كثيرا ما يسائلني قلمي، ويحرجني بسؤاله/اللغز المحير الذي طالما أرق نظّار المعرفة والنباهة، فيقول بعد تنهيدته المعهودة المرصعة بالحزن والألم التي أجهل دوافعها الخفية: "لماذا تكتب أنت وغيرك، وأنتم تعلمون مسبقاً أن لا أحد يقرأ لكم، أو يعي بوجودكم، إلا قلة قليلة من أصدقائكم والمقربين، والمعارف، ونخبة محدودة جداً من العاملين في ميدان الإعلام، وبعض المهتمين بشؤون الفكر والثقافة والرقباء وأصحاب الحال طبعا؟" فغالبا ما أتحير في الرد، لأنه ليس هناك من أحد يعرف الإجابة الدقيقة ، أو يستطيع أن يمنحه ردا قاطعاً ومحدداً حول الرغبة الجامحة في الكتابة والدوافع المحفزة لفعل الكتابة الذي يعلم كل من يرتكبه أنه زيادة على ندرة القراء أو انعدامهم، وإلى جانب كونها مغامرة غير محسوبة العواقب، فهي فعل مجرّم رغم قانونيته، قد يقود للنقد واللوم، أو للسجن، وربما للمشنقة، وأن الإقدامُ عليه ليس إلا عملا يعتمد فكرةَ الحمق والمغامرة المسكونة في كثير من الأحيان بمزيج من العقل والجنون والرغبة في تعرية المألوف وتجاوز المبتذل، ونبش كل ما عملت الأيام على ردمه وإخفائه وكشف جوانبه الأكثر ظلمة وعتمة، وكم هي المناطق المظلمة في ثقافتنا وفي واقع الكثير من نخبنا، مثقفين وساسة، الذين لا يحبّونَ الحقيقةَ، بل وتؤرِقُهم الحقائقُ وتمنعُ عنهم النومَ، فيكرهون الكتابة والكتاب ويُحفِّزون خلاياهم العقليةَ في البحث عن تعلاّتٍ، مهما كانت حمقاء، لإبعادِها وإبعادهم عن عالم الحقائقِ، ويجندون إمكاناتهم اللوجيستيكية لتصويبَ سِهامِ تفكيرِهم نحو أنْحُرِ الكُتّابِ العاريةِ، وخاصة منهم أولئك الذين يحسون بثقل أمانة الفكرة، وفريضة النصح، وواجب شهادة الحق، الذين يؤمنون إيمانا قاطعا بأن من يكتم الحقيقة هو آثم قلبه، أولئك الذين أسهب تولستوي في وصفهم بقوله: "(إنّ الكتّاب الخالدين الذين يهزّون نفوسنا لديهم هدف مباشر من الكتابة كالحرية والجمال، وآخرون لديهم أهداف أبعد كالتعريف بالله، وفلسفة الحياة والموت، وسعادة البشرية.. وأفضلهم أولئك الذين يصوّرون الحياة لا كما هي فحسب، بل كما ينبغي أن تكون)". وكأن مَنْ يمتهن الكتابة في هذا العصر الكتابة يصبح متَّهمًا حتى تثبُتَ براءتُه"، ويصير من يتهيأ لكتابَة حرف واحد، كمن يحشو قلمِه بالرصاص، ومن يكتبَ لفظةً أو جملةً تامّة المعنى فكالذي يشرعَ في القتلِ، والذي يكتب مقالة في الأخلاق أو السياسة ويصوّر من خلالها الحياة كما ينبغي أن تكون لا كما هي في الواقع، فذاك الذي يرتكب جريمة القتل. ورغم ما قيل عن الكتابة ودورها وقيمتها ودوافعها المختلفة حسب الأشخاص وظروفهم، وأن لكل كاتب دوافعه الخاصة، فإنها تبقى أنبل وأقدس فعل قام ويقوم به الإنسان، بل منهم من يرى أنّها رسالة نبوية، يبقى الكاتب خلالها كالقائد في عشيرته ومحيطه، كما في قول الفيلسوف بومجارتن: "(لا توجد وظيفة أكثر نبلاً من وظيفة الكاتب.. إنه الكائن الذي يقود.)" ومن أوجب واجباته والتزامه بعد إخلاصه النية لله تعالى ونبل مقصده، أن يكون مسؤولا أمام نفسه وقارئه، -الذي عليه أن يحترم عقله وذكاءه- يقدم له الرؤية الجديدة المحفزة على التفكير لاستنتاج الحلول والتوقعات الذائدة عن الحق والداحضة للباطل. لأن الكتابة ليست إعادة صياغة لأحاديث المقاهي ولا تسطير مفردات لغوية عديمة المدلول والمعنى والفكرة المعبرة عن مدى ثقافة الكاتب وحرفيته وقدرته على تقديم مادة ملتزمة بالمعايير الصحافية، اللغوية، الفكرية ،العلمية والأدبية تبعاً لنوع المادة ومعاييرها التي تكتسب التألق الذي يمايز بينها وبين غيرها من المهن والحرف الأخرى بما تنطوي عليه من إمكانيات هائلة للتجديد والاختراع وتجاوز المتعارف عليه ونبذ التقليدي المحافظ المتكلس، وإلا تحولت إلى اجترار وجمود وتكريس للموجود بدون أدنى تأثير في المتلقي والمحيط. ونجاح أي منتوج فكري لأي كاتب، ليس بعدد مقالاته وكتبه، ولا بحجم انبهار قرائه به، بل بأثره في المجتمع، وتأثيره في من حوله، وبحجم التغيير الذي يحدثه في محيطه، حيث أنه بإمكان أي كاتب أن يبهر قراءه، أو يثير انتباههم أو يشتته، بما يكتب، لكنه ليس سهلا عليه أبدا مهما بلغ من المهارة أن يؤثر فيهم بدون ارتباط كتاباته بالتأثيرات المجتمعية وردود أفعالها المعبر عنها بجمال الطلاقة والصدق والقوة المستندة على الإمتاع الذاتي الذي تستحيل الكتابة بدونه وبدون سمو الرغبة فيها وجموحها فوق كل الرغبات، -إذ ليس هناك أيسر من المتعة كدافع للكتابة عن غضب أو حزن أو ألم يلمّ بالإنسان فيبثّه على الورق ثم ينشره لتقرّ نفسه وتستقرّ- التي تتحول بدونها إلى مجرد فعل رتيب وممل، وتصبح مجرد طقس ومهمة ثقيلة على القلب والعقل تمارس بحكم العادة بدون إبداعية ولا فنية، لن تنجح أبدا في أداء رسالتها المقدسة، بل وتكون لها عواقب غير محمودة، خاصة حينما يتحوّل جُلّ ما يُكتب ويُنشر إعلامياً إلى مجالس غيبة مفتوحة على نطاق واسع، وذلك بسبب تلك الرغبة العارمة في اللذة والتنفيس التي تنتصر فيها سطوة الإمتاع والذاتية كفعل ذاتي محض، على حساب الإصلاح والتغيير وتبني مبادئ وشؤون الآخر المجتمعية أو الإنسانية والدفاع عنها كما لو أنها مبادئ الكاتب الشخصية التي لا تقتصر على الإمتاع الذاتي الذي يسعى من يجيد الهذيان الغوي الفارغ ويحسن تسطير المفردات ويوظف الأحاديث العامة ليقنع نفسه أنه أصبح كاتباً، كما قال أبو بكر محمد الصولي في هذا الإطار: حمار في الكتابة يدعيها...... كدعوى آل حرب من زياد فدع عنك الكتابة لست منها.......ولو عرفت ثوبك من المداد". وذلك لأن الكتابة مسؤولية قبل أن تكون مادة وفي هذا الخضم المتلاطم بهذه الكتابات المتنوعة، الصحفية أو سياسية أو أدبية أو علمية بشروطها الفنية المحددة، وأهدافها المختلفة التي يتكبد بسببها الكتاب والصحفيين والمفكرين والأكاديميين والروائيين كل أنواع الخسارات ويتجرعون من خلالها مختلف الرزايا في عالم لا يهتم بالإعلام ولا يحتفي بالأدب ولا يعير أدنى اهتمام للثقافة والمثقفين. سرعان ما يندفع الإنسان – المثقف والعادي- للتساؤل عن فحوى ومعنى ما نكتب وعن القيمة المعرفية والنظرية فيما نكتب، وعن الضرورة العملية لاستثمار فعل الكتابة في استنهاض شروط الكفاح الوطني والإنساني؟ والتحير أمام جدوى الكتابة ومآلاتها التي تدفع الصحفيين لكتابة المقالات وتأليف الروايات وعرض الكتب.. وتبقى أشد مفارقة في المشهد الثقافي والإبداعي، هي أنه لا يكاد أغلب الكتاب والروائيين والصحفيين الخروج من رزية تكاليف إصدار إنتاج، أو النجاة من تبعات نشر حقيقة، حتى تراهم يعاودون الكرة من جديد، وتجد الواحد منهم، يتحدث في زهو عن عمله الجديد بشغف الطفل وحب وحنان الأم، وسعادة العاشق.. ما يجعل أسئلة قلمي المحيرة، والتي يطرحها كلما استكتبته، وتبقى محايثةً ومؤرقةً في نفس الآن، لاسيما حين تكون النخب الثقافية والسياسية الصادقة مع الذات والآخر هي الأحرى بالإجابة عنها، وهي الأقدر على إعادة الاعتبار لدورها ومسوؤليتها في اختراق الحجب وتعرية أقنعة الزيف والضلال. لكن جل كتاباتها (النخب)-مع كل أسف الدنيا- التي تلقى رواجا شاسعا، وديوعا واسعا، هي كتابات لا تعبر في غالبيتها، إلا عن وجهة نظر السلطة، المنتصر/الأقوى، ولا تعمل سوى على تلميع صورة الساسة، وإخفاء فسادهم وعدم إظهارهم على صورهم الحقيقية دون تزويق أو ستر للحقيقة، وكأنها كتابات عمياء لا ترى ولا تبصر، ولا تنقل الحقيقة وتحول المتلقي إلى صامت طوال الوقت لا يتفاعل مع المادة الإعلامية، بخلاف غيرها من كتابات الهامش -كتابات المهزوم إن صح التعبير- المهملة والمنسية والمبعدة أو المجبرة على ذلك كله، بما تشكله على المفسدين من وطأة أشد من كل رصاص بنادق الدنيا ومدافعها. كما صرح يوما أحد القادة السياسيين المفوهين عن رأيه في كل أنواع الكتابة الأدبية والصحفية وحتى العلمية قائلا دون تردد أو وجل وأمام الملأ: أنه لو تسلم منصباً رفيعاً في البلاد، لمنع كل وسائل الإعلام المختلفة التي تنقل الحقيقة، لأن الحقيقة في عرفه وسياسته ضارة، كل الضرر، ضارة للوطن وللأمن والعيش المشترك، والتعتيم مفيد، وعلى الكتاب والإعلاميين ألا يقولوا الحقيقة، وإن رأوها، ويجب عليهم أن يعمدوا إلى إخفائها، وإن بدت كالشمس في وسط السماء، لأن الجهل بالحقائق أدعى للسلامة، كما في المثل الدارج " لا عين شافت، ولا قلب أوجع" أو " ما في الهم غير اللي كيفهم" . وهو وأمثاله لا يريدون للأمة أن تفهم !!.