ونحن في سفر اعتيادي بين مواقع وصفحات التواصل الاجتماعي، في إطار مواكبتنا وتتبعنا اليومي لمستجدات الساحة الوطنية في أبعادها السياسية والاقتصادية والوبائية والتربوية والاجتماعية والثقافية والرياضية والأمنية والإعلامية وغيرها، استوقفنا مقطع قصير لمداخلة في مجلس النواب يوم الثلاثاء المنصرم للبرلماني "عمر بلافريج" عن فيدرالية اليسار الديمقراطي، طالب من خلالها الحكومة، بالمساواة بين أجور رجال السلطة من قبيل القياد والباشوات ونساء ورجال التعليم والصحة، وقال البرلماني في ذات المداخلة في إطار اجتماع لجنة المالية والاقتصاد بمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون مالية 2021 : "ما كرهتش الصالير لي عند القايد والباشا، يولي كذلك عند رجال التعليم وفي مجال الصحة"، ولم نكتف بالاستماع وممارسة فعل المرور لمواصلة السفر الافتراضي، بل أعدنا الاستماع إلى "المداخلة" رغم عمرها القصير بدل المرة مرات، وقوة كلماتها ودلالات رسائلها، كانت كافية لتقوي في نفسنا، الرغبة الجامحة في كتابة مقال في الموضوع، بعد أن بتنا أسرى في خلوة الكتابة والإبداع، ما أن نتخلص من مقال، حتى نقع بشكل عصي على الفهم والإدراك، في شباك مقال ثان، ليكون حالنا في حضرة الكتابة، كحال السفينة التي تتقاذفها الرياح والأمواج، وما أن تستقر وتسترجع ثباتها وتوازنها بعد عبور العاصفة، حتى تستسلم لسلطة عاصفة ثانية، تعيدها عنوة إلى واقع المخاض وما يرتبط به من عسر وآهات. تصريح البرلماني تزامن مع بداية جمرة الاحتقان التعليمي في التوهج من جديد بعد أشهر من السكون بسبب فرض الحجر الصحي وسريان حالة الطوارئ الصحية وما يتربط بها من إجراءات وقائية وتدابير احترازية، وذلك بخروج بعض الفئات إلى ساحة النضال كما هو الحال بالنسبة للأساتذة حاملي الشهادات العليا وما بات يعرف بأساتذة الزنزانة 10 خريجي السلم التاسع، بشكل قد ينذر بتوهج جمرة الاحتقان من جديد، في ظل تعدد المطالب الفئوية وارتفاع منسوب اليأس والإحباط في أوساط الشغيلة التعليمية، ما لم يتم استعجال تحريك آليات التواصل والحوار بين الوزارة الوصية والفاعلين الاجتماعيين، ليس فقط من أجل إيجاد حلول للملفات الشائكة، ولكن أيضا، من أجل الإسهام الجماعي في صياغة وإخراج نظام أساسي جديد عادل ومنصف ومحفز، يقطع بشكل لارجعة فيه مع كل مشاهد الاحتقان، وهو تصريح سائل – من حيث الشكل – واقع حال المنظومة التعليمية التي لا أحد ينكر ما يواجهها من صعوبات ومشكلات وتحديات آنية ومستقبلية، ووضع – من حيث المضمون – الأصبع نحو الجرح الذي تئن منه هذه المنظومة منذ سنوات، ويمنعها من فرص التجدد والنهوض والارتقاء، جرح نختزل تفاصيله في ما آلت إليه مهنة المدرس من تراجع مهني وتقهقر اجتماعي قياسا مع مهن ووظائف أخرى، بشكل كرس لمهنة باتت مرادفة للبؤس والتواضع والمعاناة والاحتجاج والشكوى وانسداد الأفق. إذا كان البرلماني "بلافريج" وهو يدافع عن الشغيلة التعليمية وعن أحقيتها في "صالير" يضمن الكرامة ويرد الاعتبار قياسا لما يتقاضاه بعض رجال السلطة من قياد وباشوات، الذين يتفوقون على نساء ورجال التعليم على مستوى الأجور والتعويضات والامتيازات، فيمكن توسيع وعاء المقارنة، لنقارن واقع حال مهنة التدريس بمهن ووظائف أخرى من قبيل الأمن (ضباط وعمداء الشرطة) والقضاء (قضاة، منتدبون قضائيون، محررون قضائيون ..) فضلا عن قطاعات أخرى من قبيل المالية والمحافظة العقارية والجمارك والدرك والفلاحة والبريد والاتصالات والتجهيز والطاقة والمعادن وغيرها، وفي المقارنة، نخرج بخلاصة وحيدة، مفادها "هشاشة" الوضعية المادية للشغيلة التعليمية لا من حيث تواضع الرواتب ولا من حيث ضيق أفق الترقي المهني، ولا من حيث غياب التعويضات الشهرية أو الدورية التي من شأنها ضمان التحفيز والجاهزية والخلق والإبداع، وهذه الهشاشة وحدها، هي من تفسر حجم الملفات المطلبية المطروحة على طاولة الوزارة الوصية على القطاع، كما تفسرعمق بؤرة الاحتقان المستقرة في الجسد التعليمي. تطلع البرلماني "بلافريج" في أن يصبح "صالير" الأساتذة مماثلا لما يتقاضاه القايد والباشا، هو رؤية تتجاوز حدود الدفاع عن الشغيلة التعليمية والترافع عن أحقيتها في "صالير" يضمن الكرامة والاحترام، تدرك تمام الإدراك، أن إصلاح واقع حال منظومة التربية والتعليم لايمكن أن يتحقق إلا في ظل أستاذ يتمتع بكل شروط التحفيز من أجر لائق ومحترم وتعويضات محفزة وامتيازات مستحقة في مستوى المسؤوليات القائمة وما يرتبط بها من مخاطر محتملة (مهمة مراقبة الامتحانات الإشهادية والمهنية ومباريات التوظيف، مهمة التصحيح، مهمة التعليم عن بعد … إلخ) دون إغفال الحماية القانونية والاجتماعية والصحية، وحتى ونحن نعيش زمن الإصلاح الذي بشرت به "الرؤية الاستراتيجية" والقانون المؤطر لها، فواقع حال المدرسات والمدرسين لم يعد يسر الناظرين في ظل الاتساع المقلق لدائرة "الاحتجاجات الفئوية"، التي في ظلها، يصعب الرهان على قاطرة إصلاح، يغيب بشكل غير مفهوم "محركه" و"صمام أمانه" (الأستاذ(ة)). ندرك تمام الإدراك، أن مشكلات التعليم متعددة المستويات مرتبطة عموما بالمناهج والبرامج والأطر المرجعية وطرائق ووسائل التدريس وضبابية "التعليم عن بعد" وضعف بنيات الاستقبال، ومرتبطة أيضا بتراجع أدوار المدرسة كآلية من آليات الترقي الاجتماعي، لكن في ذات الآن، نرى أن قاطرة الإصلاح، لايمكن تحريكها، إلا بالالتفاتة إلى نساء ورجال التعليم، وتحريرهم مما باتوا يعيشون فيه من يأس وتواضع وإحباط وانسداد أفق، بالارتقاء بمستوى أوضاعهم المادية والمهنية والاجتماعية، بشكل يعيد لمهنة التدريس قيمتها التربوية وللمدرس مكانته و رمزيته المجتمعية، حينها يمكن رفع يافطة الإصلاح الحقيقي الذي لابد أن يطال المناهج البرامج والطرائق والوسائل وبنيات الاستقبال وغيرها، وعلى الرغم من إيماننا بأحقية النضال دفاعا عن الحقوق، فنحن لا ننظر بعين الرضى إلى ما تشهده الساحة النضالية من "فئوية في الاحتجاج" مكرسة للأنانية المفرطة والتعصب للذات وعدم استحضار المصلحة العامة للأسرة التعليمية، في ظل مشهد نضالي كل فئة فيه تدافع عن مطالبها دون اعتبار لمطالب الفئات الأخرى (الكل يغني على ليلاه)، ونرى أنه آن الأوان لمساءلة الفوضوية النضالية السائدة بالشوارع، والتفكير الرصين في تجميع كل المطالب في ملف مطلبي واحد، يمكن الترافع من أجله بشكل جماعي بعيدا عن النعرات والحسابات الضيقة، ونفس الخطاب نوجهه للفاعلين الاجتماعيين (النقابات) الذين يتحملون مسؤولية تحرير الجسد النقابي من "كوفيدات" التفرقة والتشرذم والشتات، بما يضمن توحيد الطاقات والقدرات، لكسب رهان "نظام أساسي جديد" عادل ومنصف ومحفز، تتحقق معه شروط الكرامة والتحفيز وإعادة الاعتبار. الحكومة ككل، وتحديدا الوزارة الوصية على القطاع، لابد أن تستوعب أن الإصلاح الحقيقي لمنظومة التربية والتكوين، يمر قطعا عبر "شغيلة تعليمية" تتمتع بكل شروط الكرامة والاعتبار والتحفيز، وأن تدرك أن "الإصلاح" لن يستقيم عوده في ظل "الاحتقان"، كما لابد أن تستحضر حجم المطالب الفئوية وأن تقدر التداعيات المحتملة للاحتجاجات على فعل الإصلاح ذاته وعلى المدرسة العمومية وصورتها المجتمعية، وهي مطالبة منذ أكثر من أي وقت مضى، بربط جسور التواصل والتلاقي مع الفاعلين الاجتماعيين، والجلوس الذي لامفر منه على طاولة الحوار، بعيدا عن كل النعرات أو الحسابات الضيقة، من أجل الإسهام الجماعي في بلورة نظام أساسي جديد يستوعب جميع مكونات المنظومة التربوية، تتحقق معه شروط العدل والإنصاف والتحفيز، ونرى أن هذا النظام الأساسي المرتقب، بات هو الحل الأوحد لتحرير الشغيلة التعليمية من أوحال التواضع واليأس والإحباط، بشرط أن تحضر الإرادة الرسمية في إعادة الاعتبار لواقع حال مهنة المدرس والارتقاء بظروف وأوضاع شغيلتها، وهي إرادة لابد أن تحضر بقوة في أذهان صناع القرار السياسي والتربوي بالأساس، لاعتبارين اثنين، أولهما: حماية الإصلاح وضمان نجاح مختلف الأوراش الإصلاحية المفتوحة، ثانيهما: ما نترقبه من نموذج تنموي جديد، لايمكن تصوره إلا في ظل تعليم عصري حقيقي ومدرسين محفزين ومستقرين مهنيا واجتماعيا ونفسيا. ونختم بأن ننوه بمداخلة البرلماني "عمر بلافريج" ونثمن دفاعه على نساء ورجال التعليم شأنهم في ذلك شأن موظفي الصحة وعن أحقيتهم في أجور محفزة، وهو بذلك، يرمي الكرة في مرمى البرلمانيين الذين لابد أن يتحملوا مسؤولياتهم في الدفاع عن كرامة الأستاذ(ة) والترافع من أجل إعادة الاعتبار لمهنة تعليمية ما أحوجها اليوم إلى الكرامة والتحفيز ورد الاعتبار، وإذا قارنا في عنوان المقال بين صالير "القايد" و صالير "الأستاذ"، فنحن نثمن عمل رجال السلطة والأمن وما يضطلعون به من مهام متعددة المستويات تستحق التحفيز، وفي ذات الآن، نصر على أحقية الأستاذ(ة) في الكرامة والاعتبار والتقدير والتحفيز، بتمكينه على الأقل، بما يتمتع به رجال السلطة والأمن وغيرهم، من أجور وتعويضات وامتيازات، فكل "قايد" أو "باشا" أو "عميد شرطة" أو "قاض" أو "محام" أو "طبيب" أو "مهندس"… وراءه "أستاذ"، فأكرموا "الأستاذ" ولا تقللوا من شأن من يبني العقول ويرفع قواعد الوطن …ولا تبخسوا دور من قيل فيه "كاد المعلم أن يكون رسولا" … [email protected]