الجزء الأول/ عرفت مدونة الشغل مخاضا عسيراً طيلة عقود من الزمن لإخراجها إلى حيز الوجود، بحيث كان التشريع الاجتماعي عبارة عن شتات من النصوص التشريعية المتناثرة والمتقادمة، وكان من الصعب الاحاطة بها جميعها والالمام بها، وقد اضطرت الحكومة المغربية لتجميع هذه النصوص المتفرقة من أجل اعداد مشروع مدونة الشغل يسهل الرجوع اليه من طرف مختلف المؤسسات القضائية والرقابية. إن موضوع إخراج مدونة الشغل كان من ضمن المطالب الأساسية التي جاء به التصريح المشترك لفاتح غشت 1996[1]، ومع دخول المغرب تجربة التناوب التوافقي وضعت صيغة جديدة لمشروع مدونة الشغل سنة 1998، عرضت على لجنة مكونة من ممثلي المشغلين والنقابات العمالية الاكثر تمثيلية بهدف دراستها، وفي سنة 1999 تم إحالتها على مجلس المستشارين الذي تقدمت فيه النقابات العمالية بتعديلات جديدة والتي على إثرها عملت الحكومة الجديدة على إجراء تعديل على النص سنة 2002، وفي إطار الحوار الاجتماعي الثلاثي الاطراف[2] أعطى اتفاق 30 أبريل 2003[3] دفعة قوية لمناقشة مشروع مدونة الشغل، والذي تم التوصل إلى نص توافقي بشأنه أحيل على المجلس المستشارين، وبعد المصادقة عليه أحيل على البرلمان الذي صادق عليه كذلك بالاجماع، و في الأخير صدرت مدونة الشغل الجديدة بموجب القانون رقم 65.99 الصادر بتنفيذه الظهير شريف رقم 1.03.194 بتاريخ 14 رجب 1424 الموافق ل11 شتنبر 2003([4])، والتي بدأ العمل بها في 8يونيو 2004. وتعد نتائج الحوار الاجتماعي إحدى ثمرات النضال المستمر والمتواصل للشغيلة المغربية وبقيادة النقابات العمالية، والحوار الاجتماعي آلية أساسية في تطوير علاقات التعاون بين الحكومة وشركائها الاقتصاديين والاجتماعيين، وقد جاء الدستور 2011 في فصله الثالث عشر ليشرك مختلف الفاعلين الاجتماعيين، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها، نظرا للدور الحيوي الذي يشكله الحوار الاجتماعي في ترسيخ البناء الديمقراطي وانعاش التنمية الاقتصادية وتوطيد الاستقرار الاجتماعي. وقد انتقلت أطراف الإنتاج من المرحلة الانتاجية والانغلاق على الذات إلى مرحلة الحوار والمفاوضة الجماعية، لكن هذا لايعني أن كل المقاولات تعرف انفراجا في الحوار بين النقابات وأرباب العمل، بحيث يتم الجلوس للحوار حول نفس الطاولة حسب موازين القوى وحسب نوعية القطاع، لأنه مازال إلى يومنا هذا مؤسسات ومقاولات ينعدم فيها العمل النقابي إما نتيجة ضعف القدرة على التنظيم النقابي أو نتيجة محاربة العمل النقابي داخلها، في الوقت الذي تعرف داخل هذه المقاولات تجاوزات وانتهاكات لحقوق الأجراء، نتيجة ضعف في فرض احترام سلطة القانون الذي يعتبر من اشكاليات تطبيق أحكام مدونة الشغل من طرف المقاولات. كان من الواجب أن يبادر الأجراء والمشغلون إلى تطبيق المدونة من تلقاء أنفسهم بدون تدخل أجهزة المراقبة أو القضاء، والواقع أن تطبيق مدونة الشغل يقع على عاتق المقاولة أو المؤسسة التي تحترم نفسها قبل الأجير، لأن احترام القانون يكمن في مدى تطبيقه على أرض الواقع لتفادي الاحتقان الاجتماعي، لكن قد يصادف هذا التطبيق إكراهات ومعيقات أو صعوبات تحول دون تطبيقها على أرض الواقع. إذاً كيف يمكن الانتقال من الاكراهات والصعوبات التي تعيق مدونة الشغل بعد عشر سنوات من تطبيقها إلى ضرورة تعديلها[5] ؟ سنتناول هذا الموضوع في قسمين، القسم الأول يتعلق بالإكراهات التي تعيق مدونة الشغل بعد عقد من التطبيق، والقسم الثاني يتعلق بمراجعة أحكام المدونة ومدى ضرورة تعديلها. أولا : الإكراهات التي تعيق مدونة الشغل بعد عقد من التطبيق من الاكراهات الكبرى التي تعيق تطبيق مدونة الشغل في اعتقادنا والتي نعتبرها ركيزة أساسية في حماية القانون، هي أجهزة المراقبة -أي الأعوان المكلفون بتفتيش الشغل- (المواد 530 إلى 548)، التي تعرف خصاصا كبيرا في مواردها البشرية، هذا الجهاز الذي يسهر على تطبيق الأحكام التتشريعية والتنظيمية المتعلقة بالشغل. لقد سبق وأن أكد اتفاق 30 أبريل 2003 على الدور الذي يجب أن يلعبه جهاز تفتيش الشغل في مراقبة تطبيق قانون الشغل بصفة عامة والتشريعات المتعلقة بالحقوق والحريات النقابية بشكل خاص، مع مد هذا الجهاز بالإمكانيات المادية والبشرية اللازمة حتى يتسنى له أداء المهام المنوطة به على الوجه المطلوب. وقد عملت مدونة الشغل على توسيع مجال اختصاصات أجهزة المراقبة للقيام بدورها الفعال كجهاز للمراقبة من خلال الكتاب الخامس والسادس من المدونة، إلا أن ضعف جهاز تفتيش الشغل (المتجه نحو الانقراض) نتيجة انعدام المناصب المالية التي من شأنها تعويض الخصاص الذي يعانيه وكذا ضعف وسائله المادية والقانونية، تعتبر من الأسباب الرئيسية التي تعرقل تطبيق المدونة. وإذا كان لوجود أجهزة المراقبة دور كبير في تقليص عدد النزاعات التي تطرح على القضاء عن طريق مسطرة الصلح[6]، فإن غيابها من جهة يساهم في تزايد مستمر في نزاعات الشغل الفردية منها والجماعية، أمام ضعف قيامها بإجراء محاولات التصالح المنصوص عليها قانونيا في المدونة، ومن جهة أخرى يؤدي هذا الغياب إلى إغراق المحاكم في ملفات نزاعات الشغل، ثم كذلك جتى وان وجدت هذه الأجهزة، فإنها عاجزة على إقناع المشغلين باحترام المدونة. هذا فضلا، على أن غياب أجهزة المراقبة أدت لامحالة إلى استفحال ظاهرة عدم تطبيق قانون الشغل، حيث انعكس هذا الغياب على عديد من المقاولات والمؤسسات التي: . تتم فيها تغييب مؤسسة مندوب الأجراء التي تعتبر إحدى الركائز الأساسية في تنظيم علاقة الشغل بين المشغل والأجراء، والتي تساهم بالدرجة الأولى في حل خلافات الشغل وفض مختلف النزاعات القابلة للاندلاع في أي لحظة، وتنمية العلاقات المهنية[7]، والذين ينتخبون في جميع المؤسسات التي تشغل اعتياديا ما لا يقل عن عشرة أجراء دائمين (المواد 430 الى 462). . تنعدم فيها تواجد الانظمة الداخلية التي ألزمها المشرع على المقاولات والمؤسسات بالتوفرعلىها خلال السنتين المواليتين لإنشائها (المادة 138) [8]، إذ لا نجد إلا 170 مقاولة من أصل 18000 التي تشتغل اعتياديا 10 أجراء فأكثر التي تتوفر على النظام الداخلي[9] ؛ . تنعدم فيها اتفاقيات الشغل الجماعية التي تحتل مكانة أساسية في ضبط العلاقات المهنية والتي غالبا ما تتضمن امتيازات لصالح[10] الطرفين؛ . تتم فيها تغييب لجان المقاولة بالنسبة للمقاولات التي تشغل اعتياديا خمسين أجيراً على الأقل (المادة 464)، حتى وإن وجدت هذه اللجان فإن أعمالها مجمدة و لا يتم استشارتها في الإستراتيجية الإنتاجية للمقاولة ولا في تغييراتها الهيكلية والتكنولوجية، في الوقت الذي نجد أن المشرع الفرنسي فرض على المشغل تقديم سنويا عرضا شاملا للجنة المقاولة حول وضعيها الاقتصادية ومنجزاتها المستقبلية، هذا العرض الذي يحتوي على تقارير نشاط المقاولة ورقم المعاملات والفائض الإجمالي من الإنتاج والاستثمار وكل تطور في حجم الأجور ورقمها، وكذا حجم الاستثمارات والمقترحات المتعلقة بالنشاط المزمع تنفيذه في الخطة المقبلة[11]. . تتم فيها تغييب لجان الصحة والسلامة التي تحدث لدى المقاولات الصناعية والتجارية ومقاولات الصناعة التقليدية والاستغلالات الفلاحية والغابوية وتوابعها، والتي يعمل فيها خمسون أجيرا على الأقل (المادة 336 ) وحتى وإن وجدت في بعض المقاولات فإن أعمالها تبقى غير مفعلة؛ . تنعدم فيها مصالح طبية مستقلة للشغل أو مصالح طبية مشتركة، بالنسبة المقاولات الصناعية والتجارية ومقاولات الصناعة التقليدية والاستغلالات الفلاحية والغابوية وتوابعها التي تشغل ما لا يقل عن خمسين أجيرا[12] (المادة 304)، حيث نجد 896 مقاولة فقط من أصل 2446 لتي تتوفر على المصالح الطبية للشغل[13]. . أصبح المشغلون فيها يحتفظون على بأجرائهم المتقاعدين بدون قرار من السلطة الحكومية المختصة (المادة 526 الفقرة الأولى)، في الوقت الذي يتزايد فيه عدد المعطلين؛ . أصبح المشغلون فيها يحيلون أجرائهم على التقاعد حتى وان لم يكونو قد استوفوا 3240 يوم، وهي المدة المطلوبة للاستفادة من تأمين الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ( المادة 526 الفقرة الثانية)؛ . تنعدم فيها التصريح بالأجراء في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وما يترتب على ذلك من انعكاسات سلبية على حقوقهم وواجباتهم الاجتماعية؛ . يتم فيها المس بالحريات النقابية[14]، وقد خرج الاتحاد الدولي للنقابات في مؤتمره الثالث[15] بتقرير يصنف المغرب ضمن أسوء الدول في معاملة العمال من حيث الحماية القانونية والحريات النقابية؛ . ... هذا من جهة، ومن جهة أخرى، هناك خلل في تطييق مدونة الشغل والذي يتعلق أساسا بالتعثر الذي يعرف الحوار الاجتماعي أولا على الصعيد الوطني بين مكونات الأطراف الثلاث، كل من الحكومة والنقابات العمالية الأكثر تمثيلية و المنظمة المهنية للمشغلين، والذي يتطلب تفعيل آليات الحوار مع المأسسة الفعلية للحوار كقاعدة أساسية لتدبير مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية، و ثانيا على صعيد المقاولات والمؤسسات، وهو مدى توفر الحكومة على آليات كفيلة لتحقيق نجاعة الحوار والمفاوضة الجماعية والذي يتطلب معاقبة و ردع كل المخالفات ودفع المشغلين إلى التقيد بالأحكام القانونية. وعليه، إن تطبيق مدونة الشغل يحتاج إلى حوار حقيقي، باعتباره أحد الأسس الضرورية لتطوير العلاقات المهنية واستقرارها واقرار السلم الاجتماعي والحفاظ على رصيد الشغل داخل المقاولات والمؤسساتالإنتاجية، والحوار يعتبر أداة فعالة يساعد على تسوية المشاكل الصعبة وتعزيز التماسك الاجتماعي، كما أن الحوار يعمل على تشجيع المفاوضة الجماعية التي تعتبر من أهم المستجدات التي استحدثتها مدونة الشغل، بعد إدراجها لأول مرة لمقتضيات قانونية تتعلق بالمفاوضة الجماعية بين عنصري الانتاج من خلال المواد 92 إلى 103 من المدونة، ومن ثم العمل على تشجيع إبرام اتفاقيات الشغل الجماعية التي تعمل على بلورة طموحات الأجراء ومطالبهم وفق امكانيات المقاولة، والعمل كذلك على توفر المقاولات والمؤسسات على أنظمة داخلية. وفضلا عن ذلك، فإن تعثر تطبيق مدونة الشغل يرحع كذلك للثقافة السائدة لدى عموم المشغلين والتي تعتبر تواجد النقابة بالمؤسسة أو المقاولة هو عامل من عوامل إفلاس هذه الأخيرة، مع العلم أن خير وسيلة لسيادة السلم الاجتماعي داخل المقاولات والمؤسسات الخاضعة لقانون الشغل، هي الاعتراف للأجراء بحقهم في التنظيم والتكتل داخل منظمات نقابية تتولى الدفاع عن مطالبهم وحقوقهم مع إشراكهم في التدبير الاقتصادي والتدبير الاجتماعي لهذه المقاولات والمؤسسات[16]. وما يلاحظ، أنه إلى يومنا هذا لم تصادق الحكومة على الاتفاقيات الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية خاصة منها الاتفاقية رقم 87 المتعلقة بالحربات النقابية وحماية حق التنظيم النقابي، بالرغم من الدور الذي أولاه المشرع لأهمية الحق النقابي، والذي أدمجه ضمن الحقوق الأساسية للمواطن، حيث عمل على التنصيص عليه في كل دساتير المملكة 1962، 1970، 1972، 1992، 1996 و2011 الأخير من خلال الفصل الثامن، حيث لم يعد دور النقابة[17] يقتصر فقط عن الدفاع عن مطالب الأجراء، والمطالبة باحترام القوانين المنظمة للشغل، بل أصبحت إحدى أهم القوى الفاعلة لا سيما على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي[18]، وما ينطبق على النقابة ينطبق على انتخاب مندوب الأجراء والذي ينبثق عنه انتخاب كل من لجنة المقاولة (المواد 464 إلى 469) و لجنة الصحة والسلامة (المواد من 336 إلى 344). إلا أن هذه الاكراهات والمعيقات التي صادفت المدونة خلال عقد من التطبيق حتى وإن تم تجاوزها عمليا، فإن تعديل مدونة الشغل أصبح وارد ويفرض نفسه بالحاح، أمام إشكاليات أفرزتها الممارسة، حيث تتضمن المدونة مقتضيات يصعب تطبيقها لوجود خلل في التطبيق، مما يتوجب معه تعديل عدة أحكام بالمدونة، وتعديلها لا يتحقق إلا عن طريق مفاوضات حقيقية بهدف جعلها تتلاءم وتستجيب للتحولات الاقتصادية والاكراهات الاجتماعية التي يعرفها العالم وبالخصوص المغرب. هذا ما سنتناوله في القسم الثاني المقبل