email protected]