بلبل تطوان مَن منا لا يحترق شوقا، وينكوي حنينا وعشقا لمعرفة موسيقى أسلافنا كتلك الأنغام التي تغنى بها زرياب في الاندلس مثلا، أو تلك الألحان الساحرة التي عزفها الفرابي على مسمع قوم فأضحكهم، ومرة ثانية عزف لهم فأبكاهم، وأخيرا أطربهم فأنامهم، تركهم نيام وانصرف ؟ أي حوار دار بينه وبين عوده ؟ أي نغم ولحن هذا الذي استطاع أن يضحك به المتفرجين ويبكيهم وينيمهم ؟ أي سحر هذا الذي لم نسمع مثيله في التاريخ ؟ شيء غريب حقا، وليت الفرابي ومعاصريه دوّنوا لنا تلك الألحان السحرية التي لم يصلنا منها أي شيء، إلا بعض الموشحات الأندلسية التي وصلتنا مؤخرا عن طريق الحفظ والذاكرة ، نقلا جيل عن جيل، من فم الى أذن، ويعلم الله ما فعلته أيادي التحريف والتشويه في غياب لغة التدوين الموسيقي عبر تلك العهود الطويلة
ومن فينا ينكر تلك الجهود المضنية التي بذلها الفنان الراحل عبد الصادق اشقارة في مجال اختصاصه لعقود طويلة، مما أضافه للمشهد الثقافي الغنائي والموسيقي المغربي ومما ضخه من حيوية ملموسة في فنونه وفنون عصره التي قام بتسجيلها وتدوينها ووضعها أمانة فنية وثقافية وحضارية في عنق الخلف ؟ إنه بهذه الجهود قد قدم للأجيال القادمة رسالة فنية وخدمة تاريخية جليلة تستحق الثناء والاحترام والتقدير، وأسس مرجعية لعشاق الفن الأصيل يعود اليها طلبة المعاهد الموسيقية وذوي الالمام الموسيقي، ونحن نصون له جهوده ونثمنها ونعتز بها
في مدينة تطوان العتيقة، حي البلد، أو الجامع الكبير كما يحلو للبعض أن يسميها، هنا حيث الاحترام والمحبة والأخلاق الجميلة شيمة من شيم سكان الحارة الذين يعيشون على نظام اجتماعي اشتراكي تضامني، دون الحاجة الى نظرية الشيخ كارل ماركس، في هذه الحارة القديمة وفي هذا الدفء الانساني الحميمي، ولد بلبل تطوان، الفتى عبد الصادق اشقارة سنة 1931، ولم يكن أهل الحارة يعلمون أن فتاهم سيصاب بحمى الفنون الموسيقية الكامنة في تراث الأسلاف، وأنه سيكون غواصا في خباياها ليصبح في يوم من الأيام شاديا للألحان، وملحنا وعازفا للكمان، وأن نغمات آلته ونبرات صوته الجهاركي وألحانه في آثارها السحرية، ستنشي النفوس وتراقص وجدان الملوك والبسطاء داخل المغرب وخارجه
التحق عبد الصادق اشقارة بالمعهد الموسيقي بمدينة تطوان وهو في السادسة عشرة من عمره، وتتلمذ على يد خيرة أساتذة الموسيقى بمدينة تطوان، منهم ابن حارته العربي الغازي ومحمد العربي التمسماني، وأحمد الدريدب، والعياشي الوراكلي وغيرهم، وبعد عشر سنوات من الدراسة المتواصلة والبحث والتنقيب في الفنون المغربية الأصيلة، انتهت بتأسيسه لجوق المعهد الموسيقي بتطوان إبان استقلال المغرب، وسنة بعدها توّج بجائزة أحسن عازف للكمان في المغرب، حيث ساهم بعدها في المشروع الطويل لتسجيل النوبات الإحدى عشر للموسيقى الأندلسية على الأقراص المدمجة، وفي الوقت ذاته حصل على شهادة حقوق المؤلفين في مدينة باريس الفرنسية، ووشح صدره بوسام العرش ووسام الرضى من درجة فارس
إن مسيرة عبد الصادق اشقارة الفنية حافلة بالعطاءات الإبداعية، فهو لم يقتصر على إثراء الساحة الفنية الموسيقية في المغرب فحسب، بل عبر الحدود بفنونه الى الضفة الأخرى، وكأنه بلغة الموسيقى يقول للإنسان الأندلسي : شيء منكم فيني، وشيء مني فيكم، وشيئ ما، عمل على توئيم قرطبة وتطوان اسألوا زهور الغاردينيا والياسمين في جنة العريف، واستمعوا الى هذه النغمات القادمة من نبض الانسان في قلب تطوان وعجبا، عجبا كيف سادت اللغة الموسيقية التي لا تعرف الاهانة او التجريح، في اقامة علاقة التواصل الايجابي والفعال بين الانسان وأخيه الانسان، وقد رأينا حنين اللقاء الذي سادته لغة العشق الموسيقي في قالبها الفني والابداعي بين الفنان التطواني عبد الصادق اشقارة والفنان الاندلسي ريكي مورينتيس في قطعة " بنت بلادي " حيث التقي مقام السيكاه ومقام العجم لقاء غيمتين فرقتهما أعاريج الرياح، فذابا في بعضهما وتلاقحا بتآلف وتناغم، فولدا غيثا من الانسجام الروحي والجسدي ترجمته راقصة الفلامينكو الغجرية كلارا بدبكة قدميها وحركات أصابعها، وكأنها تشرح لنا تراجيديا الماضي بلغة الروح والجسد
لم يكتف فناننا عبد الصادق اشقارة بتزواج الفنون الموسيقية مع فناني الأندلس أمثال مورينتيس وإبنته، والبيريخانو، وبيبي هيريديا، بل كانت له مشاركات عديدة في الكثير من الملتقيات والمهرجانات الدولية، كمشاركته الفنية مع عازف أم الآلات البيانو، الموسيقار البريطاني مايكل نيومان، ونذكر مشاركته في سبعينات القرن الماضي في المهرجان الموسيقي بلندن بحضور ملكة بريطانيا، ومشاركته في السهرة المشتركة مع حاييم لوك في فرنسا، كان بفنه سفيرا لوطنه في جميع المحافل الدولية، شرف فنه ومدينته ووطنه أحسن تشريف ورفع علم بلاده عاليا، ولم يستبق جهدا إلا وصبه في هذا المشروع الحضاري، ولي اليقين، لو كان عازف الكمان اشقارة فرنسيا أو بريطانيا أو سويديا، لكرموه أيما تكريم، ونحتوا له تمثالا وسموا بإسمه زنقة أو ساحة، وفتحوا له مكتبة أو مؤسسة جمعاوية تعتني بفنونه وتجنبها من الضياع والتلف، وتحفظها من السرقة والتقليد الأعمى الذي يشوه الفن والإنسان معا، لكن شادي الألحان عبد الصادق اشقارة ليس من بلد يقدس التماثيل، هو مغربي، ويبقى السؤال المطروح : إن لم يقصر عبد الصادق اشقارة طوال حياته في حق فنه ووطنه ومواطنيه فهل أعطيناه نحن أبناء هذا الوطن حقه ؟
عاش عبد الصادق اشقارة عقودا بيننا، بلبلا مغردا بأعذب الألحان، ونجما متألقا في سماء تطوان ولما كانت النجوم في السماء تهوى عند نفاذ وقودها النووية، فإن الأحياء فوق الأرض تهوى عند فقدان طاقتها الجسمانية، فارقته روحه وفارقنا رحمه الله مساء السبت 30 اكتوبر 1998، فإلى هذه الروح الطاهرة اهدي هذه الكلمات
ولقد شدوتَ شَدْوَ البلابلِ يا صدّاح فأضْرَمتَ بالشّدا نيرانَ الهوى فوق الشّفاهِ الراعشات حتى آخر نوبةٍ من نوبات الوجود
غنيتَ أنغامَ السّيكاه والبيات الصّبا والنّوأثر وكل المقامات ردّدتَ براويل العشاق مواويل الحيارى وآهات الحزانى رتّلتَ حُلو الرّاح وراحة الأرواح في القلوب النابضات غنيتَ آمال الجميع حتى آخر نومةٍ في صمتِ هذا الخلود
مَن منا لا يحترق شوقا، وينكوي حنينا وعشقا لمعرفة موسيقى أسلافنا كتلك الأنغام التي تغنى بها زرياب في الاندلس مثلا، أو تلك الألحان الساحرة التي عزفها الفرابي على مسمع قوم فأضحكهم، ومرة ثانية عزف لهم فأبكاهم، وأخيرا أطربهم فأنامهم، تركهم نيام وانصرف ؟ أي حوار دار بينه وبين عوده ؟ أي نغم ولحن هذا الذي استطاع أن يضحك به المتفرجين ويبكيهم وينيمهم ؟ أي سحر هذا الذي لم نسمع مثيله في التاريخ ؟ شيء غريب حقا، وليت الفرابي ومعاصريه دوّنوا لنا تلك الألحان السحرية التي لم يصلنا منها أي شيء، إلا بعض الموشحات الأندلسية التي وصلتنا مؤخرا عن طريق الحفظ والذاكرة ، نقلا جيل عن جيل، من فم الى أذن، ويعلم الله ما فعلته أيادي التحريف والتشويه في غياب لغة التدوين الموسيقي عبر تلك العهود الطويلة
ومن فينا ينكر تلك الجهود المضنية التي بذلها الفنان الراحل عبد الصادق اشقارة في مجال اختصاصه لعقود طويلة، مما أضافه للمشهد الثقافي الغنائي والموسيقي المغربي ومما ضخه من حيوية ملموسة في فنونه وفنون عصره التي قام بتسجيلها وتدوينها ووضعها أمانة فنية وثقافية وحضارية في عنق الخلف ؟ إنه بهذه الجهود قد قدم للأجيال القادمة رسالة فنية وخدمة تاريخية جليلة تستحق الثناء والاحترام والتقدير، وأسس مرجعية لعشاق الفن الأصيل يعود اليها طلبة المعاهد الموسيقية وذوي الالمام الموسيقي، ونحن نصون له جهوده ونثمنها ونعتز بها
في مدينة تطوان العتيقة، حي البلد، أو الجامع الكبير كما يحلو للبعض أن يسميها، هنا حيث الاحترام والمحبة والأخلاق الجميلة شيمة من شيم سكان الحارة الذين يعيشون على نظام اجتماعي اشتراكي تضامني، دون الحاجة الى نظرية الشيخ كارل ماركس، في هذه الحارة القديمة وفي هذا الدفء الانساني الحميمي، ولد بلبل تطوان، الفتى عبد الصادق اشقارة سنة 1931، ولم يكن أهل الحارة يعلمون أن فتاهم سيصاب بحمى الفنون الموسيقية الكامنة في تراث الأسلاف، وأنه سيكون غواصا في خباياها ليصبح في يوم من الأيام شاديا للألحان، وملحنا وعازفا للكمان، وأن نغمات آلته ونبرات صوته الجهاركي وألحانه في آثارها السحرية، ستنشي النفوس وتراقص وجدان الملوك والبسطاء داخل المغرب وخارجه
التحق عبد الصادق اشقارة بالمعهد الموسيقي بمدينة تطوان وهو في السادسة عشرة من عمره، وتتلمذ على يد خيرة أساتذة الموسيقى بمدينة تطوان، منهم ابن حارته العربي الغازي ومحمد العربي التمسماني، وأحمد الدريدب، والعياشي الوراكلي وغيرهم، وبعد عشر سنوات من الدراسة المتواصلة والبحث والتنقيب في الفنون المغربية الأصيلة، انتهت بتأسيسه لجوق المعهد الموسيقي بتطوان إبان استقلال المغرب، وسنة بعدها توّج بجائزة أحسن عازف للكمان في المغرب، حيث ساهم بعدها في المشروع الطويل لتسجيل النوبات الإحدى عشر للموسيقى الأندلسية على الأقراص المدمجة، وفي الوقت ذاته حصل على شهادة حقوق المؤلفين في مدينة باريس الفرنسية، ووشح صدره بوسام العرش ووسام الرضى من درجة فارس
إن مسيرة عبد الصادق اشقارة الفنية حافلة بالعطاءات الإبداعية، فهو لم يقتصر على إثراء الساحة الفنية الموسيقية في المغرب فحسب، بل عبر الحدود بفنونه الى الضفة الأخرى، وكأنه بلغة الموسيقى يقول للإنسان الأندلسي : شيء منكم فيني، وشيء مني فيكم، وشيئ ما، عمل على توئيم قرطبة وتطوان اسألوا زهور الغاردينيا والياسمين في جنة العريف، واستمعوا الى هذه النغمات القادمة من نبض الانسان في قلب تطوان وعجبا، عجبا كيف سادت اللغة الموسيقية التي لا تعرف الاهانة او التجريح، في اقامة علاقة التواصل الايجابي والفعال بين الانسان وأخيه الانسان، وقد رأينا حنين اللقاء الذي سادته لغة العشق الموسيقي في قالبها الفني والابداعي بين الفنان التطواني عبد الصادق اشقارة والفنان الاندلسي ريكي مورينتيس في قطعة " بنت بلادي " حيث التقي مقام السيكاه ومقام العجم لقاء غيمتين فرقتهما أعاريج الرياح، فذابا في بعضهما وتلاقحا بتآلف وتناغم، فولدا غيثا من الانسجام الروحي والجسدي ترجمته راقصة الفلامينكو الغجرية كلارا بدبكة قدميها وحركات أصابعها، وكأنها تشرح لنا تراجيديا الماضي بلغة الروح والجسد
لم يكتف فناننا عبد الصادق اشقارة بتزواج الفنون الموسيقية مع فناني الأندلس أمثال مورينتيس وإبنته، والبيريخانو، وبيبي هيريديا، بل كانت له مشاركات عديدة في الكثير من الملتقيات والمهرجانات الدولية، كمشاركته الفنية مع عازف أم الآلات البيانو، الموسيقار البريطاني مايكل نيومان، ونذكر مشاركته في سبعينات القرن الماضي في المهرجان الموسيقي بلندن بحضور ملكة بريطانيا، ومشاركته في السهرة المشتركة مع حاييم لوك في فرنسا، كان بفنه سفيرا لوطنه في جميع المحافل الدولية، شرف فنه ومدينته ووطنه أحسن تشريف ورفع علم بلاده عاليا، ولم يستبق جهدا إلا وصبه في هذا المشروع الحضاري، ولي اليقين، لو كان عازف الكمان اشقارة فرنسيا أو بريطانيا أو سويديا، لكرموه أيما تكريم، ونحتوا له تمثالا وسموا بإسمه زنقة أو ساحة، وفتحوا له مكتبة أو مؤسسة جمعاوية تعتني بفنونه وتجنبها من الضياع والتلف، وتحفظها من السرقة والتقليد الأعمى الذي يشوه الفن والإنسان معا، لكن شادي الألحان عبد الصادق اشقارة ليس من بلد يقدس التماثيل، هو مغربي، ويبقى السؤال المطروح : إن لم يقصر عبد الصادق اشقارة طوال حياته في حق فنه ووطنه ومواطنيه فهل أعطيناه نحن أبناء هذا الوطن حقه ؟
عاش عبد الصادق اشقارة عقودا بيننا، بلبلا مغردا بأعذب الألحان، ونجما متألقا في سماء تطوان ولما كانت النجوم في السماء تهوى عند نفاذ وقودها النووية، فإن الأحياء فوق الأرض تهوى عند فقدان طاقتها الجسمانية، فارقته روحه وفارقنا رحمه الله مساء السبت 30 اكتوبر 1998، فإلى هذه الروح الطاهرة اهدي هذه الكلمات
ولقد شدوتَ شَدْوَ البلابلِ يا صدّاح فأضْرَمتَ بالشّدا نيرانَ الهوى فوق الشّفاهِ الراعشات حتى آخر نوبةٍ من نوبات الوجود
غنيتَ أنغامَ السّيكاه والبيات الصّبا والنّوأثر وكل المقامات ردّدتَ براويل العشاق مواويل الحيارى وآهات الحزانى رتّلتَ حُلو الرّاح وراحة الأرواح في القلوب النابضات غنيتَ آمال الجميع حتى آخر نومةٍ في صمتِ هذا الخلود