السياق العام لنشأة المدارس الحرة قبل الحماية، كان التعليم المغربي جد متدهور، كان هناك مسيد في كل قرية، وفي المدن توجد مسايد عديدة، يعمل بها فقيه "مشارط" وفق تعاقد شفوي يتجدد سنويا... ثقافة الفقيه متواضعة، يستخدم العنف لأن الأب يقول له حين يأتيه بالطفل أول مرة: "إنه ابنك، وإليك يعود أمر تربيته، أضربه وإذا ذبحته فأنا أدفنه". قبيل الحماية، كان طفل من كل ثلاثة يدرس بالمسيد، بمعدل عشرين تلميذ في كل مسيد، يلتحق التلميذ بالمسيد بين السنة الخامسة والسنة الثانية عشرة من عمره، وقد تمتد إلى الثامنة عشرة. يفصل المسيد الطفل لأول مرة عن العالم النسوي للأمهات والأخوات وقد كان التعليم حكرا على الذكور. كان القرآن هو المادة الرئيسية. في هذا الوضع جاءت الحماية ونقلت التعليم الفرنسي بحذافيره إلى الشمال مع الحرص على فرض تعليم فئوي محدود، وقد تم تخصيص "مدارس أبناء الأعيان" لأبناء أهل الترف والتجار والقواد، و"المدارس الحضرية" لأبناء الحرفيين وصغار الموظفين، و"المدارس القروية" لأبناء القرى العاملين في الزراعة. في ظل التعليم التقليدي المنهار والسياسة التعليمية الفرنسية الممنهجة، ظهرت الحركة السلفية المغربية، صحيح أن أفكار الحركة قد انتشرت بشكل محتشم في المغرب خلال سبعينات القرن التاسع عشر، لكن فرض الحماية هو الذي وفر للسلفيين مناخا مواتيا سياسيا ودينيا للاشتغال لدرجة أن السلطان مولاي عبد الحفيظ كان من دعاة السلفية حسب المؤلف، وقد حارب السلفيون المغاربة في آن واحد على واجهتين: أ- ضد أتباع الطوائف الصوفية الذين عارضوا الإصلاح. ب- ضد محاولات سلطات الحماية لفرنسة المغاربة. المدارس الحرة: الهوية أولا بعد سبع سنوات من فرض الحماية، تم تأسيس ثلاث مدارس حرة سنة 1919 وأربع سنة 1920، وبلغ العدد ثلاثين عام 1930. كانت المدارس تُسير من طرف لجنة من الوجهاء وقد اتسمت المدارس الحرة في هذه المرحلة بالخصائص التالية: 1- تصرف مؤسسو المدارس الحرة بشكل مستقل عن بعضهم البعض، إذ أخذ كل فرد زمام المبادرة في مدينته. 2- ينتمي المؤسسون إلى السلفيين والتجار والعلماء وأتباع الطوائف الدينية. 3 - لذا كانت المدارس الحرة دفاعا عن الهوية العربية الإسلامية أكثر مما كانت دفاعا عن الوطن "لأن ولاء المغربي (لأمته) آنذاك، كان غامضا ولم يتطور بعد، كانت الوطنية تنم نسبيا عن محتوى سياسي هزيل، إذ كانت تعني الدفاع عن الإسلام واللغة العربية"ص34. للتمسك بالهوية، كان لابد من: أ- محاربة المنكر الذي يتمثل في مظاهر الحياة المعاصرة والتي بدأت تخترق المجتمع المغربي مثل ارتداء السراويل الأوربية وتبرج العرائس وتسجيل صوت النساء وقراءة الصحف ص33. ب- مواجهة التهديد الثقافي الفرنسي الذي توطد له المدارس العمومية الفرنسية. 4-إنقاذ اللغة العربية. 5 تخصيص ساعات منتظمة قدر الإمكان للمواد المقررة. 6 إضافة اللغة الفرنسية بشكل محتشم في بعض المدارس كمادة اختيارية. المشاكل التي واجهتها هذه المدارس هي: 1- تكثيف الحركة السلفية من هجمتها ضد الطوائف الدينية كحمادشة ودرقاوة... 2- إغراء سلطات الحماية للأساتذة البارزين وجلبهم إلى المدارس العمومية لإضعاف الطاقم البشري للمدارس الحرة ص48. 3- ابتزاز السلطات الفرنسية للآباء الذين تشغلهم لسحب أبنائهم من المدارس الحرة تحت التهديد بالتنقيل إلى أماكن نائية. 4- استقطاب السلطات الاستعمارية لأعضاء لجن الإشراف البارزين وتعيينهم في وظائف مغرية لإضعاف تسيير المدارس الحرة. كل هذه الصعوبات، لم تقلل من دور المدرسة الحرة، التي كان رد فعل ثقافي ضد الإستعمار والمدرسة العمومية "السكويلة"، وكانت أيضا "باكورة الأنشطة الوطنية" ص51. يختم المؤلف هذا الفصل بالإشارة الدلالة الإجمالية للمدارس الحرة في المرحلة الأولى الممتدة من 1919إلى 1931 قائلا "إلا أن المدارس الحرة في معظمها، لم تكن، في فترة العشرينات، تنم عن محتوى سياسي كبير، كما لم تكن تعرف أي تنظيم ممركز. لهذا لا يمكن أن نتحدث عن "حركة" مدارس حرة مغربية حقيقية في العشرينات. فالإنبثاق التدريجي لمثل هذه الحركة، واحتواؤها لعدة مدارس حرة لم يتم إلا بعد سنة 1930، وخاصة بعد سنة 1944، كجزء لايتجزأ من نمو الحركة الوطنية المغربية. " ص52. خصائص المدارس بين 1931و 1944 1- تعاظم الطلب على التعليم العصري. 2- في الأربعينات غدت المدارس الحرة "شعبية" ولم يقتصر تلامذتها على الطبقة الراقية. 3- جل أعضاء لجان الإشراف منتمون أو متعاطفون مع الكتلة. ص57 4- صارت جل المدارس تحتوي على طور ابتدائي كامل. 5- تم اعتماد منهج مزدوج (عربي وفرنسي) ببعض المدارس، بل ظهرت مدارس مزدوجة مثل مؤسسة أحمد جسوس في الرباط 6- تم تحسين أساليب التدريس. 7- تم استخدام كتب ومقررات مهربة من الشرق الأوسط رغم الحظر الفرنسي ص57، 8- بدأ تدريس العلوم وتمت زيادة حصص الحساب والتاريخ والجغرافية. 9- تم تعيين مدراء متفرغين، واشترط حصولهم على الشهادة الثانوية بعد 1937. 10- تم تعيين مدرسين حاصلين على شهادة الكفاءة. بل تمت برمجة الفرنسية التي كان يدرسها أساتذة التعليم العمومي الذين طردتهم مديرية التعليم العمومي لأسباب سياسية. 11- يجري العلماء تفتيشا للمدارس الحرة ويرفعون تقارير إلى القاضي بالرباط ص59. 12- نتيجة لهذا التوسع وتأثيره، اتخذت الإقامة العامة تداربير مختلفة لمراقبة المدرس الحرة عبر سلسلة من الظهائر. ص56 ثم لجأت إلى استعمال القوة وإغلاق بعض المدارس كما حصل عام 1937. (في نفس الفترة، كان الإسبان أكثر تسامحا تجاه المدارس الحرة في الشمال بسبب انشغالهم بالحرب الأهلية). يقول المؤلف "إن ما كان الفرنسيون يعارضونه، في الواقع بشأن المدارس الحرة، ليس تدريسها لمواد حديثة او مواد تقليدية، بل نشرها للروح الوطنية... وحينما كان مديرو المدارس يسجنون أو ينفون، فإنما كان ذلك بسبب أنشطتهم السياسية التي كانوا يمارسونها غالبا خارج المدرسة ممارستهم لها داخلها" ص71. أهداف المدارس الحرة لقد كان الفرنسيون يعارضون أهداف المدارس الحرة، وهي: 1- منح تعليم بديل لتلامذة المدارس الحرة، "كان الهدف الرئيسي للخطاب الوطني خلال الثلاثينات هو نشر اللغة العربية. فخوف الآباء من أن تصبح ذريتهم أقل تمسكا بالإسلام، وأقل مراعاة لمكارم الأخلاق بارتيادها المدارس العمومية، بقي مخيما على حقبة الثلاثينات، على الرغم من أنه بدأ يفقد بعضا من سطوته السابقة" ص60. 2- سد النقص الحاصل في مجال التعليم، إذ لم تكن المدارس العمومية الفرنسية أواخر الثلاثينات تستقطب إلا 2% من الأطفال البالغين سن التمدرس المقدر عددهم بمليون طفل على الأقل ص60. 3- إعداد الشباب المغربي لمواجهة الفرنسيين والإجهاز عليهم ص64. لإفشال تحقق هذه الأهداف، أصدرت مديرية التعليم العمومي ظهير فاتح أبريل 1935 المتعلق بالتعليم الخصوصي الإبتدائي الخاص بالمسلمين، للسيطرة على المدارس الحرة التي تسمح للوطنيين باحتضان الشباب، لكن تدخل السلطان محمد الخامس لإضافة بند يستثني "المدارس القرآنية" من دائرة تطبيق الظهير، أدت إلى إفلات المدارس الحرة من المراقبة لأن أصحابها يعتبرون مؤسساتهم مجرد "مسايد". ص69 أمام هذا الوضع، زاد انشغال الفرنسيين بالمدارس الحرة التي ينشط فيها الوطنيون، يقول عنهم أحد الفرنسيين "فبتدريسهم التاريح المغربي، ابتدعوا فكرة الوطن التي لم تكن حتى ذلك معروفة، ثم مجدوها بالأناشيد والترانيم" ص70، كانت العرقلة الإدارية لنشاط المدارس ثم الإغلاق والإعتقالات مجرد عربون لما سيقع في المرحلة الموالية. المدارس الحرة كقاعدة سياسية أحرزت حركة المدارس الحرة بين 1944 و1951 تطورا نوعيا وكميا تجاوز أهمية التطور الذي عرفته في العشرينات والثلاثينات، وقد تميزت حركة المدارس الحرة في هذه المرحلة بالسمات التالية: 1- وجود إدارة مركزية متمثلة في لجنة التعليم العليا وضمت علال الفاسي والمهدي بنبركة وآخرين وعملت كوزارة تعليم داخل حزب الإستقلال. 2- التنسيق والتعاون بين عدة مدارس 3- وجود مفتش تابع للجنة يزور المدارس ويعد تقارير يحيلها على اللجنة. 4- تدريب المدرسين 5- إحداث الشهادة الإبتدائية المعربة منذ 1945 6- وجود مدارس مختلطة للبنين والبنات. 7- وضع منهاج دراسي رسمي يفرض مقررا موحدا وهو ما لم يكن قائما سابقا ص80. 8- تدريس مقرر الثانوية العمومية الفرنسية بعد ترجمته ص99. انطلاقا من هذه المتغيرات، يستخلص المؤلف "وتشكل هذه العناصر التنظيمية، في جملتها، تحولا بارزا في طبيعة المدارس الحرة، ابتداء من سنة 1944. ولأول مرة حق الحديث عن "حركة" مغربية للمدارس الحرة بكل ما للكلمة من معنى"ص80 بالنسبة لأهداف الحركة في الأربعينات، يشير المؤلف إلى أنه بعد ترسيخ الدفاع عن الهوية واستمرار تعليم العربية، ظهرت أهداف جديدة للحركة منها: 1- معالجة عجز المدارس العمومية عن توفير التعليم للجماهير. 2- خلق نظام تعليمي مغربي مندمج معرب أساسا يقود إلى شهادة الباكلوريا المغربية. 3- الحصول على شهادة رسمية تكون النظير المعرب للشهادة الإبتدائية المسلمة من طرف المدارس العمومية الفرنسية. 4- إنشاء تعليم ثانوي عصري خاصة وأن جل المدارس الحرة كانت تقتصر على الطور الإبتدائي قبل 1944، 5- تنظيم دروس مسائية لمحاربة الأمية ونشر مبادئ حزب الإستقلال. ص84. 6- نشر الروح الوطنية في صفوف التلاميذ. ما كان لهذه الأهداف الضخمة أن تتحقق لولا ارتفاع مستوى الوعي الإجتماعي وتوسع قاعدة الحركة الوطنية ومساهمة أحزابها في بناء المدارس وتسييرها، وخاصة حزب الإستقلال والحزب الديموقراطي للإستقلال ص97، إضافة إلى جهود السلطان محمد الخامس الذي يكن له المؤلف تقديرا كبيرا. لقد درس محمد الخامس السلفية على يد عالمين جزائريين ثم اصطحب الشيخ محمد بلعربي العلوي خلال الأربعينات، وقد ظهر تأثر السلطان بالسلفية من خلال دعمه للتعليم، لذا عمل على: 1- دعم "مندوبية المعارف الإسلامية" وقد عمل المندوب بصلاحيات وزير تعليم مغربي وشجع تحويل المسايد إلى مدارس. 2- تخطي عرقة السلطة الإستعمارية لإنشاء المدارس التي تمولها الأوقاف 3- منح رخص شفوية للفقهاء لإضافة مواد حديثة إلى منهاجهم الديني وهذا خرق لظهير دجنبر 1937. 4- الامر بإصدار شهادة ابتدائية مغربية عام 1945 مما دفع المدارس الحرة لتحسين مستواها لزيادة حظوظ تلامذتها. 5- تدشين المدارس أو إرسال أحد أفراد الأسرة الملكية لتدشينها. 6- إنشاء المدرسة الأميرية برحاب القصر الملكي كي لا يرسل ابنيه (مولاي الحسن ومولاي عبد الله) إلى مدارس الحماية، ثم اختيار سبعة تلاميذ للدراسة مع كل أمير. 7- انتقاد التبذير في الأعراس والدعوة إلى الإنفاق على قطاع التعليم.ص86. 8- التبرع من ماله الخاص لإنشاء المدارس وتمويل تسييرها، يقول المؤلف "ولا تنتقص من كرم محمد الخامس تجاه المدارس الحرة في شيء، الإشارة إلى امتلاكه ثروة شخصية ضخمة" ص86. 9- مطالبة سلطات الحماية بالعمل على مراجعة تعليم المغاربة، وجوابا على ذلك أنشأ المقيم العام إيريك لابون "لجنة إصلاح التعليم" المشكلة من مستشرقين مثل ماسينيون وشارل أندري جوليان، إضافة إلى مغاربة مثل المهدي بنبركة ومحمد الفاسي... وقد قدم الجانب المغربي في اللجنة وثيقة أطلق عليها "ميثاق التعليم" عام 1946 تطالب بدعم المدارس الحرة وسن إجبارية التعليم... لم تسفر اللجنة عن شيء بسبب معارضة الاعضاء التابعون للإقامة العامة لتبني مشروع الميثاق. وقد عين السلطان لجنة صاغت منهاجا إنطلاقا من "ميثاق التعليم" ودخل المنهاج الذي عرف باسم "البرنامج الملكي" حيز التنفيذ في السنة الدراسية 1947-1948. بعد استعراض هذه التطورات، انتقل المؤلف لرصد رد فعل السلطات الإستعمارية على نمو حركة المدارس الحرة ومتغيراتها الجديدة. يقول أن الإقامة العامة خلال هذه الفترة كانت "منشغلة بمشاكل الحفاظ على الأمن والنظام العام، بحيث لم تكن تعير اهتماما كبيرا للمدارس الحرة. فإذا كان المسؤولون الفرنسيون، في الثلاثينات والأربعينات، ينشغلون كثيرا بمسألة نشر الروح الوطنية في المدارس الحرة، فإن الوطنية المناضلة، في فترة الخمسينات، أصبحت أمرا واقعا في صفوف العديد من المغاربة الراشدين"ص104 لدرجة أن بعض تلاميذ الثانويات بالدار البيضاء قد غادروا مقاعد الدراسة للإلتحاق بالمقاومة بعد خلع محمد الخامس. ص106. يمكن تقسيم رد الفعل هذا إلى فترتين، ما قبل عام 1951 وما بعده. 1- قبل 1951 لم تكن سياسة الإقامة العامة ثابتة بسبب تغير المسؤولين الاستعماريين، لذا تراوح رد الفعل بين غض الطرف وتقديم الإعانات للحفاظ على الهدوء في المدارس وتغيير الموظفين بآخرين تابعين لمدارس العمومية الفرنسية والتشديد في منح رخص فتح مدارس مزدوجة إضافة إلى إنشاء المدارس الفرنسية الإسلامية لاستنزاف المدارس الحرة وتقليص عدد تلامذتها. 2- بعد 1951 "شرعت الإقامة في فرض نظام بوليسي فعلي على المنطقة الفرنسية. وفي البادية، قام الجيش الفرنسي بقطع المواصلات بين القبائل، في حين كانت الشرطة تطوق الأحياء المهمة في المدن"ص102، وقد تضررت المدارس الحرة بسبب إغلاق بعضها أو اعتقال المديرين والمدرسين "عقابا لهم على وطنيتهم النضالية، وليس على أنشطتهم داخل المدارس"ص103 نتيجة لذلك تباطأ نمو المدارس الحرة بعد 1951 لأن المقاومة تقدمت إلى واجهة الأحداث يقول المؤلف "في أوائل الخمسينات، وفي سياق نمو حركة المقاومة وتزايد تجذر الكفاح المناهض للإستعمار، أصبحت المدارس الحرة مسألة متجاوزة" ص103 حينها لم يعد هناك صوت يعلو على صوت المعركة، غدا الرصاص وسيلة الحوار إلى حين رحيل الإستعمار لتتابع المدارس الحرة طريقها في اتجاه جديد. على العموم، فقد تطورت المدارس الحرة خلال المراحل الثلاث على صعيد الكم والكيف والدور السياسي: - المرحلة الأولى 1919- 1931 بلغ عدد المدارس الحرة 26 وتراوح عدد التلاميذ المسجلين بها بين 1500 و2000 تلميذ مقابل 6000 تلميذ مسلم في مدارسا لحماية ص30. وقد هدفت هذه المدارس إلى الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية. - المرحلة الثانية 1931-1944 بلغ عدد المدارس الحرة 31 وتراوح عدد التلاميذ المسجلين بها بين 6000 تلميذ و8000 تلميذ