في ظل انتشار وباء كورونا المستجد "كوفيد-19″، وحصده للمزيد من الإصابات المؤكدة والوفيات عبر العالم، وفي أفق التوصل إلى لقاح ناجع من شأنه تخليص البشرية من عناد الفيروس التاجي، لم تجد الدول من خيار، سوى اتخاذ جملة من الإجراءات الاحترازية التي من شأنها محاصرة الوباء والحيلولة دون انتشار العدوى، ومنها استعجال إغلاق الحدود الوطنية وفرض حالات الطوارئ الصحية واللجوء الاضطراري إلى حظر التجول ومنع التنقلات بين المدن، والرهان على التقيد بالضوابط والقواعد الوقائية ذات الصلة باستعمال الكمامات والتباعد الاجتماعي واحترام مسافات الأمان والحرص على إجراءات النظافة والتعقيم، ولم تسلم الصحافة الورقية من هذه الإجراءات الاحترازية، بعدما لجأت كل الدول ومنها المغرب، إلى تعليق طباعة ونشر الصحف والمجلات إلى "أجل غير مسمى"، مما دفع بالكثير من الجرائد الورقية إلى إصدار نسخ رقمية توضع بمواقعها الإلكترونية بشكل مجاني رهن إشارة القراء، في زمن "كوروني" تزايد فيه الإقبال على الكتب والمنشورات الإلكترونية عبر العالم، في ظل توقف أنشطة الخزانات والمكتبات وتعليق إصدار وتوزيع الصحافة الورقية، وهو إجراء جعل من المطبوعات الورقية (كتب، جرائد، مجلات …) وبتعبير أدق "الورق" موضوع سؤال وجدل عبر العالم، حول إمكانية أن تكون "الأوراق" أسطحا لعيش الفيروس التاجي، وبالتالي أن تكون أداة من أدوات انتقاله وانتشاره بين الناس، وما زاد الصورة إبهاما وغموضا، هو اتساع رقعة الجدل حول "الأوراق المالية" التي حامت الشكوك حول إمكانية نقلها ونشرها للفيروس الغامض، مما دفع بالكثير وخاصة أصحاب المحلات التجارية، إلى اللجوء إلى تعقيم النقود سواء كانت ورقية أو معدنية، مخافة انتشار العدوى، وفي هذا الصدد، ورغم أنه لم يثبت لحد الآن، إمكانية انتقال الفيروس التاجي إلى الأشخاص عبر ملامسة الأسطح حسب تأكيدات "منظمة الصحة العالمية"، فالجدل الذي حام في البدايات الأولى لانتشار الوباء خارج الصين حول "الورق" وإمكانية نقله للعدوى، يفرض إثارة موضوع قد لا يستحضره الكثير من الباحثين بمن فيهم المهنيين، في هذه الظرفية الخاصة والاستثنائية، التي تتجه فيها كل الأنظار إلى "السيناريوهات المرتقبة" التي ستسمح بالخروج التدريجي من الجائحة الكورونية وتداعياتها المتعددة المستويات، ويتعلق الأمر بالأرشيف (1) "الورقي". إثارتنا للأرشيف التقليدي وتحديدا "الورقي" في "زمن كورونا"، تحكمت فيه أربعة اعتبارات جوهرية، وهي على النحو التالي : – أولها: الجدل الذي حام منذ البدايات الأولى لانتشار الفيروس التاجي خارج الصين، حول حقيقة العلاقة القائمة بين "الفيروس" و"الورق"، وإمكانية أن تشكل المطبوعات الورقية أسطحا لانتقال وانتشار العدوى. – ثانيها: يرتبط بخصوصيات وحساسيات الوثائق الورقية الأرشيفية، بشكل يجعلها مهيأة أكثر من غيرها لحمل ونقل الطفيليات والفيروسات. – ثالثها: طبيعة الأمكنة التي يتم حفظ الأرشيف فيها (مكاتب الأرشيف)، والتي غالبا ما يتم حفظها في مكاتب "تحت أرضية" تفتقر لأدنى الشروط والمعايير المعترف بها دوليا، ذات الصلة بحفظ الأرشيف، في ظل غياب "شبه تام" لأية "ثقافة أرشيفية" تقدر القيمة المتعددة الزوايا للأرشيف، ليس فقط كذاكرة وتاريخ وهوية وتراث، ولكن أيضا كآلية يمكن الرهان عليها لتدعيم وتحصين حقوق الإنسان، وكسب رهانات الحداثة وما يرتبط بها من نزاهة وشفافية ومسؤولية ومساءلة، وكبنك معطيات، يمكن استثماره في صناعة القرارات الصائبة، بعيدا عن مفردات الارتباك والعشوائية والتردد. – رابعها: كون المكاتب الأرشيفية أو مستودعات حفظ الأرشيف، تشكل أمكنة عيش مريحة وآمنة بالنسبة لعدد من القوارض (الفئران، الجرذان أساسا) والحشرات، لما توفره من ظروف عيش مشجعة (الظلام، الرطوبة، الحرارة …)، وتأثير هذه القوارض والحشرات، لا يتوقف عند حدود العيش والاستقرار بين الوثائق الأرشيفية خاصة المتقادمة التي تقل أو تنعدم فرص استعمالها، بل والإسهام في إتلاف الوثائق والتغذية عليها، وهذه القوارض والحشرات، يمكن أن تكون حاملة لطفيليات أو فيروسات مجهرية، يمكن نشرها على الوثائق الأرشيفية، وتزداد الصعوبة، في حالات تواجد وثائق أرشيفية يمتد عمرها لسنوات، بشكل يجعلها أكثر هشاشة وأكثر حساسية على مستوى إمكانية استقبال ونمو الطفيليات أو الفيروسات، خاصة في الحالات التي تكون فيها المكاتب أو المستودعات الأرشيفية تحت رحمة "الإهمال" و"الإقصاء" و"التهميش" و"اللامبالاة"، وتسند مهام الإشراف عليها لموظفين أو مستخدمين "مغضوب عليهم" من طرف رؤسائهم الإداريين أو موضوع عقوبات إدارية.
وكلها ظروف لا تشكل فقط، تهديدا مستداما للوثائق الأرشيفية "الورقية" وما تحمله من مضامين تاريخية أو علمية أو تراثية أو هوياتية …إلخ، بل وتضع "نساء ورجال الأرشيف " وجها لوجه أمام واقع مهني، قد يعرضهم لجملة من الأمراض المهنية المتعددة المستويات أو لخطر الإصابة بالفيروسات، وفي ظل هذا الواقع، قد نتوقع "بعد زمن كورونا" أن تتحكم في الأرشيفيين، أحاسيس القلق والتوجس والشك في التعامل مع الوثائق الأرشيفية، تخوفا من طفيليات أو فيروسات صامتة أو أمراض محتملة، ومن المرتقب جدا، أن يرتفع منسوب الإقبال على شروط الصحة والسلامة (النظافة المستدامة، التعقيم …) في عدد من الإدارات ومقرات العمل وفي المنازل والمدارس، ولن يخرج "الأرشيفيون" عن هذه "الثقافة الوقائية" الآخذة في التبلور والتشكل، وما يزكي هذا الطرح، يرتبط بما استوعبناه في ظل "جائحة وباء كورونا" من دروس وعبر، رسخت في ذهننا كما في أذهان الكثيرين، قناعة لا لبس فيها، في أن العالم سيتغير بعد رحيل "كوفيد 19" من حيث السياسات والأولويات والمفاهيم والرؤى والتصورات، وأن الكثير من الممارسات والسلوكيات ستخضع إلى سنن التغيير أو على الأقل ستتحكم فيها "هواجس الفيروس التاجي"، وبالتالي، من المرتقب أن تغير الكثير من الإدارات والمؤسسات العامة والخاصة من ممارساتها الاعتيادية ووسائل ومناهج عملها انسجاما وتكيفا مع الزمن "ما بعد الكوروني"، ونرى في هذا الصدد، أن "الممارسة الأرشيفية" لن تخرج عن القاعدة.
وعليه، وحتى لا تكون "الممارسة الأرشيفية" خارج هذه اللحظة الخاصة والاستثنائية أو خارج روح "الزمن الكوروني" وما يطرحه من أسئلة مرتبطة بأرشيف ما بعد كورونا، و إسهاما منا في إثارة انتباه "مؤسسة أرشيف المغرب" باعتبارها الواجهة القانونية والمؤسساتية للأرشيف العامة، ومن خلالها الساهرين على تدبير الشأن الأرشيفي في عدد من الإدارات العمومية، إلى أهمية التفاعل مع ما نعيشه – منذ فرض حالة الطوارئ الصحية- من متغيرات مرتبطة بجائحة "كورونا"، والتفكير في السبل الممكنة لرسم معالم خارطة طريق "الممارسة الأرشيفية" بعد "زمن كورونا"، يمكن إبداء المقترحات التالية :
– لابد من القطع مع بعض الثقافات التي لا زالت سائدة في عدد من الإدارات، والتي لا تضع الأرشيف ضمن أولوياتها واهتماماتها بالرغم من تواجد قانون أرشيفي، ونظرتها إليه لا تتجاوز حدود الوثائق عديمة الفائدة أو الصلاحية، والتي لا تصلح إلا للتكديس في مكاتب أو مستودعات غالبا ما تكون "تحت أرضية" هي في الأصل بمثابة "أماكن اعتقال" لوثائق أرشيفية حية على درجة كبيرة من الأهمية بخلاف ما لازال يعتقده الكثير من الإداريين.
– لا مناص من الاعتراف بقيمة "الأرشيف" كجزء لا يتجزأ من الرأسمال اللامادي الوطني، وهذا يمر قطعا عبر الحرص على توفير أماكن (مكاتب، مستودعات) لائقة تستجيب للمعايير الدولية ذات الصلة بحفظ الأرشيف، تحترم فيها شروط الأمن والصحة والوقاية والسلامة، تسند مهام الإشراف عليها وتدبيرها، لموظفين أو مستخدمين متخصصين في الأرشيف أو على الأقل تلقوا تكوينات مستمرة في "علم الأرشفة" تسمح لهم بالتعامل الرصين مع الوثائق الأرشيفية المتواجدة تحت تصرفهم، لا من حيث التنظيم والحفظ، ولا من حيث التقيد باحترام ضوابط السر المهني.
– القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف (30 نونبر 2007) ومرسومه التطبيقي (رقم 2.14.267 صادر في 21 محرم 1437 (4 نونبر2015)، وضعا خارطة طريق الممارسة الأرشيفية، بأن ألزما الأشخاص والمؤسسات والهيئات المنتجة للأرشيف (2) بإعداد وتحيين جدول زمني للحفظ، يحدد آجال حفظ الأرشيف العادية (الوثائق التي يتم استعمالها بصفة اعتيادية ولمدة محددة) والأرشيف الوسيطة (الوثائق التي لم تعد مصنفة ضمن الأرشيف العادية) ومآلها النهائي (المادة 9)، وفي هذا الصدد، وفي ظل ما تعيشه الكثير من مكاتب ومستودعات الأرشيف من تكديس للوثائق الأرشيفية بالنظر إلى محدودية الأماكن المتاحة، لا مناص من التقيد بما تم وضعه من جداول زمنية للحفظ، من أجل فرز الوثائق، قصد تحديد الوثائق التي ينبغي حفظها نهائيا، وتحديد الوثائق المجردة من كل فائدة علمية أو إحصائية أو تاريخية، والتي يتعين إتلافها باتفاق مشترك بين الهيئة التي أنتجتها أو تسلمتها و "أرشيف المغرب" (المادة 10)، و في ذات السياق، فقد أولى المشرع الأرشيفي عناية بالأرشيف "الوسيطة"، التي يجب على الهيئات التي أنتجتها، تدبيرها وحفظها في أماكن معدة لهذا الغرض (خاصة بالأرشيف الوسيطة)، وكلها تدابير تنظيمية مؤطرة قانونا، من شأنها أن تخفف الضغط على مكاتب أو مستودعات الأرشيف، وتقطع – ليس فقط – مع كل "تكديس" مكرس للعشوائية والفوضوية، بل ويمكن أن تساهم في التصدي لما يمكن أن يتهدد الوثائق الأرشيفية من قوارض وحشرات وطفيليات أو فيروسات صامته، وفي ذلك حماية لصحة وسلامة الأرشيفيين. – ما فرضه المشرع الأرشيفي من إجراءات وتدابير "تنظيمية"، يفرض القطع بشكل لا رجعة فيه مع بعض العقليات السائدة التي زالت تنظر إلى "الأرشيف" كمكان مرادف للزجر والعقاب، يرسل إليه كل ما هو "مغضوب عليه" أو "موضوع عقوبات إدارية"، وعليه، ففلسفة وأهداف ومقاصد القانون الأرشيفي ومرسومه التطبيقي، تقتضي إسناد مهام "الأرشفة" لموظفين أو مستخدمين لهم ثقافة أرشيفية مسبقة، يمكن التعويل عليهم من أجل تدبير ناجع وفعال ومتبصر للأرشيف وفق ما نص عليه التشريع الأرشيفي من تدابير ومقتضيات، والإسهام في أجرأة وتنزيل مختلف الاستراتيجيات الأرشيفية على أرض الواقع. – جائحة "كورونا" فرضت على مختلف الإدارات الرهان على "الرقمنة" وما تتيحه تكنولوجيا الإعلام والاتصال من إمكانيات تواصلية هائلة، لضمان استمرار أنشطتها وخدماتها في ظل فرض حالة الطوارئ الصحية وما ارتبط بها من تدابير وقائية للحد من انتشار العدوى، وفي هذا الصدد، نؤكد أن الكثير من المؤسسات في عصرنا الحالي، باتت تتجه إلى التوسع في استخدام الأنترنيت ونشر معلوماتها الأساسية عليها، غير أن بعض المؤسسات بدأت أيضا باستخدام الأنترنيت كوسيلة للتخاطب مع الموظفين ومع فروع المؤسسة ومع الزبائن والشركاء والموزعين والمزودين، مما يجعل معظم نشاط المؤسسة الفعلي موجود بالفعل على الأنترنيت، وقد ساعدت البرمجيات المكتبية الحديثة على تحويل عمل الموظف في المكتب إلى جزء من مخزون الأنترنيت، ولا يقتصر ذلك على الشركات الخاصة، فطريقة العمل هذه بدأت تدخل المؤسسات الرسمية من أوسع الأبواب (3)، وهنا نؤكد، أن "الخيار الرقمي" وفي ظل "الأزمة الكورونية" بات خيارا لا بديل عنه للتوجه نحو المستقبل بأدوات العصر (المعرفة الرقمية). – الأرشيف في شموليتها، ما هي إلا مرآة عاكسة لما تنتجه الإدارات من أنشطة متعددة المستويات، وبما أن الكثير من الممارسات الإدارية، انخرطت بشكل لارجعة فيه، في "الرقمنة" وما توفره تكنولوجيا الإعلام والاتصال من فرص تواصلية، فهذا سيضعنا أمام ممارسة أرشيفية إلكترونية تتأسس على وثائق ذات "هوية إلكترونية" صرفة، بشكل قد يسحب البساط في قادم السنوات، من تحت أقدام الأرشيف التقليدي (الورقي). – باستقراء مقتضيات القانون الأرشيفي، يلاحظ أن المشرع الأرشيفي قد أشار على التوالي، إلى "الأرشيف الإلكترونية" في المادة 8، بعد أن أوجب على الهيئات المنتجة للأرشيف، بحفظ وتدبير "الأرشيف الوسيطة" في أماكن معدة لذلك، والقيام بحمايتها وحفظها تدريجيا في شكل "أرشيف إلكترونية"، وفي المادة 11، بعد أن أوجب تسليم "الأرشيف النهائية" إلى "أرشيف المغرب"(4)، كما أوجب على الهيئات المنتجة لهذه الأرشيف، القيام بحفظها تدريجيا في شكل "أرشيف إلكترونية"، ويمكن أن نستشف من خلال مقتضى المادتين، أن المشرع الأرشيفي يخاطب بدرجة أولى "الأرشيف الورقية"(التقليدية)، ومخاطبته للأرشيف "الإلكترونية" لم يتجاوز حدود دعوة الهيئات المنتجة للأرشيف بالعمل على حفظ الأرشيف "الوسيطة" و"النهائية" بشكل تدريجي، في شكل "أرشيف إلكترونية"، بعيدا كل البعد، عن أي طابع "إلزامي" من شأنه إلزام الهيئات المنتجة للأرشيف، إلى تحويل أرشيفها إلى "أرشيف إلكترونية"، دون إغفال، إبعاد "الأرشيف الجارية" عن دائرة "الاهتمام الإلكتروني"، وهو معطى، يجعل "النص التشريعي" عاجزا عن مواكبة ما يحدث من متغيرات وممارسات "رقمية"، تطلق العنان لبروز "الأرشيف الإلكترونية" التي قد تتحول إلى "قاعدة" في ممارسة أرشيفية جديدة، تشكل فيها "الأرشيف التقليدية" (الورقية) "الاستثناء".
– موازة مع ما تمت الإشارة إليه، يمكن استعراض جملة من المبررات الموضوعية، التي تساهم في العزوف أو الابتعاد عن النشر الورقي التقليدي واللجوء إلى تقنية النشر الإلكتروني، منها على سبيل المثال لا الحصر : التكاليف المتزايدة المرتبطة بإنتاج وصناعة الورق، التأثيرات الجانبية لهذه الصناعة على البيئة (اجتثاث الغابات)، المشكلات التخزينية والمكانية للوثائق الورقية (التوسع في اقتناء الوثائق والمصادر الورقية، يحتاج إلى مساحات مكانية كبيرة للحفظ والتخزين، مما يفرض دوما توسيع البنايات والمخازن)، خصوصيات الوثائق الورقية (العرضة للتلف والتمزق) لكثرة استعمالها من طرف القراء والباحثين، مشكلات مرتبطة بتكاليف نقل وشحن الوثائق الورقية، المشكلات التوثيقية وإجراءاتها (الجهود المبذولة في تنظيم وتصنيف وفهرسة الوثائق الورقية …)، طبيعة المستفيد المعاصر، سواء كان باحثا أو مخططا أو صانع قرار، وحاجته إلى المعلومات السريعة والوافية والدقيقة، والتي أصبحت الطرق التقليدية عاجزة عن تلبيتها وتأمينها، وكذا الفرص التي تتيحها الحواسب وتكنولوجيا الإعلام والاتصال المصاحبة لها، في إيصال كل أنواع المعلومات السريعة والوافية والدقيقة إلى الباحثين والمستفيدين الآخرين في أماكن عملهم، ووضعها رهن إشارتهم إلكترونيا، موفرة لهم بذلك، الوقت والجهد، ومؤمنة لهم الشمولية والدقة، فيما يحتاجون إليه من معلومات (5).
– مؤسسة "أرشيف المغرب" وفي إطار التدابير الاحترازية للحد من انتشار فيروس "كوفيد 19″، بادرت منذ 16 مارس الماضي وحتى إشعار آخر، إلى تعليق جميع المظاهرات الثقافية والعلمية وخدمات قاعة المطالعة و رواق الأرشيف، وهذا التعليق الذي لا بديل عنه، في ظل التعبئة الجماعية ضد "وباء كورونا المستجد"، يفرض استحضار خصوصيات هذه اللحظة الخاصة والاستثنائية وحسن استثمار معطياتها، للتفكير في البحث عن البدائل التي من شأنها ضمان استمرارية أنشطتها وخدماتها، والإبقاء على جسور التواصل قائمة مع مرتفقيها، وقد تبين بالملموس أهمية "الرقمنة" التي شكلت البديل الناجع والخيار المناسب الذي لجأت إليه الكثير من المؤسسات والهيئات، كآلية من آليات التصدي للفيروس المحير والتأقلم الاضطراري مع ما فرضه من واقع و طقوس غير مألوفة، وفي هذا الصدد، باتت الحاجة ماسة لخلق بوابة إلكترونية لتقديم "الخدمات عن بعد" ( خلق مكتبة رقمية تتيح تقديم وثائق أرشيفية رقمية عن بعد، معارض عن بعد، ندوات عن بعد …إلخ) بشكل قد يسمح بكسب رهان "أرشيف القرب".
– جائحة كورونا المستجد، بما أنها "أزمة صحية بامتياز" حاملة لتداعيات متعددة المستويات (سياسية، اقتصادية، اجتماعية، تربوية، نفسية …)، فلا شك أنها ساهمت وستساهم مستقبلا، في بروز سلوكات وتصرفات تتحكم فيها هواجس الحيطة والحذر والوقاية والسلامة حرصا على الصحة الخاصة والعامة، ولا شك أن الإدارات العامة والخاصة والمؤسسات التعليمية والأماكن العمومية، ستكون ملزمة بالحرص على التقيد بالضوابط الوقائية والاحترازية (النظافة، التعقيم، التباعد الاجتماعي، مسافة الأمان، استعمال الكمامات …)، وهي تدابير لابد أن تحضر بقوة في "الممارسة الأرشيفية" بالنظر لخصوصيات وحساسيات الوثائق الأرشيفية التي قد تشكل أسطحا "آمنة" لانتشار ونقل الطفيليات والفيروسات المحتملة، وما تعرفه معظم أماكن حفظ الأرشيف من تهميش ولامبالاة في عدد من الإدارات، لذلك، لا مناص من العناية بالجانب الوقائي، حرصا أولا على سلامة صحة الأرشيفيين، وحماية للوثائق الأرشيفية الموضوعة تحت تصرفهم، وتعزيزا لهذا البعد الوقائي، نقترح، أن تخضع أماكن حفظ الأرشيف لمراقبات طبية دورية، تطال الأرشيفيين للتثبت من سلامتهم الصحية، وتقنية تستهدف الوثائق الأرشيفية، للتثبت من سلامتها ومدى خلوها من أي فطريات أو فيروسات، من شأنها المساس المباشر بصحة الموظفين أو المستخدمين، كما نقترح إعادة تهيئة مكاتب أو أماكن حفظ الأرشيف، بشكل يراعي شروط الأمن والصحة والسلامة، ويستجيب للمعايير الدولية ذات الصلة بحفظ الأرشيف، أما فيما يتعلق بمؤسسة "أرشيف المغرب" – الحضن القانوني والمؤسساتي للأرشيف العامة – فنجدد الدعوة، من أجل تمكينها من مقر جديد بمواصفات معمارية عصرية يليق بمستوى مؤسسة ذات طابع استراتيجي، يستجيب للمعايير الدولية ذات الصلة بحفظ الأرشيف، حتى يتسنى لها الاضطلاع بمهامها في أجواء مهنية ووقائية وصحية لائقة، كما نجدد الدعوة لتدعيم مواردها البشرية (الرفع من الحصيص) والارتقاء بقدراتهم المادية واللوجستية، بشكل يتيح لهم، إمكانية التثبت من مدى التزام الإدارات، بتنفيذ قانون الأرشيف ومرسومه التطبيقي على مستوى واقع الممارسة الأرشيفية (الرقابة القبلية).
ما أشرنا إليه من معطيات واعتبارات، ليس معناه أننا نحاول إزاحة "الممارسة الأرشيفية التقليدية" (الورقية)، التي لازالت تشكل عصب حياة النشاط الإداري بكل مستوياته على الأقل في الزمن الراهن، والدعوة إلى تبني "الطرح الإلكتروني" جملة وتفصيلا، لكننا في ذات الآن، ندرك تمام الإدراك، أن "جائحة كورونا"، بالقدر ما أربكت العالم وبعثرت أوراقه، بالقدر ما تفرض على الدول والحكومات والمجتمعات والمؤسسات والهيئات العامة والخاصة والأفراد، استخلاص الدروس والعبر التي جاد بها الفيروس التاجي، من أجل الجواز الآمن والسلس إلى عالم جديد، برؤى وأولويات ومفاهيم وهواجس وتحديات جديدة، وبالنسبة لمؤسسة "أرشيف المغرب"، لابد لها أن تستعد من الآن، لمواجهة المستقبل، بمنهجيات رصينة ورؤى متبصرة، وعليها أن تنخرط في أبحاث جديدة، من شأنها أن تحسم في بلورة "هوية" أرشيف المستقبل، من حيث الماهية والطبيعة القانونية ومعايير السرية والأمن وطرق الإتاحة واستراتيجيات التواصل وغيرها، وإذا كانت "الرقمنة" قدرا لا بديل عنه في "عالم ما بعد كوفيد 19″، فهي مناسبة لزحزحة قارات القانون الأرشيفي بعد مضي 13 سنة من دخوله حيز التنفيذ، ومساءلة بعض مقتضياته، بشكل يسمح باستيعاب "رهان الرقمنة" (الأرشيف الإلكترونية، الأرشيف الرقمية، الجريمة الإلكترونية الماسة بالأرشيف، الأرشيف الجهوي …)، حتى لا يكون متجاوزا، ونرى أن "الجائحة الكورونية" هي فرصة سانحة لمساءلة التجربة الأرشيفية الوطنية، استعدادا لزمن "ما بعد كورونا"، ونختم بالقول، أننا ارتأينا أن يكون عنوان هذا المقال على شكل سؤال (أية ممارسة أرشيفية بعد زمن كورونا؟)، ولا ندعي أننا قدمنا الحلول أو طرحنا الأجوبة الناجعة، لكن حاولنا تقديم نظرة "من خارج" البيت الأرشيفي، تاركين لمعشر الأرشيفيين سواء بمؤسسة "أرشيف المغرب" أو على مستوى مصالح الأرشيف بمختلف الإدارات، المجال مفتوحا، لينخرطوا في نقاش مشروع لا بديل عنه، لتحديد ملامح "هوية" أرشيف "ما بعد كورونا"…في لحظة عالمية "استثنائية" تقوي سلطة الاجتهاد والاقتراح والإبداع والابتكار… [email protected]
– هوامش : (1) نصت المادة 1 من القانون الأرشيفي على ما يلي : "يراد في مدلول هذا القانون ب "الأرشيف" جميع الوثائق كيفما كان تاريخها وشكلها وحاملها المادي الذي ينتجها أو يتسلمها كل شخص طبيعي أو معنوي وكل مصلحة أو هيئة عامة أو خاصة خلال مزاولة مهامهم …". (2) نصت المادة 3 من القانون الأرشيفي على ما يلي : "تتمثل الأرشيف في جميع الوثائق التي تكونها في إطار مزاولة نشاطها: الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات والمنشآت العامة، الهيئات الخاصة المكلفة بإدارة مرفق من المرافق العامة في ما يتعلق بالأرشيف الناتجة عن نشاط هذا المرفق، وتشمل الأرشيف العامة كذلك، الأصول والفهارس التي يكونها الموثقون والعدول وسجلات الحالة المدنية وسجلات مصلحة التسجيل …". (3) جواد التباعي "الأرشيف الإلكتروني: مزاياه وطرق إنتاجه"، موقع "الحوار المتمدن"، 10/1/2013 (تاريخ التصفح : 16 ماي 2020). (4) مؤسسة أحدثت سنة 2011، بموجب المادة 26 من القانون الأرشيفي، تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي .. يوجد مقرها بالرباط، وتناط بها حسب مقتضى المادة 27، مهمة صيانة تراث الأرشيف الوطني والقيام بتكوين أرشيف عامة وحفظها وتنظيمها وتيسير الاطلاع عليها لأغراض إدارية أو علمية أو اجتماعية أو ثقافية. (5) جواد التباعي "الأرشيف التقليدي : أهميته وتحدياته"، موقع "الحوار المتمدن"، 9/1/2013 (تاريخ التصفح : 16 ماي 2020).