بقلم: ذ. محمد عادل التريكي ما من أحد يتجاهل أننا نعيش، في مطلع القرن الحادي والعشرين، حقبة من القطيعة، والتصدع، ومن إعادة تركيب عام للقوى الجيواستراتيجية وكذلك الصور الاجتماعية والقطاعات الاقتصادية، والعلائم الثقافية. حقبة تُخَلِّفُ الإنذارات والاضطرابات في كل مكان، بالأمل الكبير وب "نظام دولي جديد". وهذا وكما نعلم، فقد وُلِدَ ميتاً، كما هو عليه الحال في الوقت الحاضر. ويتساءل البعض، فيما إذا كانت مجتمعاتنا تتوجه نحو الفوضى، كما كان عليه الأمر في الحقبات السابقة. فيمكن لكل واحد أن يقدر أن الريبة، قد أصبحت اليقين الوحيد؛ منذ فجر الألفية الثالثة. وبأن نوعاً من الشؤم العالمي يتدفق في جو من التذمر العام، ومن خيبات الأمل. فبعد أكثر من واحد وعشرين عاماً على سقوط جدار برلين، وأكثر من عشرين عاماً على حرب الخليج، الثانية، وأزيد من ثماني أعوام على احتلال العراق، وبعد تصدع الاتحاد السوفياتي، فإن التفاؤل بمستقبل جديد يسود فيه العدل والسلام قد انتهى إلى الفشل الذريع. إذ ينظر المواطن في كل مكان، وهو يتفحص المستقبل، ويستشف الأحداث، فلا يجد سوى الرعب، عند رؤية صعود قوى الفوضى والشذوذ في كل مكان إلى مواقع المسؤولية وأخذ عمر كوكبنا الأرضي، حيث نجد أنفسنا في منطلقه، أخذ يبدو كأنه أصبح مجهولاً، ومليئاً بالأخطار وبالتهديدات. لقد سعى الغرب بإصرار، خلال عقود من الزمن، على العمل إلى انهيار الأنظمة الشيوعية وتدمير الاتحاد السوفياتي. وأصبح من المفروض أن يصبح الجو العام، جو عدل، وفرح بالانتصار المزعوم، بعد أن تحققت تلك الأهداف. لكن لم يتحقق أي شيء من هذا. فقد تحول ذلك الانتصار المفاجئ، إلى درجة ما يشبه القلق؛ "فنحن الآن، أمام عالم، أكثر غموضاً، ومن أي وقت مضى" حسبما اعترف بذلك، روبرت غرافز (ROBERT GRAVES) المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية (CIA). فكيف تم الوصول إلى ذلك؟ لقد وضعت الاضطرابات في السنوات الأخيرة المجتمعات على مفترق طرق، جوهرية، في المجالات المتعدّدة أو في المجالات الأكثر تنوعاً. وأخذت الفوضى الواسعة تشوش المشهد الجيوسياسي، منذ نهاية الحرب الباردة، وأخذ الكل يتساءل إلى أين يتجه العالم. إنه يريد أن يفهم. ماذا يجري؟ ولماذا وصل العالم إلى هذه المآزق وما هو دور الإنسان الواعي وكيف يكون لمتابعة الحضارة الإنسانية؟ لقد تحقق المواطنون من عجز الحكام السياسيين أمام تحليل وتوضيح أبعاد وطبيعة الأزمة المعاصرة. إذ ما من أحد يبدو أنه على قدرة أن يتحقق من وجود مبدأ يصلح، للعصر الجديد، الذي دخله العالم، بعد انهيار النظام الشيوعي. وبأنه يحقق لهذا العالم أشكالاً جديدة من التفكير لتحقيق السلام والعدل. فقد جرت أحداث ذات مدى واسع، على المستوى العالمي، منها توحيد ألمانيا، واختفاء الأنظمة الشيوعية في بلدان شرق أوربا، وانهيار الاتحاد السوفياتي "حيث لا تزال الأسباب مُلَغَّزَة"، وأزمات الأممالمتحدة، وتفرّد الولاياتالمتحدة بالشؤون الدولية، وإلغاء العنصرية في جنوب إفريقيا، وانتهاء "الحروب الضعيفة الشدة" السلفادور، نيكاراغوا، أنجولا، أفغانستان، كامبودجيا، العراق... إلخ". وقيام تبدلات جذرية في بعض المناطق، مثل إثيوبيا، غينيا، الجزائر، والتشيلي، ونهاية نظام موبوتو في الكونغو زائير... كما جرى الاعتراف المتبادل بين الفلسطينيين، والكيان الصهيوني في فلسطينالمحتلة، لكن ذلك، لم يتحقق من حيث الواقع، ثم النهضة الصينية، وعودة هونغ كونغ للصين، وبروز الهند كقوة إقليمية ذات أبعاد متزايدة... إلخ. أحداث أخرى. ذات وتيرة أبطأ، لكن ذات أبعاد ضخمة، مثل متابعة بناء أوربا، وممارسة نفوذ حاسم من قبلها، على التدفق العام في الحياة السياسية العالمية، أحداث سلاسل من القلاقل المتزايدة. لقد جاءت هذه التغيرات لتضاف إلى التغيرات ذات الأبعاد الواسعة، التي قلبت، خلال هذا العقد الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، قلبت أسس تنظيم العمل وطرق الإنتاج، عن طريق الإدخال المكثف للمعلوماتية وتكنولوجيات جديدة على الاتصالات في المعامل والمشروعات والمؤسسات. وتشجعنا نهاية الحرب الباردة، والتغيرات الجارية المجددة للفكر من الأغلال الأيديولوجية، والوفاء المفروض كل ذلك يشجعنا على فهم أفضل للعالم الحقيقي، فهماً خارجاً عن العقائد والمبادئ والمخططات الثقافية المدرسية. وتتوافق هذه الحقبة الاستثنائية مع تغير حقيقي للعصر. ويحدث هذا غماً جديداً في الغرب، وقلقاً عميقاً في المجتمعات المتطورة. نظراً إلى أن لا أحد يعرف ما الذي سيشبه العصر الجديد الذي بدأ حيث أكد ألكسندر كينغ (ALEXANDER KING): الشريك المؤسس لنادي روما، قائلاً: «نحن بين ظهراني عملية طويلة وشاقة مؤدية إلى ظهور، مجتمع شمولي، تحت شكل أو آخر، من غير الممكن تصور البنية المحتملة، للآن». لقد انتهى عصر الأبطال. ويُعْرَف الآن أن كل شيء متوافق وفي الوقت نفسه، كل شيء متعارض. وبأنه على النظام الدولي الجديد أن يشمل الجميع، وأن لا يستثني أي شيء من حقل عمله: في السياسة، والاقتصاد، والمجتمع، وبالثقافة والبيئة. لكن لقد أصبح العالم، وبكل وضوح، حقلاً رحباً، إلى حد بعيد، بالنسبة إلى طموحات الولاياتالمتحدة المهيمنة، حتى بعد انتصاراتها الساحقة في المجالات العسكرية في حروبها في أفغانستان وفي العراق، وسحق شعوبها، واحتلال أراضيها: «إن وضع الولاياتالمتحدة وضع عجيب» كما يلاحظ ذلك آرثر شليسنجر (ARTHUR SCHLESINGER)، المستشار السابق للرئيس كندي حيث يقول أيضاً: «إن الولاياتالمتحدة قوة فائقة، أو أعظم قوة SUPER PUISSANCE عسكرياً، لكنها عاجزة عن الاضطلاع بتكاليف حروبها الخاصة طبقاً لاستراتيجيتها وأطماع قادتها إذن حتى لا تستطيع أن تؤمن لنفسها مستقبلاً كبيراً كأعظم قوة، عندما تقرر العمل لوحدها، أو عندما يتخلى عنها حلفاؤها، مع ذلك، فإننا لسنا على مقدرة على أن نحكم العالم...» في الواقع، يتعارض مشروع توحيد العالم تحت قيادة واشنطن بشدة، مع ما حققته شعوب العالم، من ذاتيات خاصة وطنية وقومية، ودينية، وعرقية... فجميع هذه القوى التاريخية، مجمدة أو مسمرة منذ زمن طويل، بتوازن الرعب، وبأنها اليوم تنطلق من جديد بما يشبه السيل الجارف في بداية القرن الحادي والعشرين. ولا تبدو الأممالمتحدة، التي أسست على إثر الحرب العالمية الثانية، مثلها مثل جميع المؤسسات الدولية، فلا تبدو أنها قد تكيفت مع عنف الهزات الجديدة التي تصيبها. وهنا أيضاً، فقد انهار الأمل بعالم أكثر عدلاً، يُحْكَم من قبل منظمة الأممالمتحدة بتناغم واحد، لقد سقطت. خاصة بعد الفشل في الصومال وفي أنغولا، وفي البوسنة والهرسك، وفي رواندا، وأخيراً وليس آخراً، في تفرد الولاياتالمتحدة بشنها الحرب على العراق واحتلال أراضيه ونهب خيراته، وكنوزه التاريخية، دون إذن من مجلس الأمن، ورقة التوت، التي تستر بها عوراتها بعض الأحيان. أما في نطاق الأممالمتحدة، فإن ألمانيا واليابان لا تخفيان طموحاتهما بعد سنيّ التمهل والصبر، حيث ترغب كل منهما بمقعد العضوية الكاملة في مجلس الأمن، وبالطريقة نفسها، كالولاياتالمتحدة، أو روسيا، أو المملكة المتحدة، أو فرنسا، أو الصين. ويعتبر هذا، البعد السياسي الذي ينقصها، كقوى اقتصادية عظمى، في آخر الأمر، حيث يعترف الجميع لها بذلك. لقد بدأت فكرة إعادة إصلاح منظمة الأممالمتحدة بالظهور منذ زمن طويل، ثم برزت تحت نشاط جديد، مع نهاية الحرب الباردة واختفاء الاتحاد السوفياتي، وكذلك مجمل ما كان يسمى بالكتلة الاشتراكية، هذه الفكرة، شكلت أحد الدوافع الرئيسة ومحركها في حياة المنظمة الدولية، خلال العديد من العقود الزمنية. وأصبحت المشكلة اللافتة للنظر، والمطروحة هي التخلي عن "سياسة حق النقض" (الفيتو)، الممارسة من قبل القوى الخمس الكبرى، والتي كانت تتسبب في شل عمل منظمة الأممالمتحدة زمناً طويلاً. فهناك المئات من النزاعات المسلحة الرئيسة التي تفجرت في جميع أنحاء العالم، والتي تسببت بأكثر من 20 مليون قتيل، منذ إنشاء منظمة الأممالمتحدة، منذ عام 1945 كما يؤكد، بطرس بطرس غالي، الأمين العام السابق للأمم المتحدة. قد وقفت الأممالمتحدة عاجزة أمام معظم هذه الجرائم، بسبب حوار النقض والذي استخدم 286 مرة، حتى نهاية عام 2002 الذي يستخدم في معارضة مجلس الأمن، لأي قرارات، لا تتفق مع مصالح أو استراتيجية إحدى الدول الخمس المتمتعة بذلك الثوب، أما وقد انتهت الحرب الباردة، فهذا يعني أيضاً وضع نهاية لحق النقض، لكن هيهات. إذ الولاياتالمتحدة انتهزت الفرصة، بتاريخ 31 ماي عام 1990، بشكل سمح لها التسلط بفظاظة على مجلس الأمن، وبالتالي سعت لتحقيق كل ما ترغب، تحت غطاء وتوصيات منظمة الأممالمتحدة، فشنت حربها الأولى على العراق وحققت جزءاً من طموحاتها، في عام 1991، ثم ومع تجاوز مجلس الأمن، لا بل تجاهله، وبعجرفة عجيبة، قامت من جديد في عام 2003 بغزو العراق واحتلاله. أما بشأن التبدلات المحتملة في نطاق ذلك المجلس الذي تعرض للإهانة، وأصابه الضعف، فهل حان الوقت لأن تحتل بعض القوى الكبرى ديموغرافياً، والتي هي، من جهة أخرى، يمكن اعتبارها قوى إقليمية مثل: الهند، البرازيل، المكسيك، نيجيريا، مصر هل من حقها أن تحتل مكاناً كعضو دائم في نطاق مجلس الأمن، بحيث يعكس صورة للوجه الحقيقي للعالم، وبشكل يؤدي إلى نتائج مفيدة لجميع الشعوب، وكذلك الأمر في المجال الاقتصادي "صناعات الاتصالات التي يمكنها أن تصبح قاطرات للاقتصاد منذ مطلع الألفية الثالثة"، كذلك في المجال الاجتماعي "انفساخ جديد بين الأغنياء والفقراء"، وبين بلدان الشمال، وبلدان الجنوب. لم يعد المجتمع العالمي يرى المستقبل، بوضوح، في المرآة. ويبدو أنه أصبح مسكوناً بحس البطالة، مسيطراً عليه التردد، ومصاباً بصدمة التكنولوجيات الجديدة، مشوشاً نتيجة العولمة الاقتصادية، قلقاً بسبب تلوث البيئة، ومثبط العزائم بشكل قوي، نتيجة الفساد المتسارع. يضاف إلى ذلك تزايد (الحروب العرقية) المنتشرة بين هذه المجتمعات، مما يثير الآلام وتبكيت الضمير والإحساس بالغثيان. في هذا الظرف المظلم، ما هي مسؤولية الثقافة؟ هل تبقى الولاياتالمتحدة أيضاً المرجع في هذا المجال، وكذلك الطليعة في ثقافة الجماهير، حيث يتعلق الأمر، في الرياضة، وفي الموسيقى العالمية (WORLD MUSIC)، وبسلسلة الأقنية التلفازية وبالمسلسلات، والبرامج الإعلامية، أو بالمتنزهات وأماكن التسلية. فقد استقبل الطراز الثقافي في الولاياتالمتحدة من قبل التجار، ولهذا، فإنه انزلق إلى التوافه والإثارة والسوقية. فهل يستطيع المبدعون أن يغضوا الطرف عما يحدث؟ وهل يستنفر المثقفون لتجنب أن تظلم الحضارة، مع بداية الألفية الثالثة، في بحر الفوضى؟. هذا ما ستجيب عنه الشعوب في مختلف بقاع العالم وخصوصا الشعوب العربية التي بدأت تنتفض من سباتها العميق وأخذت تنكب في سلسلة من الثورات للإطاحة برؤوس النظام الفاسد والحكام الجبابرة وأتباعهم بدءا من تونس فمصر فاليمن وسوريا إلى ما لا نعلم منتهاه.