لا يجب أن تأخذنا فورة النقاشات الدائرة حاليا ، حول مشروع الدستور المغربي الجديد وما آتى به من تعديلات تكاد تكون جذرية في هندستها وصياغتها بالنظر لدستور 1996 ، اعتبر معه البعض أننا ندخل عهدا ملكيا جديداً ، و تجربة مغربية فريدة في الانتقال الديمقراطي و تكريس دولة الحق و القانون و المؤسسات ، دون أن نعي أننا نقطع شوطاً طويلا من مسيرة سياسية معقدة ، ابتدأت وللذاكرة فقط منذ عهد الحسن الأول ، مسيرة الصراع بين الإصلاح و بناء الدولة العصرية و الحديثة وبين قوى التقليد و الارتكاس و الهدم ، الذين لم يكونوا سوى بعض رجالات الدولة الذين جعلوا من الفساد شعارا لهم ومن الاختلاس وعرقلة تطور البلاد ديدنهم ، بدأً بالصدر الأعظم باحماد بنموسى الذي كانت سياسته الاستبدادية و وحملاته القمعية وبالا وخرابا على المغرب و إيذانا بالاحتلال الأجنبي الفرنسي الذي دام أربعين سنة ، وترك خلالها أثاراً لا تمحى في نظامنا السياسي و الإداري و الاقتصادي وهويتنا اللغوية ، ثم بالكلاوي الذي لم يألو جهدا في مد يد العون للمحتلين من أجل محاربة الحركة الوطنية و الملك محمد الخامس ، ثم بعد نيل الاستقلال بأشخاص كأوفقير و المذبوح و غيرهم قضوا ورحلوا إلى الركن المظلم من تاريخ المغاربة ، وصولا إلى زمرة المختلسين و المبذرين للمال العام الذين نخروا مؤسسات الدولة ، و عرقلوا مشاريع التنمية ورفعوا معدلات المحسوبية و الزبونية و الفساد الإداري و جعلوا المغرب يحتل مواقع جد مهمة في أسفل الترتيب الدولي لمحاربة الرشوة وشقائقها من ظواهر الفساد الإداري و السياسي. لا ينبغي أن يأخذنا النقاش دون أن نقف متأملين للحظة في بعديها الوطني و الإقليمي العربي ، لحظة الزمن الدستوري والحراك الشعبي ، وأن نطرح التساؤل عنها في حد ذاتها ، إن كانت لحظة حقيقة في زمن جمعي قومي عربي ، مزج بين الثورة و الاحتجاج و دعوات الإصلاح ، لم نكن ببعيدين عنه في السياق و الإشكالات و الممارسة ، مع خصوصية محلية يصر الكثير منا اليوم على اعتبارها استثناءاً و تميزاً ، عن أنظمة سياسية راكمت الكوارث على بلدانها ، وخانت ثوابتها الجمهورية و القومية دون مداراة أو تكتم ، وهي التي كانت ترفع شعارات تقدمية و قومية طليعية حتى أصبحت الجمهوريات ، جمهولكيات استبدادية ، و القائد الثوري الذي كان ينادي بالأمس إلى وحدة إفريقيا و تحرر الشعوب ، إلى وحش الأدغال والى قاتل دموي خطير لشعبه . مما لا شك فيه أننا نعيش اليوم لحظة فارقة في تاريخنا السياسي ، لحظة الزمن الدستوري بكل حمولاتها الايجابية ومضامينها الراقية ، التي طالما انتظرها الشعب المغربي طويلا من أجل تتويج مسيرة ملئى بالنضال والمطالبات كي نتوفر على نظام ديمقراطي حقيق بالمغاربة لحظة نمر من مخاضها اليوم نحو الديمقراطية على النموذج المغربي ، المتخم بأسئلة الهوية و القيم ، بين التعددية و الثوابت بين الأصالة والحداثة ، بين الملكية القائمة على البيعة ذات النمط التقليدي ، و الطقوس المخزنية العريقة إلى الملكية الدستورية البرلمانية التي تقوم على التشاركية في التدبير على المستويات السياسية و التنموية ، وعلى الملكية المواطنة و الملك المواطن كما جاء في الخطاب السامي . فبعد قرن من الزمن يعود المغاربة بكل فئاتهم ليفتحوا موضوع الدستور ، بكل صخبه ونقاشاته وبكل ما سيحمله من تغيير للدولة و المجتمع و المواطن ، فقد كتب الأستاذ علال الفاسي في مؤلفه الحركات الاستقلالية في المغرب العربي وهو يتحدث عن حالة المغاربة بعد نشر دستور لسان المغرب لسنة 1908 ( وتسود البلاد روح صوفية في الدين و القومية ، وتمتزج العادات الطرقية بالرغبة في الإصلاح السياسي إلى حد أن بعض المرتزقة من قراء المولد يضطرون لاستعمال كلمة دستور في قصة المولد النبوي بجانب التصلية التي كان يرددها الجمهور ، فيقرأ الفاصلة من فواصل المولد ، ويردد معه الجمهور ، دستور ياألله ....دستور يا رسول الله ، وهكذا تتصوف الدعوة و السياسة لتكوين الروحانية الشعبية ...) إن ما يسود المغرب في هذه اللحظة ، هي الرغبة العميقة لدى الجميع أحزابا وهيئات سياسية ونقابية و جمعوية في التغيير و المضي بالمغرب قدما نحو بر الأمان ، الذي يضمن سلمه الاجتماعي و استقراره السياسي ، وفي مقدمتهم جلالة الملك الشاب الذي يظهر في كل مناسبة عن مدى تقدميته و بعد نظره وعن رغبته الأكيدة في رفعة هذا الشعب و تطوره . ونحن أمام استحقاق الاستفتاء على الدستور الجديد ، لن ننسى أن نشير إلى أن هدف حركة الاحتجاج التي تنزل إلى الشارع كل يوم أحد ، حتى وإن حادت في بعض شعاراتها عن هدفها الذي تعبئت له منذ 20 فبراير ككل الحركات المبتدئة في حقل الممارسة السياسية ، ذات المشارب المختلفة إيديولوجيا و منهجيا ، إلا أن همها الأكبر كان إسقاط الفساد الذي هو المطلب الأساسي للمغاربة منذ قرن من الزمن كذلك ، فما أوقعنا في فتن ما قبل الحماية لم يكن شيئا آخر غير الفساد ، وما أوقع بنا بين فكي الاستعمار لم يكن شيئا آخر سوى الفساد ، وما عطل مسيرتنا التنموية لم يكن شيئا سوى الفساد ، فساد الذهنيات و الأيادي و الممارسات ، التي يجب على من يقومون بأعباء التدبير العمومي أن يقطعوا معها نهائيا ، تطبيقا للإرادة الملكية في تخليق الحياة العامة ، وحتى يكون مشروع الدستور الجديد علامة على القطع مع جميع ممارسات العهد الماضي المغلوطة .