عيد الأضحى شعيرة من شعائر الإسلام، وفقهيا هي سنة وليست فريضة، حسب قول جمهور العلماء، وتعود قصة هذا الطقس إلى عهد سيدنا إبراهيم الذي رأى في المنام رؤيا غريبة.. رأى نفسه يذبح ابنه. ولأن رؤيا الأنبياء ليست كرؤيا باقي البشر، كما يقول مؤرخو الإسلام، فإن إبراهيم عليه السلام لما استيقظ من نومه قام إلى ابنه إسماعيل وهم بذبحه تقربا إلى ربه، ففدى الله إسماعيل بذبح عظيم. لما جاء الرسول، صلى الله عليه وسلم، جعل من هذه القصة الرمزية شعيرة في ال10 من شهر ذي الحجة، وواحدة من طقوس الدين الإسلامي التي ترمز إلى التضحية، والتكافل الاجتماعي، والصدقة، وتوزيع اللحم على من لا يصل إليه طوال السنة، في بيئة صحراوية شديدة القسوة على حياة البشر. عيد الأضحى في الإسلام مرتبط بمعانٍ ودلالات ورموز جل الناس اليوم لا يلتفت إليها اليوم، ولا يرى أمامه سوى الكبش أو البقرة أو الجمل وحفلات الشواء التي تعقب ذبح الأنعام، وهذا لا إشكال فيه، لكن يوجد الإشكال في مكان آخر. الإشكال موجود في حالة الاستنفار التي تعيشها جل الأسر الفقيرة من أجل شراء الخروف، حتى إن البعض يضطر إلى أخذ قرض من البنك بفائدة عالية من أجل شراء الخروف، خاصة أن العيد هذه السنة يتزامن من مصاريف الدخول المدرسي وما تتطلبه من ميزانية استثنائية، وعوض أن يسهل فقهاء الدولة الرسميون المهمة على الفقراء، ويفتوا بإعفاء غير القادر على ذبح الأضحية، مثلا، أو اعتبار أن الملك، أمير المؤمنين، ينوب عن كل من لا يقدر على ذلك، نراهم يفتون بجواز أخذ قرض من أجل الكبش، في ابتعاد كلي عن واحد من أساسات الإفتاء، وهو التيسير (يسروا ولا تعسروا)، مصداقا لقوله تعالى: «وما جعل عليكم في الدين من حرج». الإشكال الثاني الذي يجب التفكير في حله بمناسبة عيد الأضحى، هو إدخال حوالي أربعة ملايين رأس من الغنم إلى المدن والأحياء السكنية والعمارات والشقق غير المؤهلة لاستقبال الخرفان، ولا لذبح هذا الكم الهائل من المواشي في المدن الحديثة، ما يخلق مشاكل في الصرف الصحي، وفي نظافة الشوارع، وفي «رونق» المدن، وإن كان جلها بلا رونق، وهي أشبه ببوادٍ متمدنة، أو بمدن بدوية، لا فرق. مرة قال لي المدير الفرنسي السابق لشركة "ليديك" بالدارالبيضاء: "لقد اشتغلت في أكثر من مدينة أوروبية وغير أوروبية، تبعا للفروع التي تديرها الشركة الأم في باريس، المتخصصة في توزيع الماء والكهرباء وتنظيم الصرف الصحي، لكنني لا أعرف كيف أتعامل مع ظاهرة إدخال ملايين الأكباش إلى مدينة مثل الدارالبيضاء. هذه ظاهرة لا توجد في خططنا، ولا نتوفر على تجربة التعامل معها!". من واجب المجالس البلدية أن تخصص أماكن خارج المدن معدة لذبح أضاحي العيد، وتوفير اللوجستيك والنظافة والموارد البشرية لذبح 5,4 ملايين رأس غنم في يوم واحد، دون المس بالنظافة ولا بسلامة البيئة، ولا بضرورات العيش وسط المدن، كما تفعل أكثر من دولة عربية، حيث تعد مجازر خارج المدن لتسهيل ممارسة هذا الطقس في أجواء فرح مناسبة، وليس في أجواء حرب حقيقية تخرج فيها أحشاء الدابة ولحمها وقرونها إلى الشوارع وكأننا في القرون الوسطى، ولسنا نعيش في القرن ال21. المغاربة يفرطون في سنن كثيرة، بل وفي فرائض وأركان في الإسلام، لكنهم مع عيد الخروف لا يتساهلون ولا يستسلمون، وهذا مفهوم سوسيولوجيا قبل أن يكون دينيا، لأن هذا الطقس لم يعد طقسا دينيا، بل صار طقسا اجتماعيا يرتبط بحاجات ومشاعر ومنافع وثقافة معينة، حيث تجتمع الأسر المشتتة في الداخل والخارج في هذه المناسبة في بلاد مازالت قيم العائلة الأبوية الممتدة حاضرة، ومازال الارتباط بالجذور وبالأرض وبالقبيلة وبمسقط الرأس ينتج سلوكيات اجتماعية وثقافية ونفسية مهمة. عيد الأضحى هو أيضا مناسبة لإظهار شكل من أشكال المساواة الاجتماعية والطبقية الغائبة طيلة السنة في المجتمع المغربي، حيث يصبح الخروف الموجود في كل البيوت -فقيرها وغنيها ومتوسطها ومعدمها- علامة من علامات المساواة بين الطبقات الاجتماعية، حتى وإن كانت هذه المساواة لا تدوم سوى ليوم واحد لا أكثر. التشبث بطقس عيد الأضحى هو تعبير عن زيادة الطلب على قيم غائبة في المجتمع، مثل المساواة والتضامن والاحتفال والفرح الجماعي وتجاوز الخصومات الناشئة في الأسر طيلة السنة، وتذكر أحوال الضعفاء والمرضى والفقراء والمهاجرين… إذا استطاع هذا الطقس أن يحافظ على حرارته وقوة حضوره طيلة قرون، فليس فقط لدلالاته الدينية (الكثير من السنن والطقوس، وحتى الفروض الدينية، لا تصمد اليوم أمام تحولات الحياة العصرية وإكراهات الزمن الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي أيضا)، بل كذلك لوظائفه الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، ذلك أن حوالي 8 ملايير درهم تنتقل من المدن إلى البوادي في عيد الأضحى، مقابل شراء الكبش.. ما يشكل فرصة اقتصادية للفلاح الكبير والصغير من أجل تسويق منتوجهما الحيواني في اقتصاد زراعي لا يوفر، في الغالب، للفلاحين البسطاء دخلا يعيشون به من الأرض. يوم قرر الملك الحسن الثاني في الثمانينات منع المغاربة من ذبح خروف العيد بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد، وبسبب الخوف على ما تبقى من حظيرة الماشية.. في تلك السنوات العجاف لم يبلع المغاربة هذا القرار، ولم يلتزموا به جميعهم، ومنذ ذلك الوقت وعيد الكبش من المقدسات التي لا تتنازل عنها الأغلبية الساحقة. لقد حان الوقت لتنظيمها وتقنين ممارستها وإحياء معانيها، وهذا من مستلزمات تحديث المجتمع دون الاصطدام به بالضرورة… عيد مبارك سعيد.