مقالب ذكية وحيل داهية من نصب واحتيال، وتفنن في مصّ دماء الآخرين، والعيش والتقوّت على جراحهم، وسلب أموالهم حراما بالباطل،تبقى هي الأساليب الجديدة، والظاهرة الاجتماعية الخطيرة، التي أصبحت تتصدّر اليوم الواجهة في الجرائم الأكثر خطورة وانتشارا في المغرب، على صعيد كبير خاصّة بين صفوف الشباب العاطل، الباحث عن مستقبله الغابر المجهول. لقد أصبح من السائد الرابح والمريح، تقمّص جميع الأدوار، وتشخّيص مختلف المهن، في التغرير والخداع، والتمويه و النصب، وبيع الأوهام، والتجارة بآلام الباحثين عن عمل من الشباب والشابات. فبوسائل تلاعب شيطانية، وبطرق استغلال فادحة لسذاجتهم وثقتهم العمياء، مقابل مبالغ مادية هائلة، يستولون عليها منهم دون موجب حقّ، بلا كدّ وجهد أو تعب. أو باستخدامهم طرقا إلتوائية واحتيالية، للزجّ بضحاياهم في الغلط، وإيهامهم بمنافع وامتيازات وهمية من أجل الإطاحة بهم في الشبك. ولهذا السبب ومن أجله، اعتبر المشرّع المغربي النصب والاحتيال، فنّا من أدهى فنون الإجرام، يفوق خطورة جرائم الإنسان، كما خصّ لهما القانون الجنائي المغربي فصلين منفصلين: الفصل 540 والفصل 546 بأقصى العقوبات وأردع الأحكام. لم تكد فضائح عقود عمل الفتيات المغربيات في الخليج تخمد نارها في قلوبنا ، ولم تمحى آثار حروقها من ذاكرتنا بعد، حتى تعود الكرّة من جديد، وهذه المرّة على شباب في مقتبل العمر، صُدّروا على يد نفس سماسرة الأمس وبنفس الشاكلة والنوع، الذين لا يؤمنون بالدين ولا يحترمون المبادئ ولا يقدّرون الأخلاق، كما لا يهمهم عرض المغاربة ولا شرف الوطن. فهم تجّار مفلسون يبيعون فلذات أكبادهم بثمن بخس لا يصل إلى تعويض شرف الأمة أو سمعة الوطن، فهم الخاسرون الأولون والآخرون دنيا وآخرة،كما أن المال لا يعوّض الشرف، فهو كعود الثقاب لا يشتعل إلا مرّة واحدة. تمّت عملية النصب هذه المرّة بحقّ أربعة شبان في مقتبل العمر، أصغرهم لا يقلّ عن 23 سنة، وأكبرهم لا يتعدّى 27 سنة، كل من ربيع، محمد، يوسف، ومصطفى، وربّما أعداد المطاح بهم تفوق ذلك بكثير، وسوف تكشف لنا الأيام عن العديد منهم آجلا أم عاجلا،وسواء من قريب أو من بعيد. هؤلاء الشباب الطموح لصناعة مستقبلهم، والذين يرَوْنه ويلمسونه ممكنا وراء الحدود، حينما اشتدّ عليهم الخناق، وضاقت بهم سبل الأرزاق، وعظم أمامهم السباق، لحظة إغلاق كل أبواب الأمل داخل ربوع الوطن . أربعة شبان يسقطون مرة واحدة في فخّ التسفير، تحت مسمّى الهجرة لإيطاليا من أجل العمل الحلال، بوثائق وثبوتيات محرّفة، وتوقيع عقود تبث في الأخير أنها كلها فاسدة ومزيّفة، كلّفتهم 10.000 أورو لكل نفر منهم،بمجموع 40.000 أورو، باع فيها البعض منهم جلّ ما يملك، واستلف البعض الآخر من أهله ومعارفه وحسب معرفته. لم يكن أحد منهم يعلم قبل السفر إلى إيطاليا أنه قد اشترى الوهم والأمل،حتى قطع البحر وكان أمام مقرّ الشركة التي من المقرّر العمل فيها قبل يومين من الآن، بمركز مدينة "طالياكوتسو" حسب بيانات عقد العمل،ليفاجأ أن العنوان خطأ،والشركة وهمية لا أثر لها في سجل الشركات الإيطالية. ضاعت من أيديهم حينها جنة النجاة وخيرة الناس، وخاب ظنهم في وطن النجدة والخلاص،لما لم يجدوا لا سكنا لائقا غير محطة القطار، ولا عملا قارّا غير الشقاء المرّ والبؤس الحار، ولا راتبا شهريا عاليا غير ما تجود به عليهم الأقدار. في حين طارت من أيديهم 40.000 أورو كالسراب، واختفى عن الأنظار العقل المدبّر والوسيط والسمسار،ولم يبق لهم غير النوم في الخلاء، والصبر على ما أصابهم من نصب وبلاء، وما عليهم من لباس وكساء. مرّ على مصابهم يومان متتاليان لم يروا فيهما أحبابا ولا أصدقاء، يفترشون كراسي محطة القطار أسرّة للاسترخاء، لم ترى فيها عيونهم رمشة ولا نوم على رغم التعب وشدّة العياء، لا يفهمون اللغة الإيطالية وليست لهم نقود تقيهم شرّ البرد والجوع على السواء، لم يذوقوا طعاما خلال اليومين، مكْتفين بتبريد غيظهم وضيمهم وتثليج حسرتهم وندمهم بما تتكرّم به عليهم سقاية المحطة من جرعات باردة من الماء. لمّا اشتدّت عليهم القساوة وفراغ اليد في اليوم الثالث، ولم يقدروا على مقاومة الحياة الصعبة التي وقعوا فيها وخاصّة في وقت أزمة حصدت الأخضر واليابس من الشعب الإيطالي،قرّروا الإفصاح عن ظروفهم، وهم يعلمون أنهم سيهدّدون بالطرد، لأن العقود غير صالحة، ووضعيتهم غير شرعية، والقانون لا يعطف ولا يرحم،كما أنه لا يحمي المغفّلين، وهم يعتبرون لسوء الحظ مغفّلين. وعلى هذا السياق ،استعانوا بوسيط ثقافي لترجمة الحدث، ليشرحوا تفاصيل الواقعة لمحامي متخصص في قضايا الهجرة،لينقلها مجددا بالحرف الواحد إلى قائد الدرك السيد "لورينسو بيكوريلّا"، ليخبر بدوره قاضي التحقيق بمحكمة"طالياكوتسو"، ويفتح محضرا ضد المقاول المتهم الذي تعرّف إليه حسب بياناته الواردة في عقد العمل، هذا العقد المحدود في سبعة شهور عمل فقط. وتنتهي النازلة على هذا الحال، في انتظار ما تسفر عنه التحقيقات المستقبلية، وما تقوله كلمة القضاء الإيطالي في هذه القضية، بينما يشغل بالي السؤال الآتي: كيف استطاع هذا النصّاب الموافقة على صحة العقود في وزارتي الشغل والخارجية؟ وكيف صادقت عليه الدبلوماسية الإيطالية بالمغرب؟ وأسئلة أخرى تبقى عالقة بأذهاننا، لا نجد لها جوابا ولا يتقبّلها لا العقل ولا الصواب،فمن يحمي المواطنين من ذئاب النصب والاحتيال، إذا كان القانون في كل دوّل العالم لا يحمي المغفّلين، ونحن كلنا مغفّلون؟.