يحل عيد الأضحى المبارك على المغرب كغيره من البلدان الإسلامية، في ظروف غير الظروف وطقوس غير الطقوس، أو على الأقل في طقوس باردة، غابت فيها صلاة العيد وصلاة الجمعة، وتراجعت فيها درجة حرارة الفرحة والسرور التي عادت ما تسبق قدوم هذا العيد المبارك السعيد، إنها سلطة "كورونا" التي لم تترك دولة إلا وأحرجتها، وقطاعا إلا وأربكته، ولا مناسبة إلا وعبثت بأوراق طقوسها وعاداتها، ولا فرحة، إلا وساهمت في تذويب جليدها . مناسبة دينية فقدت الكثير من الإشراق واللمعان في ظل جائحة باتت كالعاصفة الهوجاء التي تركت وراءها مشاهد من الخراب والدمار والقسوة والبؤس والقلق والإحباط وانسداد الأفق، بعدما أوقفت قهرا عجلة الحياة الاقتصادية وكبحت جماح الكثير من الأنشطة المهنية والخدماتية، مما كان له كبير الأثر على النسيج الاجتماعي، وتحديدا على الكثير من الأسر الهشة التي يرتبط مصيرها بالقطاع "غير المهيكل" الذي زادته الجائحة الكورونية تأزما وهشاشة. ومناسبة عيد الأضحى المبارك، لن تكون بالنسبة للبعض، إلا مرادفة للألم والشكوى والرفض والمعاناة وفقدان الثقة، ونخص بالذكر كل من فرضت عليه الظروف التواجد في صلب "ليلة الهروب الكبير"، حاملا هم قضاء عطلة العيد رفقة الأسرة والأهل والأحباب، عقب قرار مشترك "فجائي" صادر عن وزارتي الداخلية والصحية، نزل كالأمطار الرعدية التي لم يكن أحد يتوقعها، وإذا كان البعض قد أفلح في الوصول إلى وجهته بمشقة وألم، فالبعض الآخر، تقطعت به السبل، فلا هو غادر إلى وجهته المقصودة ولا هو عاد إلى مكان إقامته، ليبقى عالقا بالمحطات الطرقية في انتظار سفر بات حلما أقرب إلى السراب، أما الليلة الكبرى، فقد كانت بالنسبة للبعض مناسبة لتوديع الحياة على مضض بسبب حوادث سير متفرقة، اعتبارا لحالة الفوضى والازدحام التي كانت العديد من المحاور الطرقية مسرحا لها في ليلة ليست ككل الليالي. العيد الكبير بالنسبة للبعض، هو إحراج ما بعده إحراج واصطدام مباشر بالزمن الصعب، فالجائحة ضربت بقوة في الأوساط التي تحضر فيها مفردات الفقر والبؤس والهشاشة، فكان من الطبيعي أن يظهر ضحايا أخرجتهم كورونا من جحر المعاناة المستدامة، ولم يجدوا بديلا عن التسول في المقاهي وعند أبواب المساجد والأسواق الأسبوعية والشعبية، سعيا وراء مدخول مالي، قد يسعفهم في شراء أضحية العيد من أجل أطفال لاحول لهم ولاقوة، لايقبلون بأي عذر أو مبرر، سوى الوقوف أمام "الحولي" والتعبير أمامه عن أحاسيس الفرح والسرور، في مناسبة دينية زاغت طقوسها عن السكة، وباتت هرولة سنوية نحو الأكباش والعطارة والأسواق، وفرصة بالنسبة للبعض، لممارسة لعبة التباهي واستعراض العضلات، باقتناء أكباش بأثمنة عصية على الفهم والإدراك، في مناخ من الأنانية وحب الذات، تراجعت في أجوائه قيم التضامن والتعاضد والتآزر والتكافل والتضحية والصدقة والإحسان والإقبال على الخيرات والصدقات، وغير ذلك من القيم الدينية والإنسانية.
على المستوى الوطني، يتزامن عيد الأضحى المبارك بالذكرى الواحدة والعشرين لعيد العرش المجيد، وهو تزامن يفرض استحضار القيم الدينية والوطنية التي تطبع ما يجمعنا من مشترك وطني وتاريخي وتراثي وهوياتي، التي بات استرجاعها والتقيد بها، فرصتنا لمواجهة التحديات الآنية والمستقبلية ذات الصلة بجائحة كورونا التي أربكت الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وفرضت واقعا مقلقا، يستدعي التعبئة الجماعية والتحلي بقيم المواطنة وروح المسؤولية، ليس فقط للتصدي للتداعيات الجانبية للأزمة الوبائية المربكة، بل والتأسيس عليها، بما يضمن كسب رهانات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وفق خطة استشرافية شمولية متعددة الأبعاد، حدد خطاب العرش معالمها الكبرى.
وهي خطة تتأسس على ركيزتين، تمر الأولى عبر إنعاش الاقتصاد الوطني عبر عدة تدخلات منها، ضخ حوالي 120 مليار درهما في الاقتصاد الوطني ( ما يعادل 11 في المائة من الناتج الداخلي الخام)، وإحداث صندوق للاستثمار الاستراتيجي لتمويل المشاريع الاستثمارية الكبرى في القطاعين العام والخاص، والإسراع بتنزيل إصلاح عميق للقطاع العام وللمقاولات العمومية بما يضمن الرفع من فعاليتها ونجاعتها الاقتصادية والاجتماعية وإحداث وكالة وطنية لمواكبة أداء المؤسسات العمومية، فيما تتأسس الركيزة الثانية على إعادة تشكيل منظومة الحماية الاجتماعية التي أبانت جائحة كورونا مدى هشاشتها ومحدوديتها، عبر عدة آليات منها، تعميم التغطية الاجتماعية لجميع المغاربة خلال خمس سنوات القادمة بشكل تدريجي ابتداء من يناير 2021، وتعميم التغطية الصحية الإجبارية والتعويضات العائلية والتعويض عن فقدان الشغل، وإدماج القطاع غير المهيكل في النسيج الاقتصادي والاجتماعي والصحي … وهي تدخلات من ضمن أخرى، بقدر ما جاءت كحل أو حلول موضوعية لتجاوز آثار الأزمة الكورونية، بقدر ما تضع المغرب على سكة مشاريع إصلاحية واجتماعية، من شأنها أن تعطي نفسا للفعل التنموي، في أفق وضع خارطة طريق "النموذج التنموي المرتقب" غضون مطلع السنة القادمة.
على المستوى العربي والإسلامي، يحل عيد الأضحى في أجواء كورونا التي فرضت على السعودية اتخاذ قرار إقامة الحج لهذه السنة بأعداد محدودة جدا من شتى الجنسيات من الموجودين بالمملكة، عدا ذلك، فواقع الحال لايسر الناظرين، فمشاهد النفور والتباعد والتفرقة والشتات والعناد والصدام، لازالت تحكم قبضتها على عالم إسلامي لم يعد يسمع له صوت أو كلمة في عالم التكتلات والأقطاب والمصالح، وعالم عربي، بات "مفعولا به" وحقلا للتجارب وصراع الأقطاب الإقليمية والدولية، في ظل مناخ عربي قاحل في الطبيعة كما في السياسة، لاصوت يعلو فيه على صوت النعرات والقلاقل وإثارة الفوضى وافتعال النزاعات، بشكل صنع واقعا عربيا أشبه ما يكون بالدمية التي يتم التحكم في حركاتها وسكناتها واختياراتها "عن بعد"، في زمن، ذاب فيه جليد الوحدة والتكتل والدين والعروبة والتاريخ والجغرافيا والمصير المشترك، فمن العراق إلى سوريا، ومن لبنان إلى اليمن، من السعودية والإمارات إلى قطر وإلى ليبيا، ومن الخليج إلى المحيط، غابت الوحدة وحضرت التفرقة والشتات، واختفى التضامن والتعاون المشترك، وتقوت شوكة إثارة القلاقل والدسائس وإشعال الفتن والأزمات، عدا رسائل وبرقيات تهاني يتبادلها قادتنا وزعماؤنا في كل مناسبة دينية ووطنية، غارقة في أوحال المجاملة والإثراء و"النفاق الناعم"… عسى أن تشرق شمس وطن عربي وإسلامي، تعطي للعروبة معنى وللمشترك الديني مغزى، وفي انتظار ذلك، لايسعنا إلا نستغل مناسبة العيد وذكرى عيدالعرش المجيد، لنتقدم بأسمى آيات التهاني والتبريك لصاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله، متمنيين له دوام الصحة والعافية، وللشعب المغربي بموفور الأمن والطمأنينة والرخاء، ولأمتنا العربية والإسلامية بلم الشمل ووحدة الصف، لما فيه خير وصلاح للإنسانية جمعاء، إنه سميع مجيب لكل الدعوات … [email protected]