أصبحت القضية الفلسطينية لا تثار الا في المناسبات السنوية ، مثلها مثل اليوم العالمي لعيد من الأعياد المبتكرة ، كعيد الأم ، وعيد العشاق ...الخ . مما يثير تساؤلات كبيرة ، ويضع الجميع في قفص الاتهام . لكن هذه القضية بالذات ، تشهد تطورات غير مسبوقة في العالم الغربي ، كان آخرها ما أثارته جريدة "الفايننشال تايمز" قبل يومين ،من كون استراليا التي كانت قبل أشهر من الدول القليلة التي صوتت ضد مشروع عضوية الدولة الفلسطينية في هيأة الأممالمتحدة ، قد عبرت عن استيائها من سرعة ومدى توسيع المستعمرات الاسرائيلية فيما تبقى من الأراضي الفلسطينية . وهو نفس الانزعاج الذي عبرت عنه كثير من دول الاتحاد الأوروبي ، التي كانت الى عهد قريب تدعم كل مشاريع اسرائيل دون تحفظ . وقد كان للمأساة الانسانية للسجناء الفلسطينيين المضربين عن الطعام ، وعلى رأسهم سامر العيساوي ، باعتباره رمزا لأطول اضراب عن الطعام في التاريخ الانساني ، ولا يذكرنا هذا الا بأسطورة سيدنا داوود حين خر ساجدا لله في انتظار نزول الوحي كي يطمئن قلبه من خطإ أتاه بطبيعته البشرية ، مع اختلاف في السياق طبعا . فقد كان الفلسطيني سباقا دائما الى ابداع الأشكال الاحتجاجية في وجه آخر النظم العنصرية التي يشهدها العالم المعاصر ، ولعل معركة المصاري الفارغة هي معركة تأخذ طابع الملحمة الانسانية في تكثيف الصراع بين جسد فارغ من أسباب الحياة ، وبين نظام يمتلك أشرس الأسلحة وأحدثها . بين انسان لا يملك غير جسده كوطن يحتمي به ، وبين نظام مغتصب وعدواني توسعي ، وبين انسان لا يلوذ الا بحلمه كملجأ أخير ، وبين عصابة استحوذت على كل خيرات بلد أرضه من أطيب أرض الله . ان هذه التعارضات والتناقضات القصوى هي ما يمنح السجين والانسان الفلسطيني تلك الطاقة على ابداع أشكال غير مسبوقة في الاعلان عن تشبثه بالحياة ، وهو يضحك للموت في وجهه . لقد انتهكت اسرائيل كل الأعراف والمواثيق الدولية وهي تعيد أسر المفرج عنهم اثر اتفاق أممي أشرفت عليه مصر ، برعاية قطرية وأمريكية غير مباشرة . ورغم هذا الخرق الفادح لأبسط قواعد تبادل الأسرى في ظل اتفاقات دولية وسط مناخ كوني تهيمن عليه مفاهيم حقوق الانسان بمنظماته الدولية والاقليمية والقطرية ، فان دولة بحجم خرم ابرة في قماش عربي فضفاض استطاعت أن تملي قوانينها العنصرية وتنتهك الحرمات الدولية والانسانية ، وتعتقل من أفرجت عنهم مقابل الافراج عن أحد جنودها . وهنا نجدنا مصدومين ونحن نحاول تصور اعادة اعتقال "جلعاد شاليط " من قبل فصيل من الفصائل الفلسطينية . اذ منذ الدقائق الأولى سينفجر البيت الأبيض ووزارة خارجيته والناطق الرسمي باسمه يعلنون تنديدهم وشجبهم لهذا الاعتقال ، وسيهرع الاتحاد الأوروبي لركوب موجة التنديد والهجوم على البرابرة الذين اعتقلوا جنديا واحدا . وستغير جميع القنوات الفضائية خططها وبرامجها لتتحول الى بوق أسيادها كما هي العادة ، وعلى رأسها القنوات العربية . قمة الاستهتار بقيمة الانسان كانسان ، وذروة النفاق الذي لم يعد يجد له تصريفا في ذهنية الانسان المعاصر . فالسجناء الفلسطينيون الذين نتمنى لهم جميعا الخروج العاجل من غياهب السجون الاسرائيلية المشؤومة ،لا تجد لمأساتهم ذلك الصدى الكبير في الضمير الغربي كما هو شأن سجين اسرائيلي واحد . لكن القضية ليست هناك ، وانما هي تكمن هنا ، فأين هي قطر التي هرولت أيام بادلت الفصائل الفلسطينية الكيان الصهيوني ببعض من الأسلحة التي وصلت حدود تل أبيب ؟ وأين هي مصر راعية اتفاق الهدنة بين الطرفين بايعاز من الولاياتالمتحدةالأمريكية ؟ وأين ضمير أوباما الانسان الذي حاول أن يسوق في بداية دخوله البيت الأبيض لغة غير اللغة الملعونة التي خلفها سلفه بوش الابن ؟ وأين أمراء وملوك ورؤساء ووزراء خارجية العرب الذين تداعوا في أسرع قمة عربية تنعقد من أجل وقف الحرب الأخيرة بين المنظمات الفلسطينية واسرائيل ؟ . وأين الشعب العربي الذي لا يستفيق الا على هول النيران والمدافع والقصف ؟ ألا نستطيع التكاثف جميعنا من أجل وقف هذا المسلسل الرهيب من الترهيب واهدار انسانية الانسان وخرق حقوقه وسرقة الأراضي والاعتداء على الحجر والشجر ؟ . أستراليا استفاقت متأخرة ، ولعلها استفاقت أخيرا ، لكننا نحن العرب أصحاب الشأن ننام طول السنة أو أكثر لنستفيق على وقع هدير حرب أو نكسة .