بعد التحية والتقدير لكل شخص له رأي أو موقف، سلبيا كان أو إيجابيا، من المشاركة السياسية، وبالأخص من المشاركة في الانتخابات؛ وبعد التنويه بالمشاركين في الحراك السياسي بكل تجلياته، بغض النظر عن الخندق الذي يصطفون فيه، أوجه رسالتي هذه، حصريا، إلى كل الممتنعين والعازفين عن المشاركة في الاستشارات الشعبية. عزيزاتي، أعزائي الممتنعين والعازفين عن المشاركة في الانتخابات، اسمحوا لي أن أخاطبكم في هذا الموضوع، رغم أن بلادنا ليست في مرحلة انتخابات. لقد فكرت في أن أخاطبكم بواسطة هذه الرسالة نظرا لتأثير موقفكم، سلبيا، على ديمقراطيتنا الفتية؛ وغايتي من وراء هذه الخطوة، شيئان اثنان: إبراز أهمية المشاركة، من جهة، وتوضيح رهان المقاطعة، من جهة أخرى. قد توافقونني الرأي بأنه ليس بريئا أن تنطلق، منذ الآن، بعض الأصوات للدعوة إلى مقاطعة الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. ومن هنا، وجب الحذر لتجنب الوقوع في فخ المقاطعة (انظر إسماعيل الحلوتي، "إياكم وفخ مقاطعة الانتخابات"، نشر ب"نشرة المحرر" بتاريخ 4 فبراير 2019) حتى لا نقدم خدمة مجانية للذين لهم مصلحة في هذه المقاطعة، والتي لن تكون، بكل تأكيد، إلا ضد المصلحة العليا للوطن والمواطنين. ومن حق، بل ومن واجب، كل منا أن يتساءل عن الجهة التي تقف وراء هذه الأصوات وتحركها من وراء الستار، خاصة وأنها، في دعوتها لمقاطعة الانتخابات، تحاول الركوب على التجاوب الواسع والحماس الكبير الذي عرفته حملة المقاطعة التي استهدفت منتوجات ثلاث شركات كبرى، احتجاجا على ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية. وشتان، طبعا، بين الأمرين! ولفهم دواعي ورهانات الدعوة المبكرة إلى مقاطعة الانتخابات، علينا أن نتساءل عن الجهة (أو الجهات) التي تستفيد من ضعف المشاركة بفعل العزوف الانتخابي. ولا يحتاج الأمر إلى ذكاء وإلى كبير عناء لفهم هذه المعادلة. فبقدر ما ترتفع المشاركة، بقدر ما تُصعِّب الأمرَ على محترفي "الرشوة الانتخابية"؛ وبقدر ما تنخفض، بقدر ما تُسهِّل عليهم الأمرَ. وبمعنى آخر، فكلما ارتفعت نسبة المشاركة، كلما تقلصت نسبة الأصوات المحصل عليها من قبل الجهات التي تستغل فقر الناس وحاجتهم (وقد يكون في الدولة جناح يستفيد من غياب الديمقراطية؛ لذلك يسعى إلى إضعافها من خلال تمييع المشهد السياسي والممارسة السياسية). فالمشاركة المكثفة ليست، إذن، في صالح المستفيدين، انتخابيا، من الفقر والهشاشة. ولذلك، تجدهم يجتهدون في إبعاد الأصوات الغاضبة على الوضع (وما أكثرها !) من صناديق الاقتراع، حتى يبقى الأمر محصورا، من جهة، في المنتمين للأحزاب والمتعاطفين معها، وهم يشكلون أقلية ويصوتون تلقائيا لأحزابهم (وهي أكثر من ثلاثين حزبا؛ وهو ما يساهم في تشتيت الأصوات)؛ ومن جهة أخرى، يبقى الأمر محصورا في الحشود التي تستقطبها الرشوة الانتخابية. وللرشوة الانتخابية، وجهان؛ وجه مكشوف ووجه مُقنَّع. فالوجه المكشوف يتمثل في شراء الذمم، في سوق انتخابي، يشبه سوق النخاسة، يعقد بمناسبة كل استحقاق، تُستَغَل فيه الفئات الشعبية الفقيرة، إما كأعوان لجلب الأصوات وإما كمانحين لأصواتهم مقابل مبلغ مالي زهيد. ويستفيد أصحاب هذا السوق من تراخي السلطات في محاربة هذه الظاهرة المشينة والمسيئة لديمقراطيتنا الفتية. والوجه المُقنع لا يختلف عن الأول في الأهداف والغايات؛ لكنه يختلف عنه في الأسلوب. فهو يتستر وراء العمل "الخيري"، إلى جانب توظيف العمل الجمعوي (المدعوم بمنح سخية من المال العام) في استغلال الفقر والهشاشة. ولضمان أصوات الفئات المعوزة، لا يكتفي أصحاب هذا الوجه بتقديم بعض الإعانات العينية، بل "يُعلِّبون" ذلك في خطاب إيديولوجي يستغل المشترك بين المغاربة؛ وأعني به الدين الإسلامي الحنيف . واعتمادا على هذا التحليل البسيط والواقعي، ارتأيت أن أخاطب، من خلال هذه الرسالة، عقل وضمير كل شخص لا يشارك في الانتخابات، إما بناء على موقف سياسي مبني على تحليل معين أو قرار صادر عن التنظيم الذي ينتمي إليه، وإما جهلا بأهمية هذه المشاركة وقدرتها على التأثير في الواقع وفي وضع المؤسسات التمثيلية، وإما سخطا على التجارب السابقة ويأسا من الوضع بسبب تراكم الخيبات، وإما مجرد لامبالاة تجاه كل ما يخص الشأن العام وتدبيره... فإذا استحضر كل منا علاقة السياسة، وبالتالي الانتخابات، بتدبير شؤوننا اليومية، محليا ووطنيا، واستحضر مستوى جودة أو رداءة الخدمات التي تقدمها لنا المؤسسات التمثيلية والتدبيرية، فسوف يدرك (أو من المفروض أن يدرك) كل من يقاطع الانتخابات مدى الضرر الذي يلحقه بمصلحته الشخصية (وبالمصلحة العامة) بسبب تخليه عن حق من حقوقه الدستورية. فبالانتخابات، تدار وتدبر شؤوننا المحلية من قبل الجماعات الترابية. وبالانتخابات، تدار وتدبر شؤوننا الوطنية؛ ذلك أن الانتخابات التشريعية هي التي تفرز الأغلبية البرلمانية التي تتشكل منها الحكومة؛ وهذه الحكومة تدبر الشأن العام لولاية كاملة (خمس سنوات في الدستور المغربي)، بناء على برنامج حكومي يصادق عليه البرلمان. وبتخليك، عزيزي المقاطع، عزيزتي المقاطعة، عن حقك في التصويت، تتخلى عن حقك في اختيار من سيمثلك إما محليا (على مستوى الجماعة الترابية) وإما وطنيا (على مستوى البرلمان). بعد ذلك، لا تلومَنَّ إلا نفسك إن تردت الخدمات على مستوى الجماعة بسبب غياب الكفاءات؛ ولا تلومن إلا نفسك إن أفرزت الانتخابات التشريعية أغلبية هشة وحكومة ضعيفة. ولن تستطيع بعد ذلك لا أن تساهم في إيقاف قراراتها المجحفة، ولا أن تطمع في تغيير الأوضاع المزرية لفئات الشعب الفقيرة وتحسين أوضاع الطبقة المتوسطة؛ بل العكس هو الذي سيحصل: مزيدا من تردي الأوضاع حتى بالنسبة للطبقة المتوسطة. ويجب أن نعي جميعا أهمية الانتخابات ورهاناتها المطروحة أمامنا كمواطنين. فعلى المستوى المحلي، فهي التي تحدد من هي الجهة التي سوف تسير وتدبر شؤون الجماعة الترابية التي ننتمي إليها؛ فإما أن تحسن هذه الجهة التدبير (إن أحسنا الاختيار)، وإما أن يعم، في ولايتها، سوء التدبير، فتتردى الخدمات، إن أسئنا الاختيار. ونفس الشيء على المستوى الوطني، فالانتخابات هي التي تعطينا من سيدبر الشأن العام. وإذا كان فاقد الشيء لا يعطيه، كما هو معلوم، فإن عدم المشاركة في الانتخابات التشريعية من قبل جزء كبير من الطبقة الوسطى ومن الشباب، يعطينا برلمانيين ضعافا فكريا وسياسيا ويعطينا أغلبية برلمانية هجينة وحكومة بوزراء غير أكفاء، فيُعقِّدون أوضاع البلاد بسوء التدبير. ولنا أن نتأمل وضعنا الحالي ونُقيِّم ما حدث خلال العشرية الأخيرة لاستخلاص الدروس الضرورية. وليس هناك من وصفة سحرية قادرة على إيقاف التدهور. فضعف المؤسسات من ضعف مكوناتها. وإذا لم تتصالح الفئات العريضة من المواطنين (طبقة وسطى وشباب) مع صناديق الاقتراع، فسيبقى بناؤنا الديمقراطي هشا وسينعكس ذلك سلبيا على أوضاعنا الاجتماعية والثقافية والحقوقية وغيرها. لقد كان منتظرا أن يخطو المغرب خطوات متقدمة على درب الديمقراطية مع دستور 2011 ذي المضمون المتقدم جدا مقارنة مع الدساتير السابقة. لكن النخبة السياسية التي أفرزتها انتخابات 25 نونبر 2011، بفعل تدني نسبة المشاركة، لم تكن في مستوى المرحلة، فأخلفت الموعد مع التاريخ ومع شعاراتها الانتخابية. فلا هي عملت على تمتين البناء الديمقراطي وتحصينه، ولا هي سعت إلى تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال محاربة الفساد وتحسين الأوضاع المادية للمواطنين؛ بل العكس هو الذي حصل. والواقع الحالي شاهد على ما أقول. فلتتأكد، إذن، عزيزي المتخاصم (أو المتخاصمة) مع صناديق الاقتراع، بأنك، إذا لم تغير رأيك، فسوف تساهم، بوعي أو بدونه، في تكريس الوضع الهش لديمقراطيتنا؛ وبالتالي، لمؤسساتنا التمثيلية. وليتأكد كل حالم بالديمقراطية بأن لا ديمقراطية بدون أحزاب. ومهما يكن ضعف أحزابنا ومهما تكن نظرتنا لهذه الأحزاب، فإنها هي التي ستدبر شؤوننا اليومية محليا ووطنيا. وهي التي ستشرع وتخطط، من خلال نوابها بالبرلمان ووزرائها في الحكومة، لحاضرنا ومستقبلنا. والحزب، كما هو معلوم، هو تنظيم سياسي له برنامج اقتصادي واجتماعي (أو لنقل: له مشروع مجتمعي)، يسعى إلى تطبيقه في حال وصوله إلى السلطة. وفي كل الديمقراطيات، الوصول إلى السلطة لا يكون إلا بالانتخابات. وهذه الانتخابات هي التي تحدد حجم وتمثيلية كل قوة سياسية في البلاد؛ وبالتالي، فهي التي تفرز، من جهة، الأغلبية التي ستسير الجماعة التربية (جماعة محلية أو مجلس جهة)؛ ومن جهة أخرى، الأغلبية البرلمانية التي ستنبثق عنها الحكومة. وبمعنى آخر، فالانتخابات هي التي تمنح الشرعية الديمقراطية للتنظيمات السياسية، بغض النظر عن طبيعتها وظروف نشأتها (انظر"التعددية الحزبية بالمغرب بين "خطيئة" النشأة و"شرعية" الواقع"). فلجوء الدولة، خلال ما يعرف بسنوات الجمر والرصاص وحتى بعدها، إلى فبركة الأحزاب (الأحزاب الإدارية، أقصد) لصنع تعددية حزبية مصطنعة (وحاليا، يراد فرض قطبية مصطنعة بين وجهين لعملة واحدة)، لم يثن ذلك الأحزاب الوطنية الديمقراطية والتقدمية عن نضالها الديمقراطي. ويحتاج الهامش الديمقراطي الذي تحقق في بلادنا بفضل هذه النضالات، إلى الدعم والتقوية من أجل تطويره وتحصينه ضد كل أشكال الإفساد، خدمة للمصالح العليا للوطن ولمصلحة المواطنين. ولن يتأتى ذلك إلا بالمشاركة المكثفة الواعية القادرة على التمييز بين البرامج الانتخابية الواقعية وبين الشعارات الفضفاضة والخطابات الديماغوجية المدغدغة للعواطف. اللهم إني قد بلغت. ولكم، معشر المقاطعين والمقاطعات المحتملين، إما عن موقف "سياسي" وإما عن لامبالاة بالشأن السياسي العام، واسع النظر في ما أوردته من حجج وأدله تصب في صالح المشاركة !!!