مؤلف متخصص في العلوم الإسلامية[1] لقد استحالت المشاركة في الحج هذه السنة وإن كان المرء يمتلك جميع الوسائل لذلك، خصوصا إذا لم يكن من المتواجدين حاليا بالمملكة العربية السعودية. فقد قررت المملكة السعودية في ظل استمرار هذه الجائحة، وخطورة تفشي العدوى في التجمعات والحشود البشرية، والتنقلات بين دول العالم، وازدياد معدلات الإصابات عالميًا، إقامة حج هذا العام 1441ه بأعداد محدودة جدًا للراغبين في أداء مناسك الحج لمختلف الجنسيات من الموجودين داخل المملكة، وذلك حرصًا على إقامة الشعيرة بشكل آمن صحيًا وبما يحقق متطلبات الوقاية والتباعد الاجتماعي اللازم لضمان سلامة الإنسان وحمايته من مهددات هذه الجائحة، وتحقيقًا لمقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ النفس البشرية. لقد كان من إيجابيات هذا القرار أن شعيرة الحج لن تتوقف هذه السنة -إن شاء الله- ورغم أن كل من زار الأراضي المقدسة تهيج أشواقه إلى تلك البقاع عندما يحين موسم الحج. وهذا الشوق والحنين تصوره قصيدة "يا راحلين إلى منى" التي قالها شوقآ وحنينآ قبل 634 عاماً الشاعر عبدالرحيم البرعي، ِوالذي توفاه الله عام 803ه، ودُفِن -رحمه الله- ب"خيف البرعي" بمحافظة بدر،ونقتطف من هذه القصيدة هذه الأبيات إذ يقول يا راحلين إلى منىً بقيادي هيجتموا يوم الرحيل فؤادي ويقول فإذا وصلتم سالمين فبلغوا مني السلامَ أُهَيْلَ ذاك الوادي ويقول وتذكّروا عند الطواف متيماً صبّاً فني بالشوق والإبعادِ ويقول من نال من عرفات نظرة ساعة نال السرور ونال كل مراد ويقول بالله يا زوار قبر محمد من كان منكم رائحاً أو غادي فليبلغ المختار ألف تحية من عاشق متقطع الأكباد لن نجد أبلغ من قول صاحب رحلة تحفة النظار في غرائب الأمصار في وصف هذا الحال الوجداني حيث يقول: "ومِن عجائب صنع الله تعالى أنّه طبع القلوب على النزوع إلى هذه المشاهد المنيفة، والشوق إلى المثول بمعاهدها الشريفة، وجعل حبّها متمكنا في القلوب فلا يحلّها أحد إلا أخذت بمجامع قلبه ولا يفارقها إلّا أسِفا لفراقها، متولّها لبعاده عنها، شديد الحنين إليها، ناويا لتكرار الوفادة عليها، فأرضها المباركة نصب الأعين، ومحبتها حشو القلوب حكمة من الله بالغة، وتصديقا لدعوة خليله عليه السلام، والشوق يحضرها وهي نائية، ويمثلها وهي غائبة، ويهون على قاصدها ما يلقاه من المشاقّ ويعانيه من العناء، وكم من ضعيف يرى الموت عيّانا دونها، ويشاهد التّلف في طريقها، فإذا جمع الله بها شمله تلقاها مسرورا مستبشرا كأنه لم يذق لها مرارة"[2] إذا كانت المشاركة الجسدية قد استحالت هذه السنة فإن المشاركة الوجدانية ممكنة بالنسبة للمسلمين وأجرها بحسب وجدان الشخص وتعلقه بالفضاء الزماني والمكاني لشعيرة الحج، وتعلقه بالمقام النبوي على ساكنه أفضل السلام ،وقد بشرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأجر المشاركة في الفضاء الوجداني ،فقال صلى الله عليه وسلم في مارواه الإمام البخاري عن أنس – رضي الله عنه – قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا، وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا؛ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ. وقد أكد الفقهاء أن الإنسانُ يَبْلُغُ بنِيَّتِه ما لا يَبلُغُه بعَمَلِه إنْ كانت نِيَّتُه صادقة وفي فقه الحديثِ: أنَّ الإنسانَ إذا نوى العملَ الصَّالحَ ولكنَّه لم يستطعْ القيام به لعُذْرٍ؛ فإنَّه يُكتَبُ له أَجْرُ ما نوَى.. إن المشاركة الوجدانية في العمل الديني تعامل مع الله، بيد أن هناك مشاركة أخرى أتيحت في عصرنا هذا يحضر فيها بعد التعامل مع الخلق، والمقصود بها المشاركة في العالم الافتراضي، فمن المؤكد أن هؤلاء المسلمين الذين اختارهم الله تعالى من بين الأمة ليقوموا بشعيرة الحج، و انطلاقا من ثقافة المشاركة التي أصبحت من ثوابت العالم الافتراضي ،سيقومون بنقل صور ومشاهد من تلك البقاع بالإضافة إلى ماستنقله الشبكات العالمية والقنوات التلفزيونية، وكل هذا سيكون من عوامل تحريك مشاعر الإيمان والمحبة في قلوبنا، خصوصا لحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالمرء مع من أحب كما قال صلى الله عليه وسلم. إن هذه بعض أوجه المشاركة الممكنة، ولكننا نستهدف هنا بعدا آخر من المشاركة كان حاضرا حتى عندما كان العالم الافتراضي في عالم العدم، بل إن الصورة نفسها لم تكن آنئذ وسيلة تواصلية إلا في مجالات جد محدودة. لقد كانت السيادة للكلمة المكتوبة والمسموعة، وكان القلم واللسان سيدا الموقف ، وكان الكتاب سيد وسائل التواصل الذي يعبر القارات ويبحر شاقا أمواج البحار . وكانت المشاركة في تجربة الحج تتم عبر الكتاب كما هو الأمر بالنسبة لسائر الرحلات. لنشاهد هذه الصورة المكتوبة التي اعتنى فيها الكاتب بأدق التفاصيل وكأنه كاميرا لغوية تسعى إلى توصيل الصورة عبر الكلمة وهي تتحدث عن محمل الحج حيث يقول صاحب رحلة مرآة الحرمين: وتؤكد بعض المصادر بأن أول من استحدثها بمصر كان هو الملك الظاهر بيبرس سنة 675 هج، وكان الغرض من دوران المحمل في هذا الوقت المبكر من السنة هو إعلام الناس بأن الطريق من مصر إلى الحجازآمن ومن أراد الحج فلا يتأخر ولايتخوف من الطريق، فحينئذ تهيج العزمات، وتنبعث الأشواق، وتتحرك مشاعر الناس إلى البيت العتيق الذي بمكة0 يصحب دوران المحمل وخروجه بعض الاستعدادات، في رجب ينادى بدوران المحمل ثلاثة أيام، ثم يدور في اليوم الرابع، وفي أثناء الأيام الثلاثة يقوم الناس بالاستعداد ليوم الدوران ويقوم أصحاب الحوانيت التي سيمر بها المحمل بتزيين حوانيتهم، وهناك بيت النسوة والرجال والأطفال ،حتى يتمكنوا من مشاهدة المحمل في صباح اليوم التالي وتكون الحوانيت قد تجهزت بالحرير وألوان الزينة، وقد جرت العادة أن يكون دوران المحمل في يوم الإثنين أو الخميس من الأسبوع ،وعلى طول الطريق تحتشد جموع الناس لمشاهدة موكب المحمل وهو يشق طريقه من باب النصر ، ويسير جمل المحمل وهو يتهادى ،وعليه أثواب الحرير الملون وهو يتهادى، وعليه أثواب الحرير الملون وفوقه المحمل مغطى بالأقمشة الحريرية تعلوه قبة فضية،،وأمام هذا الموكب تركض كوكبة من المماليك المتسلحين بالرماح بملابس الميدان الزاهية ،على حين تخطف معداتهم و أسلحتهم أبصار المتفرجين ببريقها ، وتعلو صيحات الإعجاب من جماهير العامة المحثشدين على جانب طريق الموكب ويظل الموكب يتهادى في طريقه حثى يصل إلى القلعة حيث ينظر إليه السلطان ومعه القضاة الأربعة ونوابهم وكبار رجال الدولة وجميع عامة المصريين ،ثم يلعب المماليك برماحهم أمامه ثم ينصرف المحمل بعد ذلك إلى الفسطاط ثم يعود تحت القلعة[3]0 لقد شاركنا كثير من المؤلفين رحلة حجهم، وقد أتقن كثير من المؤلفين كتب رحلات حجهم، فتتبعوا التفاصيل ونقلوا لنا أشياء لولاهم لما عرفناها، فكتب رّحلات الحج تهتم بالشُّؤون الدِّينية، وتهتم بالأوضاع الاجتماعية، والسِّياسية، والاقتصادية والعلمية، كما أن من فوائد أدب رحلات الحج القيمة التعليمية، فهي تعطينا معلومات عن منطقة ما أو مجتمع فهي تكون مصدرا لمعرفة ثقافة ذلك المجتمع. إن كتاب رحلات الحج تعددت انتماءات فجاءت انتماءاتهم من الأندلس إلى المغرب، فمصر والشَّام، والهند واليابان، وتركيا وآخرين من عدَّة بلاد أوربية. وقد تعددت أنواع رحلات المؤلفين إلى الحج ونذكر من بينها: رحلة شخصية. مرافقة لأمير أو ملك. . على رأس وفد دولة . أميرٍا لموكب الحجِّ. ضيفٍا على حكَّام الحجاز. صاحب مهمة سياسية كما في كثير من رحلات المستشرقين. وقد قامت ثلة من الباحثين والمؤسسات بنشر كثير من كتب رحلات الحج، ولازال أمام الباحثين استقصاء جميع ما كتب عن رحلات الحج؛ ووضع فهارس تيسرمعرفة المخطوط منها والمطبوع أو المفقود والمحقق منها وغير المحقق. لازال أدب رحلات الحج في حاجة إلى عمل علمي ضخم خصوصا إذا تشوفنا إلى معرفة مجموع ما كتب ودون باللغات الأخرى وما كتبه الحجاج من كل بقاع العالم إلى الأماكن المقدسة، ولعل جهة رسمية تقوم بعمل أولي يسهل على الباحثين مجهودهم وذلك بإنشاء مكتبة خاصة بأدب رحلات الحج بجميع اللغات المتيسرة، وتجمع فيها المخطوط والمطبوع فالمكتبات العالمية تتوفر على مئات إن لم نقل آلافا من الكتابات عن الحج وبكل اللغات الحية، عربية وفارسية وملايوية وأردية وهندية ولاتينية، فرنسية وإنكليزية واسبانية.[4] ومما يدل على كثرة ما كتب في أدب الرحلة في الحج، أننا نجد كتابا خصصوا كتبهم للحديث عن كتب رحلات الحج نذكر من بينها: كتاب المؤرخ المغربي "عبد الهادي التازي" "رحلة الرحلات: مكة في مائة رحلة مغربية ورحلة، وكتاب "أحمد محمد محمود" بعنوان: "رحلات الحج" تحدَّث فيه عن عدد من رحلات الحج خلال القرون الثَّلاثة الأخيرة وكتاب " أشهر رحلات الحج" للعلامة "حمد الجاسر"، وكتاب" محمد بن حسن الشريف" " المختار من الرّحلات الحجازية إلى مكة والمدينة النَّبوية" واختصر فيه أكثر من عشرين كتابا من كتب رحلات الحج القديمة والحديثة، كما أصدر المؤرخ "عبد الله بن حمد الحقيل" كتاب بعنوان " رحلات الحج في عيون الرحالة وكتابات الأدباء والمؤرخين. بل إن هناك كتابين اثنين لرحلات نسائية إلى الحج كتبت أحدهما أميرة هندية مسلمة وهي أميرة ولاية بهوبال الهندية عام 1786م ، وآخر دونته ابنتها المسلمة. إن أهمية هذه المكتبة أنها ستسهل على الباحثين القيام بدراسة للمجتمع الإنساني في مختلف العصور وتمدنا بمادة دسمة عن العادات والآثار، والأماكن، ومعلومات عن الطعام والشراب والملابس، والمناخ، والنقود، والأسواق، والمعالم المادية والمظاهر الأخلاقية للمجتمعات، بالإضافة إلى ما يتعلق بالأماكن المقدسة مما يعد تأريخاَ لها عبر العصور. لقد بين صاحب مرآة الحرمين القصد التواصلي وحضور بعد المشاركة في كتابة رحلات الحج. وما يتحمل من المشقة في هذا الباب فقال: ولقد كان من أكبر البواعث على إخراج هذه الرحلات وتكلف النفقات النفقات الباهظة في سبيلها أنها أبين شرح لفرض من فروض الدين وأصدق لسان يصف مهد النبوة ومبعث التشريع وإنها لتكشف لك عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والأماكن التي شرفت به حتى كأنك تراها رأي العين [5]0 إننا إن شاء الله في مقالات أخرى سنقوم برحلة مع شعيرة الحج عبر الزمان والمكان متوسلين بكتب رحلات الحج التي دونت عبر العصور، فلعل هذه الرحلة الفكرية ستساعدنا على المشاركة الوجدانية في موسم هذه السنة، ولاحرمنا الله وإياكم من الوصول إلى تلك البقاع بعد انحسار هذه الجائحة0
[1] من مؤلفاته المطبوعة والتي في طريق الطبع، أبو حامد الغزالي والمدرسة الأصولية المالكية -مناهج التعارض والترجيح -تجليات الوجدان من خلال السنن والقرآن -الشيخ في التراث الصوفي 0000 [2] رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار ج 1ص 153
[3] ابراهيم رفعت باشا0 مرآة الحرمين:ج1 ص ا4 4 [4] يمكن أن تطبق الفكرة نفسها لإنشاء مكتبة متخصصة في السيرة النبوية [5] ابراهيم رفعت باشا0 مرآة الحرمين:ج1 ص4